الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ليس مجرد تحذير للصامتين ازاء اجراءات المفوضية

التعود على قراءة الرأي الآخر، او الاستماع اليه، او مشاهدته وهو يدلي برأيٍ او موقفٍ او توصيفٍ مضادٍ لما ترى او تعتقد او تتصور، والتفاعل الايجابي مع ذلك، يتطلب التشرّب بثقافة وقيم الاختلاف، وحُسن الاصغاء، وإجادة فن النقد والنقد الذاتي، وأخيراً القدرة على التقاط المشتركات، وتَمَثُّل ما هو صحيحٌ ونافع، يُغني موضوع الجدل والحوار، ويؤصله.

وثقافة الحوار والاختلاف والتفاعل، هي ثمرة مستوى متقدم من التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي العام، وهي من علامات التحضر والانفتاح والنضوج. ولهذا يصعب تلمس انعكاسات هذه الثقافة في البلدان المتخلفة، أو تلك التي تعيش في ادنى سلالم التطور، او تحت كابوس الانظمة الشمولية المستدامة، عبر عقود، وفي مجرى تصفيات سياسية، وإفراغٍ للمجتمع من اي مظهرٍ للحرية والارادة الانسانية الخلاقة.

وفي العراق، توارثت الاجيال المنكوبة، منذ تشكّل الدولة العراقية الحديثة، وقبلها طبعاً في ظل الامبراطوريات المستبدة، كل اشكال القمع ومصادرة الرأي ومحاربة العقائد، باعتماد الوسائل والاساليب المنافية للكرامة الانسانية، من اعتقالٍ وسجنٍ وتعذيبٍ، وانتهاكٍ للحرمات. وكان من الممكن ان يجتاز المواطنون العراقيون الذين خٓبروا كل تلك الانتهاكات، قيم الدولة المستبدة واساليبها القمعية، لولا اعادة انتاجها واعتمادها من قبل الحكومة التي عَمَّرت ولايتين تتزاحمان بكل ما توارثته من النظام الدكتاتوري الساقط، وتعمل بكل الوسائل المنافية للدستور والقيم الاخلاقية، للمضي في ولاية ثالثة، وهي كفيلة اذا ما تحققت، ان تحيل العراق الى أثرٍ من الماضي.

ان الثقافة التي تشيعها عشيرة "ما ننطيها"، منذ تولت السلطة، هي مزيجٌ من قيم الرأسمالية الرثة، "المُتيّمة" بما توارثته من عصور العبودية والاقطاع والجهالة، التي تُبيحُ كل المحظورات وتجد لها ما يبررها في ديباجةٍ منزوعة عن الاسلام في سيرورة وتطور رسالته المحمدية. وهي ثقافة تجمع بين "الحساسية المذهبية ازاء الدولة"، التي تعتبرها "عدواً" او امراً اغتصبه الآخر المذهبي، وكان سبباً في مظلوميتها التاريخية، ونشوة الانتصار التاريخي الذي مكنّها من استعادة الحق المغتٓصَب، بالوثوب الى السلطة! لكنها وهي تُنهي المظلومية التاريخية بعد قرون، تعيد انتاج مظلومية أشد وقعاً على الطائفة المظلومة، وعموم الشعب، عبر استعادة هذا الحق.

ومن منطلق حساسيتها التاريخية ازاء الدولة، باعتبارها "مُغتَصِبَة"، تحِّلُ عداوتها، وتجنب التعامل معها، دون ان يبدو لبعض قادة الدولة، انهم الآن باتوا هم اولياء الامر، بعد ان اصبحوا على رأس الدولة، وبيدهم مقاليد السلطة السياسية، وإن"نهبها" و"اغتصاب" قرارها، وإرادتها، لم يعد حقاً "شرعياً"، ولم يعد كل ما فيها مُباحٌ، بحكم "توكيل" منحته لنفسها، بالنيابة عن "الطائفة" والامة المسلوبة الارادة، يجيز لها التصرف وهي في موقع المسؤولية العليا، كيفما تشاء، ولمن تشاء، دون خشية من مساءلة!

