الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الموت في زمن الفتنة وانزياح البهجة

محمد سعيد الصكار رحّالة في البحث عن الوطن ..!

بقي الصكار "ابو ريّا"، يقاوم اليأس ويتحامل على عكّازة احلامه، لعله يُفرغ بعضاً من شحنات حنينه الى ما تبعثر وتشكل من جديد على صورة غزاته المتلفعين بعباءة الايمان الموبوء بالكراهية للانسان وتشوفاته للحقيقة والجمال.

ولم يتوقف حنين محمد سعيد الصكار الى عراقٍ يسترجع تألقه، وتفيض منابع وروافد اشراقاته، بما يعيد له ما كان فيه من زهوٍ بابنائه، وانبهارٍ بمبدعيه ورواده، وتسامٍ بمعجزاتهم في نحتٍ معانٍ متجددة للقيم الانسانية: بالجمال، والحقيقة، والحرية، والعدالة،

وكل ما يجعل من الانسان نفسه، القيمة الاسمى في الحياة.

على مسافة اربعة عقود من الزمن المضيّع في متاهات الدكتاتورية والاستبداد، بفتنها وحروبها، بانكسارات العراقي في ظلها، وخمول الامل والمرتجى من خيط الضوء في آخر النفق المستدام، بفعل " تداول " عادة التسلط وانتزاع الارادات الحرة، وقسرها، ظل الصكار، ولو بالتخييل، يرنو بذهنه المتوقد، كشاعرٍ وكاتبٍ وخطاطٍ ورسامٍ، بكل ما تنطوي عليه صفاته كانسان خلّاقٍ، بالغ الحساسيّة، نحو فنارات وطنه، التي انطفأت مصابيحها، مذ صارت الدبابة مركب حكمٍ وسلطةٍ، لا تكتفي بشّل الارادة، وتطويعها، وانما تتجاسر، فتنتزع روح المواطن، وتفرد له كل ما من شأنه اعادة تكييفه وخلقه، ليصبح كما يريد المستبد، مجرد "حاضنة" لبريده اليومي من الشعارات والقيم الممحونة، بما فيها من رثاثة، أو وعاءٍ لخواء الروح، وصدىً لسواتر ارض الخراب والاطلال. وباءت احلام صباه التي استعاد شيئاً من الامل في القبض عليها ثانية، بعد ان فعلت الدبابة مرة أخرى، فعلتها، خارج سياقٍ من استنهاض الارادة الوطنية، التي ظلت مجرد اضغاث احلام، بسبب عتوٍّ قاهرٍ، وعقود من الاستبداد، لتمرر الدبابة الاميركية، هذه المرة ايضاً، خديعة اقامة نظام حر ديمقراطيٍ، محبوكٍ بخيوط التابوات الطائفية والمذهبية، وباعتماد ادوات وبيئة الاستبداد، واشباه الرجال.

لم يعد للصكار، ما يستعيد به حلم وطن ضاع منه، في نفس اللحظة التي قرر فيها الاغتراب عنه قسرياً، في المنافي البعيدة، سوى استنفار طاقة التخييل التي امتلك ناصيتها كشاعر فنان، اعتاد ان يعيد بناء الكلمة والمعنى، كصورة متوثبة بالحياة، فيسوح " ذهنياً " في ميناء البصرة وازقتها، ويلامس شناشيل ابنة الجلبي، ويصيخ السمع، وكأن الفضاء المفتوح على امتداده يردد صوت مجايله شاكر بدر السيّاب وهو يلقي: يا واهب اللؤلؤ والمحّار والردى.. فيرجع الصدى.. ياواهب المحّار والردى...

( 2 )

حاول اكثر من مرة ان يقترب من وطنه، ولو على مشارف حدود مفترَضَة، فخاب امله، ولم يحقق غير ان يكون ضيفاً " مياوماً " على اصدقاء في المنفى القريب من الوطن ايضاً. كان دائم البحث عن هويته، عبر سبيكة الوانه التي كانت تتحول، كيفما حرك اصابعه، قبل ان تذبل عروق الدم فيها، الى تشكيلٍ لا يفارقه نبض الحنين الى منابته الاولى.. مولده.. اكتشاف ذاته بوصفه انساناً يجد نفسه في كل ما حوله من أناسٍ وتوقٍ وتداعيات، خطوطه الاولى.. ابياته وقصائده.. رسومه التي تعثّر ببداياتها اللونية وهو يجرّب الخط العربي، ويثابر لكي يُضفي على حروفها، هويته الحداثية المستمدة من التراث، والمبنيّة على قواعد مؤسسيها الاوائل..

