الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
«أصيلة» الثقافية عابرة العصبيات

ختم مهرجان «أصيلة» السادس والثلاثون، بمدينة أصيلة المغربية، نشاطاته الثقافية والفنية لهذا العام في 22 أغسطس 2014.

اعتمدت إدامة المهرجان على أدائه الثقافي، ونظافته من عقيدة أو اتجاه محدد، وبلا شك يعتمد أكثر على سياسة بلاد المغرب العامة التي تنتعش في ظلها الثقافة والفكر، ويجري خلاله التعارف والتواصل بين الثقافات.

استمرت أصيلة كل هذا الزمن تحتضن الأحياء والأموات من المثقفين، وصار للأخيرين حدائقَ بأسمائهم، إلى جانب المحافظة على هوية البلدة التراثية، منازلها وأزقتها وأسواقها، بعد أن كانت في القرون الخوالي خراباً.

تشرف أصيلة على المحيط الأطلسي، وهذا الموقع يمنحها ميزة الانفتاح على المدى البعيد، فهي تقع على نهايات شواطئ شمال أفريقيا المتقابلة مع شواطئ أوروبا، حيث مركز بلاد الأندلس قديماً.

قال ياقوت الحموي (ت 626هـ): «ربما من أعمال طُليطلة»، وسماها «أَصيل»، ينتسب إليها المحدث أبو محمد عبدالله بن إبراهيم الأصيلي (ت 390هـ)، إلا أن الحموي يعود ويُذكرها باسمها: «مدينة أصيلة أول مدينة العدوة، مما يلي الغرب، وهي في سهلة من الأرض حولها رواب لطافٌ، والبحر بغربها وجنوبها، وكان عليها سور، ولها خمسة أبواب، فإذا ارتج البحر بلغ الموج حائط الجامع، وسوقها حافلة يوم الجمعة، وماء آبار المدينة شروب، وبخارجها آبار عذبة، وهي الآن خراب، وهي بغربي طنجة بينهما مرحلة» (معجم البلدان).

أقدم من هذا، يأتي أبو الحسن المسعودي (ت 346هـ) بروايتين طريفتين، تتعلقان بوجود حام بن نوح هناك: «مضى على وجهه يؤم المغرب حتى انتهى إلى السوس الأقصى، إلى موضع يُعرف اليوم بأصيلا، وهو آخر مرسى تبلغه مراكب البحر من نحو الأندلس إلى ناحية القِبلة، وليس بعده للمراكب مذهب» (أخبار الزمان)، ثم يجعل قبر حام في تربتها، قال: « ولما مات حام خرج بعضهم مِن ذلك الموضع فأقاموا بمكان البربر، وكان عمر حام أربعمائة سنة وإحدى وأربعين سنة، ولما مات دفنه بنوه في صخرة منقوبة في جبل أصيلا» (المصدر نفسه).

عندما ذكرتُ ذلك في مداخلتي ترك البعض طرافة القصة، ودلالتها على قِدم أصيلة أن يذكرها مؤرخ عاش في القرن الرابع الهجري، وأخذ يعرض على عدم مصداقية المسعودي، وكأن ما وردنا في كتب التاريخ مصادق عليه كافة.

فما نأخذه من المختلف عليه هو عصر الراوي نفسه، وهذا لا شك فيه.

مَن تحدث معي طلب تحقيق الرواية، وبغفلة ظن أننا قادرون على تأكيد رفات حام في صخرة مِن صخور أصيلة!

كنتُ أتيتُ بهذه الرواية في المداخلة لغرض، وهو ما يرتبط بشخصية حام نفسه، وما ورد في «العهد القديم» عن تبرير العبودية باسمه، والتي ظلت حتى القرن 19 مشروعة بالقارات كافة، بما فيها أفريقيا، على أنه نظرَ إلى عورة أبيه وقام أخواه سام ويافث بتغطية أبيهما، فغضب الأب وسمع الله دعاءه، أن تكون ذريته عبيداً لذرية أخويه.

