الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مُذكرات حزينة على هامش دفتر الوطن.

   غيمات السود

     مدينة المأمون الأولى (بغداد جانب الكرخ) كانت تحتوي على (120) داراً تم بناؤها في الزمن الملكي ووُزعت بالقرعة على صِغار الموظفين وبأقساط مُريحة على مدى 20 عاماً

   كان والدي الراحل أحد هؤلاء المحظوظين بالقرعة، من الذين أحسوا بالطمأنينة والأمان والإستقرار العائلي بسبب إمتلاكهم داراً لعوائلهم ولأول مرة في حياتهم، إذ ليس هناك ما هو أثمن بالنسبة لرب العائلة من أن يكون له بيتٌ يضمن له بعض أسباب سعادة عائلته وأطفاله

   كانت مدينة المأمون تتألف من (12) محلة بُنيت كل محلة على شكل نصف قوس وتحوي (12) بيتاً. وكان يحد المأمون  يميناً شارع مبلط وخاص يؤدي إلى الإتصال بكل الشوارع الفرعية النصف دائرية، وتتصل به وعبره كل البيوت، ومن جهة اليسار - خلفية المدينة- فكان يقع شارع أبو غريب الشهير، والذي على جانبه الآخر بُنيت مدينة المأمون الثانية بعد فترة زمنية قصيرة

   كانت كل محلة قد تم صبغ بيوتها بلون مُختلف عن بقية المحلات، مثل الأزرق الفاتح والبُني والرمادي والرصاصي والأصفر الفاتح  الخ، أما لون بيوت محلتنا فكان الوردي الفاتح، وكانت كل تلك الألوان منتقاة بذوق جديد لم تعهده الذائقة العراقية الشعبية التي لم تكن الألوان الجذابة الحلوة تعني لها الشيئ الكثير، بل كان الناس في غالبيتهم يخجلون من إختيار الألوان الجذابة حتى في ملابسهم!!، حيث كانوا يختارون أما الأسود أو الأبيض أو الرصاصي الغامق، وعلى سبيل المثال ... كان الشاب الذي يلبس ثياباً بألوان زاهية جميلة يُتَهَم بالميوعة والتخنث!!!!!!!، حتى لو كان إبن عبدِكة أو أبو الهوب

    وكان قد تم ترقيم البيوت حسب موقعها، من الرقم (1) وإلى الرقم (120)، أما بيتنا فكان يحمل يومذاك الرقم (77)، ولا زلتُ لحد اليوم أختار هذا الرقم في كل مناسبة أو أمر يستدعي مني إختيار رقم ما، فهو رقم السعد والحظ والتفاؤل والمسرة والسعادة بالنسبة لي، رغم كوني لستُ من ضمن الناس الذين يتشائمون ويتفائلون

    Superstitious

   تشاء الصدف أن يسكن البيوت ال  12 لمحلتنا، المُسلم -السني والشيعي- والمسيحي والصابئي، العربي والكردي والكلداني والتركماني، وسياسياً.. الشيوعي والبعثي والقومي والمُحايد.. وفيما بعد ظهر من يدعي الإنتساب لما يُسمى بحركة ألأخوان المسلمين!!. كل هذا التنوع العشوائي كان محض صدفة غير مقصودة وفريدة جداً مقارنةً مع بقية المحلات الأخرى لمدينة المأمون الأولى، ولهذا كُنا نطلق على محلتنا تسمية (العراق الصغير)!!، طبعاً عراق أيام زمان، عراق الخير

   من الجهة الثانية لشارع مدينتنا كانت تقع مدينة المنصور الشهيرة والكبيرة المساحة، وعلى أرضها كان يُقابل بيتنا وعلى بعد مسافة ميل أو أكثر نادي سباق الخيل الشهير (الرايسز)، والذي سُمِيَ فيما بعد بنادي الصيد العراقي!. كذلك كان يُقابل محلتنا من جهة المنصور أيضاً (شارع الأميرات) الشهير الذي كانت تُظلله عشرات من أشجار الكاليبتوس والأثل العملاقة، وكُنا نُسميه (شارع العشاق) أو (شارع الضباب) حيث كان هناك دائماً عُشاق يقطعونه للنزهة اليومية وفي أغلب الأوقات وبدون حرج