مقالاته التي حاول من خلالها، وهو تلميذ لم تعركه دروب الحياة العملية بعد، ان يخوض الصراع مكابراً، متمرداً، متحدياً، قبل ان ينتمي، ويصبح هائماً في دروب الكفاح من اجل، وطن حر وشعب سعيد. فلا يتعثر طوال حياته، بغير وطنٍ مستباحٍ، وشعبٍ يلفّ مستقبله الغموض، ولا يجد ما يتوسد عليه، سوى الخيبة، وبقايا من امل مؤجل..

( 3 )

قال بعد عشرة سنوات على زيارته الاولى الى بغداد والبصرة، وكأنه يحتج على غفلته: أصحيح ان البصرة ليس في احياء كثيرة منها، ماء صالح للشرب..!؟

لم يستعجل الوطن الذي عاد اليه، بمطالب رأى فيها ما يُشبه التعجيز او العقاب قبل البيّنة على التقصير. كان مبهوراً بفكرة ولادة الحرية وقيامة دولة قد تصبح فناراً يضيء سماء اوطانٍ طالما، رأت شعوبها في العراق مثلاً ونموذجاً لتوقد الوطنية، وتوثباً في مسارات التحدى لنيل الحقوق والحريات الديمقراطية..

في زيارته الاولى الى بغداد عام 2003 في اعقاب سقوط الطاغية السابق، لم يلتقط الصكار بدايات تكّون الهوية " الملفقة " للعراق الجديد، ولا بانت له " الشخصية العراقية " بعد ان اعادت تركيب قناعها الجديد، فالتحت، وتحجبت، وتستر قادتها الجدد بلبوس التقوى والضغينة والتقيّة. يومها لم تكن اللوحة السياسية، قد توضحت بعد، ولم تظهر للعيان ملامح الرجز الطائفي، ولا القتل على الهوية، ولم تكن " السبابة " قد اصبحت نذير فتنة، وعلامة غلوٍ وتعدٍ في يد الحاكم الفرد، المهووس بالسلطة، لا تغادر

صوره، التي حولها الملوثون بالفتنة الطائفية، ونهازوا السلطة، وآكلوا فضلات موائد الحكام، الى ايقونتهم، وفي كل صورة يبدو وهو يلوح بسبابته في كل اتجاه دون ان يعرف الرائي، ما اذا كان ب"اصبعه "، يأمر، او يتوعد ويهدد، أويطالب بالثأر، بعد ان صار "ولي الدم"، وصارت وليمة الدم بالدم، شعاره السياسي المحتقن بالطمع والبغضاء، ولافتة انتخابية، قد تصبح مستهلكة، مع اول ظهور لفتنة مغرية جديدة تلوح في مدارج الحملة الانتخابية المأخوذة منذ البداية بشبهة العبث والفساد.

كان من الصعب عليه، ان يُصدِق ان فرصة تاريخية، لا سابقة لها في مرحلة نشوء الدول خارج الامبراطوريات، والامم والقوميات في الفضاء المفتوح على الانعتاق والحرية والمواطنة والحقوق المصانة، واكتشاف الذات المستلبة، ستضيع هذه المرة ايضاً، في شباك المحتل الممسوس بالغباء، وطواحين أمراء الطوائف والملل العائدين من كهوف الماضي المشدود لتقاليد الجاهلية ومضافات التطرف والتقاليد البالية.

شعر بكآبة وحزنٍ طاغيين، وانا انقل له، في زيارة أخيرة الى باريس، غدر الحاكم، الذي عبث بثقتنا، وادار ظهره لكل امانينا وما بنينا من هياكل لمستقبلٍ يتحرك في دروب التقدم والتطور الحضاري، واعاد تشكيل قسمات مستبدٍ، يتوهم قدرته على تكرار التاريخ، دون ان يدري، بانه قد يتكرر، ولكن ك "مسخرة او ملهاة"!

