الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الغاضبون: بل أسوأ.. أنا إنسان

بعض الكتب نقرأها طلباً للمتعة، والبعض الآخر طمعاً في المزيد من المعارف ، منها ما نمرُّ عليها سريعاً ، ومنها ما تمتلئ صفحاتها ببصمات الأصابع إعجاباً ومراجعة . من بين هذه الكتب المحببة إلى نفسي كتاب صغير بحجم الكف أسماه مؤلفه الصحفي المصري كامل الزهيري "الغاضبون" وفيه يروي رحلته إلى باريس التي يسميها"شباب فرنسا" أيام ما كان سارتر ورفاقه يصولون ويجولون في شوارعها ومقاهيها مصرّين على انتشال بلادهم من مرارة الهزيمة في الحرب، في تلك الأيام يصل كامل الزهيري إلى الحي اللاتيني هناك حيث يشاهد"أعظم الشعراء والفنانين والمفكرين الذين يطيرون بلا خوف ويقلقون ويحلّقون ويغضبون ويرفضون ويجددون."

في مئتي صفحة من القطع الصغير يُبحر فينا صاحب"الغاضبون" في رحلة استكشافية نتعرف من خلالها على أشواق كامو وأحلام سيمون دي بوفوار وثورية أندريه مالرو وعجائب دالي وغرائب بيكاسو، وإصرار ميرلو بونتي، وسطوع نجم هربرت ماركيوز.. وغنائيات أراغون وصرخة سارتر:"قد نفقد الأمل ولكننا سنظل نناضل ونرفض اليأس" امتلأ كامل زهيري بمثل هذه الأقوال، وعرف إلى جانب سارتر صديقه اللدود، ألبير كامو الذي قال: "إن الحياة عبث، ولكن قدر الإنسان أن يصنع من هذا العبث معنى لوجوده".

لا أعرف عدد المرات التي قرأت فيها مؤلفات ألبير كامو، قارئاً ومتمعناً في الدروس والعِبـر التي تقدمها لنا مؤلفات هذا الكاتب الذي كان يمنـِّي النفس أن يصبح واحداً من نجوم السينما.. وكان تمرده سبباً في حالة القطيعة بينه وبين فيلسوف الوجودية سارتر الذي لم ينسَ يوماً أن ذلك الشاب الأسمر البشرة كان خجولا وهو يقدّم نفسه للمرة الأولى"أنا ألبير كامو" وعلى الرغم من ان كليهما حاول في ما بعد أن يقيـِّم صاحبه فقال سارتر عن كامو"نقيضي المطلق، أنيق مهندم وعقلاني" ورأى كامو في الشخص القصير ذي العيون الجاحظة عقلا يتحلى ببراعة فنية مذهلة وقوة وعمق وإبداع، إلا أن رفيقتهم الثالثة سيمون دي بوفوار تخبرنا ان فيلسوف الوجودية كان"غيوراً بعض الشيء من كامو، ولكن ليس باعتباره كاتباً، إذ ان نظرات كامو الوسيمة هيأت له ميزة يستاء منها سارتر".

فيلسوف التمرد الذي يفـرُد له كامل الزهيري أول فصول كتابه تحت عنوان"الشمس مجاناً"يستهلّه بمقطع من مسرحيته الشهيرة العادلون :"أي ثورة تتخلى عن الشرف... تتخلى عن مبادئها.. لأن الثورة قبل كل شيء هي الشرف. "

نستعيد قراءة كامو فنرى كيف تتقدم الأمم ونحن قعود، وإذا قمنا فلكي نقاتل بعضنا البعض، دائماً محمّلين بأطنان من الأكاذيب وأكوام الخطب ولا شيء سوى السبات في الجهل والتخلّف والطائفية!

ظلّ كامو يرفع شعار لا لجميع أنواع الطغيان، فقد ولد الإنسان حرّاً ليس من أجل أن يصبح رهينة لأمزجة أناس حمقى، وفي واحد من أجمل حوارات"الطاعون "يقول بطل الرواية ريو:"إن فايروس الطاعون لا يختفي، بل يكمن في الأثاث وفي الثياب وفي الحقائب والأقبية ، ينتظر بصمت أعواماً، بل قرونا وفجأة يستيقظ".

وُلد الطاعون العراقي من رَحِم الخوف والاستبداد والفشل والظلمة الطائفية وإسكات صوت العقل، ولم يتردد الفاشلون من إطلاق اسم دولة القانون على منهجهم في الحكم، الذي كان ختامه خزينة خاوية وأرضاً محتلة ونساءً يُقتلن رجماً في ساحات الموصل ، وخراباً أمنياً يُمزّق ما تبقى من هذه البلاد .

في واحدة من أجمل قصص همنغواي تواجه المرأة أحد الرجال بقولها: أنت حيوان فيردّ عليها، بل أسوأ أنا إنسان، ألم يخبرنا كامو على لسان كاليغولا : ليس من حيوان لا تنتابه لحظة شفقة في حياته، أما أنا فلا، ولهذا أنا لست حيواناً.. أنا إنسان".

وللحديث بقية...

  كتب بتأريخ :  الأحد 12-10-2014     عدد القراء :  3903       عدد التعليقات : 0