   كانت يفصل مدينة المامون عن مدينة المنصور تُرعة او ساقية للماء بعرض أربعة أو خمسة أمتار (ترعة الملك فيصل) والتي اُقيمت في زمنٍ مضى على مرتفع أو سدة تُرابية أعلى من مستوى أرضية شارع مدينتنا، وكان يصل إرتفاعها إلى متر أو مترين عن مستوى سطح الأرض المحيطة بها، وكانت تلك الساقية تبدأ مشوارها من ضِفاف نهر دجلة في بساتين مدينة الحارثية حيثُ كانت تستقي مياهها، وتنتهي حيث تصب مياهها في مزارع  وبساتين منطقة (أبو غريب) على مبعدة عشرات أميال من مدينة المأمون

   كانت تقع على جانِبَي تلك الساقية أشجار التوت ( التُكي )، أشجار ضخمة كبيرة وارفة الظِلال تُكثر بين أغصانها أعشاش الطيور المتنوعة وخاصةً عصافير الدوري، كذلك كانت على جوانب الساقية أشجار ( السيسبان ) الجميلة ونوعٌ آخر من الأشجار التي لم أعد أذكر أسمها اليوم

   بدأت صداقتنا الطفولية مع الساقية وأشجارها وطيورها وضفادعها منذُ اليوم الأول لإمتلاكِنا تلك الدور الجديدة التي صبغت حياتنا وأيامنا بألوان قوس قزح وجعلتنا نتنفس سعادة وحياة جديدة المذاق لم نكن نعرف طعمها قبل تأريخنا مع مدينة المأمون الأولى. وبمرور الأيام أصبحت أشجار ( التُكي-التوت ) العملاقة بمقام أُمهاتنا، والساقية الصغيرة التي طالما صخبنا ومرحنا وسبحنا في مائها أضحت مرتع طفولتنا وصِبانا ومُراهقتنا، بالضبط كجبل (التوباد) الذي تتكلم عنه القصيدة العربية لأحمد شوقي، والتي لحنها وغناها الراحل الكبير المطرب محمد عبد الوهاب

   جبل التوبادِ حياكَ الحيا

   وسقى الله صِبانا ورعا

   فيكَ ناغينا الهوى في مهدِهِ

   ورضعناهُ فكنتَ المُرضِعا

   كانت قد تولدت بيننا وبين تلك الساقية وأشجارها علاقة أكبر من الحب، كانت نوعاً متيناً جداً من الإحتياج والراحة النفسية التي لم تكن تستطيع توفيرها حتى اُمهاتنا!!، حيث كُنا نلجأ للساقية وأشجارها كلما كانت تتلبس طفولتنا الأزمات االنفسية التي يُعاني منها أي طفل في المجتمع الشرقي، لهذا كُنا نقوم بالإعتناء اللازم بهذه الأشجار الكبيرة، من ( تزبير ) لأغصانها وفروعها إلى قطع الأجزاء الميتة منها، إلى تنظيف قاع الساقية من مخلفات الطمى والشوائب الأخرى الكثيرة وذلك في الأيام التي لا يتم فيها ضخ الماء عبر تلك الساقية لأسباب لم نسأل عنها ولا تهمنا تفاصيلها ما دام الماء سيتدفق عِبرها في اليوم التالي

   كان أغلب سُكان مدينة المأمون يمدون خراطيم المياه المطاطية السوداء ( الصوندات ) من الساقية وإلى بيوتهم لتزويد حدائقهم بالماء ( الخابط ) والذي هو أصلح بكثير لأشجار ومزروعات حدائقهم من الماء الصافي، إضافة إلى أنه كان يوفر لهم -شهرياً- بضعة دنانير تحتاجها العائلة