لدقائق، كأنها، كابوس، ظل الصكار مطرقاً، يلملم احزانه الدفينة، المنبعثة من تاريخ جيلٍ لم يشهد غير الخيبة واللا جدوى، ولكان مصيره الانسحاب الى كهوفه الذاتية ليستعين بها على خيباته، لو انه لم يستدرك ويشحذ ايمانه فيقنع نفسه بان حياة جيلٍ واحدٍ، ليست سوى ومضة أو رفة جفن في سديم الزمن، بمقاييس انسان لم يتعرف على كينونته بعد..!

بعد ان تجاوز اطراقته، سألني الصكار، بين مازح وجاد: هل ما قلته، يعني ان علي ان اطوي لآخر مرة ما ظل يعتمل في القلب من تشوف للعيش في وطنٍ ولو كان يبدو في منحدر فوق حافة بركان... أتخيّب أملي، وتتخلى انت ايضاً عن وعدٍ بكفالة حياتي خارج المنفى الجميل..!؟

( 4 )

التقيته اول مرة في بغداد في وقت ما من عام الصعود الى الاماني المخبوءة، في 1959 بعد ثورة 14 تموز ، في اتحاد الادباء العراقيين، وكنت يومها يافعاً، وضّاءاً بالامال التي لا تحدها حدود، ولا تنال من عزيمتها واندفاعها لبلوغ شاطئها، كل ما في وسائل الردع والبطش من قوة على تبديد "التمكين" والثقة بالمستقبل. في تلك السنة وما اعقبها، اندفعت الجموع، لتملأ المشهد العراقي على امتداد ارضه، وتعدد مكوناته وطيفه الوطني، باللوحة الزاهية لعراقٍ يتكون، وشعبٍ يدرك بوعيه ما يريد، وما عليه ان يضحي به في سبيل ما يريد..

جمعتنا صداقة، لم تكتمل ضفافها، وكان التلاقي بيننا وليد المصادفات، وما يفرضه الواقع السياسي المتغّير. ولم تصبح العلاقة رابطة مودة، ثم تعارف يتجدد، لينتهي الى صداقة من صداقات ذاك الزمن الجميل، الا في اللحظة التي اختارها ليتغرب في المنافي القسرية.

في بيته الكائن في المسبح، قال لي وانا أودعه امام البيت ضاحكاً، هل استلف منك عشرة دنانير، اجدد بها صداقتنا كلما اشتقت اليك ..؟

بعد سنوات صار يذكرني كلما تسنى لنا لقاء، بالدنانير العشرة التي استلفها مني قبل غيبته الصغرى، موليّاً شطره نحو باريس، ويعرض تسوية لها بالدنانير الجديدة التي لم يبق في قيمتها غير الورق البالي، مقترحاً بسخرية، " وأضيف عليها فوائد مركّبة " !

واذ تنتهي المساومة الى ابقاء السلفة، انتظارا لعراقٍ يصبح ديناره ذهباً، لا ورقاً تتقاذفه وتتداوله ايادي الفساد وغسيل الاموال،

نتساءل معاً، متقاطعيَن: ايكون مصير العراق، ديناراً، ورقاً، تذروه مطامع امراء الفتنة وكرسي الحكم، في شباك المتربصين به من كل صوب ..؟

( 5 )

بات السؤال الاثير عند الصكار، كلما هاتفني او كتب لي: متى ستكتب نعيي لاطلع عليه، واتعرف على مكنون مشاعرك نحو صديق من الزمن الذي صرت تسميه بزمن التوهج والانطفاء، ايكون موتي، جدول توهج وعبور، ام لحظة اخرى تورخ للانطفاء..؟

اجيبه دائماً: مت انت وستقرأ في ما يشبه الحلم، ما سأكتبه عن كلينا، حيٌ ميت بفعل الغدر، وميت حيٌ ينتظر الانبعاث..!

( 6 )

ابلغني وثاب، ان محمد سعيد الصكار مات تواً في بيت السكينة لكبار السن في باريس، وقد اراد ان يدفن في العراق، وهم في سبيل تأمين ذلك، ولا بد من استقباله في بغداد ليشيع الى مثواه الاخير بما يليق به من حشدٍ وتكريم...

سألته بمنتهى السذاجة بعد خمسة وخمسين عاماً من التشارك في القيم والافكار والصداقة الحميمة:

هل هو سنيٌ ام شيعي..!؟

  كتب بتأريخ :  الإثنين 24-03-2014     عدد القراء :  5079       عدد التعليقات : 0