الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
عين العالم المغمضة عن عين العرب ( كوباني)

تمر الايام ، رهيبة ، دامية ، مرعبة ، ثقيلة وكئيبة ، على المدينة الصامدة ( كوباني ) ... يلفها الليل الدامي البهيم ، لتستيقظ على اصوات الانفجارات ، وعصف الصواريخ ، وألسنة الدخان واللهب ، تزهق ارواح الابرياء ، والمدافعين عنها بأسلحة لا تقارن  بما يمتلكه الغزاة ، تستغيث المدينة ولكنها لا تستسلم ... تشرق الشمس خجولة لتكشف الدمار وأشلاء الضحايا ، وحجم الجرائم وفظاعتها ... يوما بعد اخر ، تنقش هذه المدينة صفحة جديدة من نماذج الاستبسال والبطولة ، لا تقل عن سفر الملاحم التي سطرها التاريخ وترددها الاجيال بكل فخر واعتزاز .

الدفاع هو اروع وارفع ما في الحروب عدالة ( ان كانت هناك حروب عادلة ) ... كوباني التي تخلى عنها الجميع في محنتها ، لم تؤثر على عزيمة مقاتليها الاشداء الذين تشكل المرأة 40 % من قوامهم ، فضلوا الموت في ساحات الوغى على الاستسلام لأسراب الجراد الاسود المحددة وجهتهم ومآربهم من قبل الحالمين بأيام السلاطين والخلفاء ، يُقيّمون امور الدنيا بهواية التكابر واستعباد الشعوب وإذلالها ونهب ثرواتها لإقامة القلاع والحصون لحريمهم وجواريهم وعبثهم الماجِنْ ، يحللون لأنفسهم ما يحرمونه لغيرهم ، ويفصّلون ما في السماء على مقاسات افكارهم المريضة وقلوبهم المتحجرة ، ويستمدون سلطتهم وديمومتهم من تعميم الجهل ومحاربة العلوم والمعرفة .

مجرمو العصر الملطخة اياديهم بدماء الابرياء ، من الاطفال والنساء والسكان العزل ، في كل بقاع العالم ، اعتادوا الغدر بتفجير انفسهم وسط اولئك المسالمين ( لنيل الثواب ورضا الله !!) في وقت جعل المدافعين عن كوباني اجسادهم دروعا ً لحماية شعب هذه المدينة المنكوبة ... لم تتراجع الشهيدة الشابة ( عفرين ميركان) من تفجير نفسها دفاعا عن امتها ، وسط اولئك المرتزقة عندما نفذ عتادها ، مصممة ان تفتك بقاطعي الرؤوس وتلقينهم درسا ً موجعا ً قبل ان ينالوا منها ، ففجرت نفسها في وسطهم لتقطعهم اربا ً اربا ، وهذا ما يجب ان يكون جزاءهم ، وجزاء كل من يقف لهم ظهيرا ً في اية بقعة من بقاع العالم .

المضحك المبكي ان تحوم في سماء الدواعش كل هذه المقاتلات الحربية بطيار وبدونه ، وطلعات الاستطلاع ، وعيون الاقمار الاصطناعية ، في وقت كانت معسكراته وآلياته وأفراده يمرون امام الجميع ، ويقطعون الحدود ما بين الدول ، بدليل هذه الاحصائيات الدقيقة عن اولئك المتطرفون ، والعدد القادم من كل قطر ، بواقع يثبت العلم المسبق بتحركاتهم ونياتهم وغاياتهم.

وفي خضم هذه المأساة ، يتوسط المشهد السلطان اردوغان ، ويتوعد ( من باب النفاق السياسي) باستخدام قواته البرية التي لازالت تلعب دور المتفرج المرتاح في نقاط التماس على الحدود ( وربما لتزويد داعش بالمعلومات الاستخباراتية ) وفي الوقت نفسه يطالب ببطاريات صواريخ الباتريوت !!! واضعاً شروط مسبقة لأية مبادرة من قبل حلف شمال الاطلسي الذي بلاده عضوا فيه ، كما لم يتردد في الاعلان عن مخططاته بإقامة منطقة عازلة على حدوده الجنوبية  ، منعا ً لأية عمليات مسلحة ، وكذلك لتحقيق اهداف قديمة غير معلنة ، وعينه لا ترف عن لواء الموصل !

اردوغان يقتل المتظاهرين الاكراد ، ويمنع ان تصل النجدات الى اهلهم المحاصرين في كوباني ، ونائب الرئيس الامريكي يعتذر له بعد ان وصفه براعية الارهاب مع بقية شركاءه في دول الخليج المكشوفة اوراقها ايضا ً ، وهو يلعب بورقته الاسلامية منذ توليه سدة الحكم ، ومنذ استمالته الشارع العربي المتطرف ، بمسلسلاته المدبلجة ، او بعلاقاته الاقتصادية القوية فيما بعد ، والآن يتظاهر بإبداء النصيحة تارة وبتفحص الضحية والمتضرر بأخرى .

كوباني ، ستبقى نشيد شعب لم يستسلم لوباء العصر ، الدواعش القادمون من عمق وكهوف التاريخ السحيق ، قطعوا فراغ 1400 سنة من الماضي ، ليلطخوا وجه الحضارة والإنسانية الجديد ببقعة سوداء قاتمة ، تذكرنا وتضعنا في وسط الغزوات القديمة من جديد .... هذه المدينة وشعبها الشجاع ستكون درسا ً ومثلا ً للشعوب المضطهدة من قبل ، والتي كنا نحن اولى ضحايا الاستئصال والقتل باسم الدين ، ونتعلم منها كيف نواجه هذا السرطان الانساني الجديد .

ومهما طال ، او قصر صمود هذه المدينة الباسلة ، فإنها ستقدم تعريفا ً حقيقيا ً عادلا ً للجهد النضالي المستوحى من مقارعة الظلم والاستبداد والاستعباد ، والانتصار لقيم العدالة والمساواة وقيمة الانسان وحرية الفرد والمعتقد ... هو غير هذا الجهاد الذي لا تفسير له في القنوات التي صدر ويصدر عنها غير الذبح والسلب والنهب والسبي ، وتحليل كل الجرائم والموبقات ، الجهاد التكفيري دعوة علنية وجوهر ما ينادي به من دور عباداتهم ومن اعلى قباب المنارات وأبواقها المقرفة وهي تدعو وتحرص على العداء السافر وزرع الحقد والعنجهية الدينية ضد كل المكونات الاصيلة ، وكل المسالمين والمبدعين وبناة الاوطان ... انهم يغتالون الفضيلة ويحرفون كل المعاني الانسانية السامية ، ويشوهون صورة الله وأصول العبادة .

ستبقى كوباني حية ، والمدافعين عنها ، رموز المستقبل ، ورمز الكرامة والرجولة ومثال اعلى للمرأة التي اثبتت انها لن تكون رقما ً في طوابير السبايا ... وتحية لهذا المثال الجديد عن بطولة المدن ، السائرة على خطى ستاليننغراد ... مع الفارق العظيم بين الاولى وهي مجردة من العتاد والقوت ومساندة العالم ، والثانية التي ساندتها كل الاحلاف المعادية للنازية .

هي مدينة رصعت القرن الجديد بكنوز دفينة من اعماق الانسان ، وهي تحرره من كل القيود وكل الخوف والتردد ، وتعلمه السبب الحقيقي للحياة .

  كتب بتأريخ :  الجمعة 24-10-2014     عدد القراء :  3660       عدد التعليقات : 0