   في العصاري الحارة اللاهفة كُنا نرش بالماء ما حول تلك الساقية من أرض،  والتي كُنا قد عملنا منها مُدرجات مُنظمة زرعناها بالحشائش (الثَيَل) وسميناها ( كهوة الطرف ) أو ( كهوة العزاوي ) تيمناً بالأغنية البغدادية التُراثية اللذيذة (يا كهوتك عزاوي… بيهة لمدلل زعلان). وكان بعض كِبار السن من أهالينا يجلبون من بيوتهم كُراسيهم المفضلة أو ( البارية ) أو ( الحصير ) أو ( الجودَلِية ) أو حتى ( التختة ) ليفترشوا بعضها قرب الماء الذي ينساب برقتهِ المعهودة على مقربة منهم، كانوا يتسامرون ويُناقشون أمور الحياة والمجتمع والسياسة بينما قشور الحَب والكرزات ( النقل ) تتطاير من أفواههم، والنساء ينقلن من البيوت ( قواري الجاي ) و ( لفات ) الجبن مع الكعك والبقصم وما تبقى من كليجة العيد، بينما الأطفال والصبيان من الجنسين يتلاعبون ويتصايحون بفرح حقيقي وهم يأكلون كل ما تصل له أيديهم من ثمار (التُكي - التوت) اللذيذ بأحمره الحامض وأبيضه الذي كان أشد حلاوةً من العسل، حيث كان يصل حجم بعضه لحجم التمرة العراقية أحياناً، وكان ذلك التوت يتساقط تلقائياً من أشجاره بعد نضوجه، ويجري مع إنسياب ماء الساقية، وحين يمر بِنا نلتقطه بواسطة ما يشبه المصفاة المُشبكة والتي كُنا نُسمرها في نهاية خشبة طويلة لا يفلت منها شيئ

   كان أطفال محلتنا والمحلات الأخرى قد ترعرعوا مع طيور وضفادع وأشجار الساقية، لِذا كانوا يبتنون بيوت خشبية صغيرة بين أغصان تلك الأشجار، مُزاحمين الطيور والعصافير في الفيئ والظِلال والأمان، وكانوا ينصبون أراجيحهم لتتدلى من فروع تلك الأشجار العملاقة، وكان بعض المُراهقين في محلتنا يحفرون بالسكاكين الصغيرة (الجاقوجة) أسماء َحبيباتهم فوق جذوع تلك الأشجار (( قمر وسرور وهند وكوثر ومريم ولمياء وسهى وفاتن وبلقيس ))، وكان الشبان يُنظِمون شعراً تحت أفياء تلك الأشجار، ولطالما شَهَدَت تلك الأفياء مطارداتهم الشعرية الجميلة التي ساعدت بعضنا على أن يكونوا شعراء وكُتاب المستقبل

   في بداية الستينات ولا أذكر بالتحديد في أي سنة، سمِعَ أهالي مدينة المأمون إشاعة ثقيلة الدم ومُعَكِرة للمزاج تقول بأن السلطات المسؤولة ستقوم بإلغاء ( تُرعة الملك فيصل ) هذه وقطع أشجارها من جذورها !!!!، ولكن … لم يُصدق الناس ذلك الخبر المزعج حد الكابوس، فالحِكمة والعقل والمنطق يقولون دائماً ( إزرع ولا تقطع )!!، ثم .. هل هناك أي أبله في طول العراق وعرضه يقوم بإلغاء ساقية ماء تمد أراضي الدولة والناس بأطنان وأطنان الماء كل يوم ولمسافات بعيدة لتروي أراضي وبساتين زراعية تمد المواطنين بكل ما هو خير من مزروعات وثمار وخيرات !!!؟.. وكيف نُصدق بأن أي مسؤول مهما بلغت درجة غبائه وحماقته سيقوم بتدمير أشجار رائعة ربما يصل عمر بعضها لعشرات السنين!!؟. ولا بد أن كل ذلك إشاعة لئيمة مُغرضة للنيل من سعادة مواطنين أبرياء من أمثالِنا

   لكِننا فوجِئنا بعد عدة أسابيع بإنقطاع الماء عن ساقيتنا الحبيبة لمدة عشرة أيام أو أسبوعين لم نحصل خلالها حتى على خبر واحد عن ما يحدث في الخفاء من أمور يُفترض بنا أن نعرفها على أقل تقدير

   ثم جاء اليوم الأسود الذي أصبح فيما بعد كابوساً لا زال -ولحد اليوم- يُخدشُ مشاعر وذكريات الكثير من المواطنين وأنا منهم!. وبدون سابق إنذار تقدمت عدة ( بلدوزرات ) ومكائن أخرى لم نكن نعرف لها إسماً، لتسوية تُراب  ومُرتفع الساقية وجعله بمستوى أرضية الشارع !!، وكان يُصاحب هذه المكائن العملاقة عشرات العمال الإختصاصيين الذين راحوا يقطعون أشجارنا الحبيبة من جذورها وكأنهم يقطعون أعناق أُمهاتنا وأخواتنا وحبيباتنا