كان موضوع الندوة، وهي آخر ندوات «أصيلة» لهذا العام: «العرب غداً»! قلت: هذه الحكاية مثلا دخلتنا من التاريخ والدين أيضاً، وظلت تعطي ثمرتها حتى يومنا هذا، في التمييز على اللون، وبُررت العنصرية بسببها! فكم حكاية مازلنا نعيشها، وهي وهم من الأوهام، نستخدمها في معاركنا الدينية والطائفية، لذا أرى «العرب غداً» يعتمد في جزء منه على قراءة التاريخ والدين، وأن دراستهما مع الفرقة الطائفية، خصوصاً بالبلدان المختلطة، يعني أننا بلا غد مُشرق، فالآن نجني ثمارها، بعد أن تُرجمت إلى دماء.

لهذا لابد من إيجاد منهج دراسي لمادتي التاريخ والدين، يؤسس أجيالا يجمعها الوطن الواحد، وإلا لا داعي لتعليم هاتين المادتين لتلاميذ من طوائف مختلفة.

ستقولون أليست الدول المتقدمة تُعلم التاريخ؟ أقول: يعتمد هذا على كيفية تقديم المادة في المنهج، ونحن أمة نعيش في غياهب الماضي، عندما نشاهد مسلسلا تاريخياً نترجمه على أرض الواقع، ومن دقق في ملابس وحركات وصفات أمراء ومقاتلي «داعش» سيتذكر أي مسلسل تاريخي قد شاهده.

في قراءة التاريخ لغير المتخصصين نعتبر، في جزء منه، بما قاله معروف الرصافي (ت 1945)، وبهذا أُطمئن المعترض على مصداقية المسعودي أو غيره: «أبت كتب التَّاريخ للحقِ مُلتقى/ فبينهما مِن زخرف القول مُوبقُ/ فإن شرّقت في الحقِ فهو مغربُ/ وإن غربتَ في الحقِ فهو مشرقُ/ فإن ذكروا النُّعمان يوماً فلا تثق/ بأكثرِ مما قال عنه الخورنقُ» (الأعمال الشعرية الكاملة).قصد الشاعر شهادة الأثر المادي حيث القصر الشهير بالحيرة.

لكنَّ ذلك لا يعني أن ما حُفظ في الصدور ونُقل عنها غير صادق بالكامل، وبما أنه لم يُعثر على الصخرة التي نُقبت لدفن حام فيبقى كلام المسعودي مثلما وصفه ابن خلدون (ت 808هـ) في مستهل مقدمته «المغالط في الحكايات»، وابن خلدون هو الآخر وقع في الفخ ونقل، في ما اسماه «الكتاب الثاني» (التاريخ) ما روي مِن تلك المغالط.

كنت أتحدث مع المرتاب مِن المسعودي آخذاً بنظر الاعتبار أن ابن خلدون عنده لا يُمس لأنه مغاربي، أما المسعودي فمشارقي وأظهرتُ تعصبي له، وكنا هازلين لا جادين.

كانت ندوة ساخنة، لولا حرفها عن الثقافة قليلا إلى السياسة -في كلمات البعض- فنحن أتينا من بلدان متورطة في ربيعها وخريفها، ومشكلها الطائفي السياسي، فشعرت بذلك خدشاً في «أصيلة» المهرجان، الذي يُراد له البقاء منطقة حرة للفن والثقافة، وقد طغت الكلمات المنفعلة على الفن البحريني، التشكيلي والغنائي، وكانت البحرين ضيف الشرف لهذا العام.

فبعد الانتهاء من مشاهدة لوحات الفنانين البحارنة، ذات العمق الفني، أخبرتني أسماء الفنانين أن الفن يعبر الطائفية، ولا تناسبه بحال من الأحوال.

راقبت ختام المهرجان، وكان عميد أصيلة ومهرجانها محمد بن عيسى، ينادي على المكرمين من أهالي المدينة: أفضل الأُمهات، أفضل الأطفال، أفضل الرياضيين، أفضل الروائيين الشباب والشابات، أفضل القراء، أفضل البنائين، أفضل الصيادين، أنظف الأزقة..

لهذا العام، قلت بغبطة يشوبها الحزن: لو تتفرع أصيلة إلى أصيلات، فكم من محلة تاريخية وتراثية عراقية تكون أصيلة، وهكذا تمنى غيري لبلدانهم الغارقة في التناحر.

إنها تجربة عابرة للعصبيات، عسى ألا تخدشها السياسة، مع أن الاختلاف كان رحمة في حواراتها.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 22-09-2014     عدد القراء :  3723       عدد التعليقات : 0