ان الفريق المتسلط على الدولة ومرافقها الحساسة، لم يعد يتوجس خشية من تحدي الرأي العام، في كل خطوة يتخذها، وفي مختلف المجالات الحيوية التي فصّل فيها الدستور، وحدد احكامها، رغم ما فيها من اوجه ومضامين "حمالة اوجه". وما قامت به المفوضية العليا للانتخابات من "اجتهاد" مُخلٍ، باعتماد ما تريد ان تصطفيه من معايير نظام ديمقراطي "متعثر"، باستبعاد مرشحين عن الانتخابات التشريعية، بسبب "سلوكٍ" غير مرضي عنه، من قبل ولي الامر بطبيعة الحال وليس غيره، فاق كل توقعٍ من احتمالات الالتفاف على القواعد الديمقراطية في ادارة العملية الانتخابية.ولم يعن للمفوضية المحترمة، ان الرأي واتخاذ المواقف، بغض النظر عن كونها تستهدف الحكومة او اي مسؤول في الدولة، حق يكفله الدستور لكل مواطن عراقي، وهذا الحق الدستوري، يتجاوز الضوابط الاعتيادية، حين يتعلق بالنائب المنتخب، وهو يمارس مسؤوليته ازاء ناخبيه، فيما يتعلق بمعالجة كل القضايا والظواهر التي يراها مخلة، حتى "ان أخطأ التقدير والاجتهاد" والواضح ان من استهدف ب"اجتثاث" المفوضية، أو رأت ابعاده من قوائم المرشحين، هم بالتحديد المعارضونبثبات لدولة القانون، و"دولة" رئيسها، وما انتهجه وسار عليه طوال ولايته الاخيرة وما قبلها.

واذا اخذنا بمعايير المفوضية، وما تنسبه لغيرها من السلطة القضائية، فيما يتعلق بأسباب الإبعاد والاجتثاث، فهل من اسباب موجبة، تستند كلها الى الدستور، اقوى من اقترافات رئيس السلطة التنفيذية، والتي كانت نتيجتها خرابٌ اقتصادي، وتعطيل للدستور، وانتهاك للحريات، وتجاوز على مواد الدستور التي تحرم زج الجيش في الصراع السياسي، وغض النظر عن نهب المال العام والفساد المستشري، ومواكب الضحايا والشهداء من القوات المسلحة والمواطنين الابرياء المساقين، دون تفويض برلماني، يشترطه الدستور، ولا يستثني حالة، أياً كانت، تسمح بتعطيل هذا التفويض..!؟

ان هذا الخرق الفاضح للمعايير الاولية لاجراء انتخابات ديمقراطية شبه حرة، يشكل اكثر من انذار للصامتين حتى الآن، ويهدد بتحول الانتخابات القادمة، الى اداة لتكريس سلطة الفرد المطلقة، ويسد الطريق على امكانية التطلع لانفراج بات الامل الوحيد التي يتشبث به كل عراقية وعراقي.

وبغض النظر عن الانتخابات ومآلها، فإن السابقة الجديدة "بتبريراتها" التي ساقتها المفوضية العليا للانتخابات، لابعاد المرشحين، ترسي الاسس الفاضحة، لتصفية اي مساحة للرأي تتعارض مع ما تراه السلطة والحزب و"القائد الضرورة". انها تكريس بقوة اللامنطق، واللاقانون، لثقافة الرأي الواحد، بعيداً عن ثقافة الحوار والتعدد والتنوع الثقافي والسياسي والعقائدي.

وبهذا المعنى.. فإن ما تبقى من فسحة الامل، مرشحٌ لأن يتحول الى خيبة ما بعدها سوى اليأس الممض..

وهذا ما لا ينبغي ان نسمح به..

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 04-03-2014     عدد القراء :  4704       عدد التعليقات : 0