   خرج سُكان مدينة المأمون عن بُكرة أبيهم والعجب والدهشة تعقد السنتهم وهم غير مُصدقين ما تراه أعينهم من قسوة وبشاعة ولا تحضر وغباء !، وخلال دقائق بدأوا يَعون المشهد أمامهم، وبدأت عدة أصوات مُتذمرة ولعَنات وشتائم ثقيلة ترتفع من هنا وهناك، ومن بين الجموع قذف أحد الصبية بحصاة من (مصيادته) اليدوية لتُصيب سائق (البلدوزر) البريء الذي صرخ بألم والدم يتدفق من جبهته!، تلا ذلك تدافع وإشتباكات صغيرة بالأيدي بين رجال مدينتنا وبعض العمال، وعبثاً حاول ( الفورمن ) المسؤول تهدأة الناس وإقناعهم بأنه وشغيلته إنما يؤدون واجبهم فقط، وأنهم غير مسؤولين عما يحدث من إنتهاكات بالنسبة لسكان مدينة المأمون عن طريق إلغاء الساقية والأشجار!!، ولكن .. الناس كانت على قدر كبير من الهياج والإحتجاج مما دعى ( الفورمن ) لإعطاء أوامره لشغيلته للتوقف عن العمل -بعد إتصالهِ بالمهندس المسؤول- ولو بصورة وقتية وتلافياً لما هو أعظم وأخطر من مشاكل مُحتملة بين الناس والشغيلة

   بعدها … وخِلال أقل من ساعة إمتلأ المكان برجال الشرطة والأمن وجميعهم يحملون ( الدونكيات ) السوداء مع أسحلة أخرى خفيفة!!!، كان يترأسهم ضابط شرطة طويل القامة، ضخم الجسد، مترهل، كبير العجيزة !!، ذا وجه عبوس متجهم يُنبيء بالشر، كث الشاربين، ويحمل فوق جبهته آثار جرح كبير قديم، بإختصار ... كانت هيئتهِ وكأنها تصرخ بِنا: ( أنا إبن جَلا وطلاع الثنايا … )؟

   راحَ ذلك الضابط يُكلم الناس بلهجة هادئة لكنها آمرة ومتعجرفة تشوبها لمحة إستهانة، بينما (الدونكي) يتأرجح بتعمد مع حركة يده وأصابعهِ المُشهَرَة أمام وجوه الناس بكل تحدي وسفاهة

   ـ هذا قرار حكومي، الساجية هذي لازم تنشال والأشجار لازم تنكطع، واللي ما يعجبوا خلوا يطك راسوا بالحايط

   كل شيئ فيهِ كان يقول لنا من هو، وماذا يحمل لنا من شر، سحنته .. رعونته .. ولكنته

   تسائل رجل مُسن من بين الجموع :

   ـ  بس إبني … شلون يصير ساجية (ساقية) خير وبركة تِسكي (تسقي) البساتين والمزارع إتشيلوهة هيَ وأشجارها إبجرة قلم وبقرار مستعجل وما مدروس !؟، يعني حتى الله ما يقبل إبهل تدمير للخير!!، هي الحكومة جاي إتعمر لو إتخَرُب!!.

   أجابه الضابط بكل عنجهية وتعالي ونبرة صوته تزداد حدةً وخشونةً وسخريةً:

   ـ  عَجَل يبين حضرة جنابك يريد يتدخل إبشغل الحكومة هل مرة !!؟، يعني تالي زمان .. شعيط ومعيط وشداد الخيط صارولي أوادم وكامَوا يتفلسفون إبراسي!!؟

   زأر شاب مربوع القامة كان يقف في الصفوف الخلفية :

   ـ إعرف أوادمك لك، ولك شعيط ومعيط وشداد الخيط يشرفوك ويشرفون عشيرتك وحكومتك يا مطي.

   صرخ الضابط وقد فقد هدوءه وأعصابه وبدت للعيان مخالبه وأنيابه وكراهيته :

   ـ إنجب يا خائن يا متآمر يا عميل، والعظيم لا أنعل أسلاف أسلافكم ولسابع ظهر

   كانت ( أُم باسم )  -وهي إمرأة صائبية معروفة بحكمتِها وقوة شكيمتِها وحبها للشعر الشعبي والأهازيج- تقف تماماً قُدامَ الضابط، فلم يكن منها إلا أن صرخت في وجهه وهي تهزج: ((هلهولة للطايح حظة .. هلهولة للطايح حظة .. هلهولة للطايح حظة)) !!، وبلمح البصر شاركها كل من كان في داخل المشهد من ناس، وعَلَت أصواتهم في شبه هدير صاخب مصحوباً باللعنات والسباب الشعبي المُقذع، وراحت الحجارة تنهال من هنا وهناك فوق رأس الضابط ومن كان قريباً منه من رجال الشرطة!!، تحرك الضابط بسرعة إلى الخلف وهو يأمر شرطته بالهجوم على الناس الذين فروا بسرعة خاطفة ليدخلوا بيوتهم ويغلقوا الأبواب خلفهم، وكان غالبيتهم يتضاحك ويسخر من الضابط وشرطته بعد أن نالوا منهم ما إستطاعوا نيله كأضعف الإيمان!!!؟

   إستمرت عملية هدم وتدمير وإزالة الساقية وقطع أشجارها عدة أيام، وليس بإمكاني اليوم التعبير عن المشاعر والأحاسيس السلبية المريرة التي صاحبت سُكان مدينة المأمون خِلال تلك الأيام التي فقدنا فيها أشياء حبيبة كانت تعني بالنسبة لنا أكثر مما كان يعنيه فقدان أحد أفراد العائلة. وفي اليوم الأخير وقفنا بصمت وخشوع وقلوب مكسورة متداعية لمرة أخرى وأخيرة ونحنُ نشاهد آخر ( البلدوزرات ) وهي تختفي في الأفق الغربي لتواصل عملها في تدمير تلك الترعة إلى نهاية الخط في أبو غريب، ولِتُريحنا من صوتها العدائي اللجوج ومعناها الرمزي الذي لا زال لحد اليوم يعني لي الدمار والفوضى كلما رأيتُ أحدى تلك البلدوزرات التي تم صُنعها أساساً للتعمير وليس للتدمير !!، ولكن .. في شرقنا المسكين دائماً يتم إستعمال الحضارة لأغراض من تُخلق لإجلها

   كانت مدينة المأمون في ذلك اليوم الصيفي الكئيب تبدو كئيبة، حزينة، واهنة، شاحبة، مُترَبة، لا حول لها ولا قوة، كشمشون الجبار بعد أن فقد شعره، أو كأشجار الخريف بعد تساقط أوراقها

   عِدة نسوة كُنَ قد إجتمعنَ -كعادتهن- لشرب الشاي مع والدتي في حديقة دارنا عصر ذلك اليوم الكئيب، وكانت ( أُم باسم ) تجلسُ بينهنَ مُكفهرة الوجه، قلقة الملامح، مشوشة النظرات، كانت تُحدق في الأفق البعيد وكأنها تقرا في كِتابٍ سِحريٍ مجهول، وحين ألَحوا عليها بالسؤال والإستفسار هَمَسَت بصوت مبحوح وكأنها تنقل مشهداً من عالم الأموات السفلي السومري: جايات غيمات السود … جايات اللي ما منهن بِد !!؟

   في تلك الليلة، والناس يُصارعون النوم في أسِرَتِهِم فوق السطوح البغدادية، كان الصمتُ المُطبق حول مدينة المأمون أثقل من كل أحزاننا وخوفنا وقلقنا من المستقبل المجهول!!، إذ لم يعد ليل المدينة يصخب بنقيق مئات الضفادع البريئة المُسالمة التي هَجَروها من أوطانها في الساقية!!، شيئ ما تغير في شكل وأجواء المدينة!!، كذلك في نفوس الناس بعد أن أُزيلت الساقية وأشجارها وطيورها وضفادعها، كُلنا كان يشعر في داخله بأن زمن السلام والطمأنينة والإستقرار والشاعرية قد إنتهى وولى إلى غير رجعة، وبمرور الأيام والأشهر والسنين بدأنا نشعر بزحف الجراد واليباب والتتار، بدأنا نعادي بعضنا البعض، ولا نأتمن أحداً من سكان المحلة والمدينة والوطن بأجمعه، وبدأت قائمة مفقوداتنا وخسائرنا وأحزاننا تكبر وتكبر وتكبر، وكان الإعصار والطوفان يكبران معها كل يوم وشهر وسنة، حتى غطى جميع تفاصيل حياتنا بشكل مُقرفٍ مأسويٍ وحزين

   كل العراقيين يعرفون ما جرى في ال 50 سنة الأخيرة لوطننا العراقي وناسه قاطبةً،  واليوم أُضيف حقيقة أخرى صغيرة لما يعرفه الجميع من الحقائق التي دَوَنَها الناس بدمائهم على هامش دفتر الوطن الكبير، وهي أن محلتنا (الوردية اللون) في مدينة المأمون والتي كانت تتكون من 12 داراً، فَقَدَت أكثر من عشرة من شُبانها ورجالها في أتون الحروب والإغتيالات والموت المُدَبَر، وبطرق مُختلفة قد تفوق في وحشيتها وخساستها ولؤمها ما تعرضه أفلام هاليوود!!، وتشرد خارج الوطن ربما نصف أعداد العوائل التي كانت تسكنها قبل ثورة تموز. وهذا كثيرٌ جداً لمن يعي حجم المصيبة

   لقد صَدَقَت تنبؤات الراحلة (أُم باسم): (( جايات غيمات السود …. جايات اللي ما مِنهِن بِد ))!؟

   في الوطن العراقي لم يقتصر التدمير على البُنى التحتية للمكان والإنسان فقط، بل تعداه إلى الحيوان المسكين والنبات وحتى الآثار والحجر والنهر والهواء والأوكسجين!، لهذا رحلت أغلب الطيور الجميلة من أوكارها!، والضفادع من مائها، والإنسان من جذور أرضه التي يتم فيها نبش عظام أجداده الراقدة هناك منذ نيف وسبعة آلاف سنة، وربما أعمق بكثير

   في الكثير من ليالي الأرق التي تُلازمني بقدرية عجيبة ربما بسبب الجروح العميقة النازفة أبداً في ذاكرتي، أستحضر الماضي السعيد في بداية أيام سَكَنِنا في مدينة المأمون الأولى، وأغفو في النهاية الليل على أصوات زقزقات الطيور في أعشاشها بين أغصان أشجار الساقية، وعلى نقيق مئات الضفادع التي أستمتع من خِلالها بأعذب موسيقى لأروع سمفونية حضارية، وأبتسم لأشباح ذكريات الأطفال الذين يتلاعبون ويتصارخون ببراءة عفوية، غير عالمين بما كان يُخبئهُ لهم القدر القادمُ من بعيد

   كُلنا فقدنا أشياء عزيزة وثمينة وغالية ومهمة خلال ال 60 سنة الماضية، ولكن ... كَم مِنا حقاً يعرف ويُدرك بإننا خسرنا وطناً لن يعود لأيدينا أبداً !!!؟.

   المجد للإنسان

   الحكيم البابلي - طلعت ميشو

   أكتوبر -- 2014

  كتب بتأريخ :  الأحد 28-09-2014     عدد القراء :  5313       عدد التعليقات : 2

 
   
 

Guestطلعت ميشو

عزيزي الصديق نبيل رومايا المحترم
الف شكر على نشركم لمقالي عن ذكرياتي الحزينة في الوطن العراقي الحبيب .
الحق أن لكل الناس ذكريات قديمة تقبع داخل صندوق الذاكرة الغامض، ولكن ... قلة منهم يحاولون جاهدين إستحضار تلك الذكريات ومسح التراب والصدأ وتراكمات السنين من فوق وجهها ومن ثم إنتقاء المُفيد منها لتقديمه بصورة لائقة كي نتعلم منه ليس إلا وليس فقط كي نجتره.
ولكن .... ما يطفوا في أغلب الأحيان على سطح الذاكرة هو الذكريات الحزينة المؤلمة وخاصةً تلك التي تتعلق بمعاناة الناس والمفقراء والمسحوقين من أبناء الشعب، حيث أن الجروح حتماً تبقى مع الإنسان الواعي أكثر من بقاء الأفراح والمسرات.
ولهذا أُحاول دائماً إستحضار السلبيات الماضية لمجتمعنا العراقي من أجل تسليط الضوء عليها ودراستها ومعرفة ثغراتها، وكما يقول البعض: أن تشخيص الداء هو نصف العلاج.
تحيات لك ولكل العاملين المخلصين الطيبين في موقع الإتحاد الديمقراطي العراقي ... كل الود.
المجد للإنسان ... طلعت ميشو.


نبيل رومايا

مقالة مملوءة بذكريات حزينة تذكرنا بايام جميلة مضت وعراق تغيرت الوانه وايامه.
استمر بكتاباتك عن ما كان في عراقنا يا صديقي لكي تبقى ذكرى ما مضى في عيون اولادنا واحفادنا