الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
البحث عن اللآلئ .. تأريخي مع الكِتاب

لو كان كل البشر يقرؤون، لَما كانت سوق الغيبيات رائجة كما هي اليوم!.

   * بدأ تأريخ صداقتي مع الكتب في يوم قائظ أثناء العطلة الدراسية الصيفية. يومها كنتُ طالباً نجح إلى الصف الثالث الإبتدائي.

   كان أخي وإثنتان من أخواتي -وثلاثتهم أكبر مني سناً- يقرؤون بعض الروايات في غرفة المعيشة، حيث أعَدَت لهم والدتي المروحة الكهربائية النقالة والشربت المُنعش للنارنج المقطوف من حديقة الدار، تتخلله قطع الثلج الصغيرة وبعض السُكَر.

   أحسستُ بتوحدي بعد أن رفضوا مُلاعبتي أو حتى إعارتي بعض إهتمامهم، كانوا يستلقون بكسل وإرتخاء وهم يقرؤون كتبهم بتلذذ وإنقطاع كُلي عن ما حولهم وبطريقة جادة أثارت غيرتي، لِذا رحتُ أتفنن في مشاكستهم ومعاكستهم وإزعاجهم بكل وسيلة مُمكنة

   ومنها الغناء بصوت مرتفع. تنفع معي التهديدات التي أطلقتها والدتي من المطبخ، لعلمي بأنها لم تضرب أي مِنا إلا ما ندر، ولأسباب وجيهة جداً.

   بعد عدة مشاحنات بيني وبين (الفرسان الثلاثة) أجلستني أختي الكبيرة بجانبها، وجلبت من أحد الرفوف كِتاباً من كتب (طرزان) ربيب القرود وملك الغابة، وبدأت تقرأ لي بداية تلك القصة الجميلة التي جذبتني لدرجة كبيرة، وأثناء القراءة رحتُ أتخيلُ من خلال صورة الغلاف، طرزاناً بعضلاته المفتولة وشعره الأشقر الطويل وسكينه المتدلية من جانبه، والقردة تلاعبه وتتصارخ معه، تحوطه الغابة الجميلة بكل وحوشها وعنفوانها ومخاطرها وأسرارها وغموضها.

   ثم فجأةً … إنقطعت أختي عن تكملة القراءة!، ولما سألتها المزيد قالت لي بكل جدية: أنت في الصف الثالث الأن، وبإمكانك القراءة لو حاولتَ، ربما ستكون صعبة عليك في البداية لكنكَ ستتعودها بالمران وتوالي الأيام، ولو صادفتك كلمة صعبة لا تعرف معناها فما عليك إلا سؤالنا، وستشكرني في يوم ما.

   أما أخي نبيل فعلق بسخرية وتهكم كعادته معي: المران على القراءة مهم جداً. ثم إبتسم بتخابث مُعقباً على كلامهِ: والتكرار يُعلم الحمار!.

   إستغرقتني قراءة ذلك الكِتاب بضعة أيام، لأن خبرتي في عالم القراءة كانت متواضعة جداً، كنتُ أقرأ بصورة بطيئة تُعطيني الوقت الكافي لتصور ورسم الحدث عبر خيالي وكأنه فلم سينمائي بالسرعة البطيئة، ولا زلتُ لحد اليوم أرفض القراءة الإجترارية السريعة، بل الوك الحدث والمعنى والعِبرة والإستنتاج والتأويل وحتى النقد، وكأنني الوك طعامي، وهي عادة تأصلت بيَ، أن الوك وأمضغ طعامي وقرائتي بصورة بطيئة .. لكنها لذيدة ومُفيدة بالنسبة لي.

   في نهاية العطلة الصيفية لتلك السنة كنتُ قد قرأتُ أغلب كتب البيت التي كانت على مستوى متواضع يُناسِب فكر من هم في عمري وأعمار أخي وأخواتي يومذاك، حيثُ لم أكن مُهيئاً بعد لقراءة الكتب والمجلات القليلة الصعبة العائدة لوالدي، لكنني في السنوات التي تلت قرأتُ كل الأعداد -العائدة لوالدي- من مجلات (طبيبك، المختار، الهلال) والتي أعطتني ثقافة معلوماتية شمولية حول الكثير من معارف الحياة بصورة عامة.

   في سن الخامسة عشر كنتُ قد قرأت كل الكتب التي إستطعتُ إليها وصولاً، ما عدى كتب السياسة، حيث كنتُ أُحس دائماً بحالة إختناق فكري ونفسي عند قرائتها، ولحد اليوم تخلو مكتبتي من أي كتاب سياسي، ولا أريد أن أسجل هنا رأياً مُطولاً في السياسة، لكني فقط أقول وبإختصار أن السياسة -بالنسبة لي- عاهرة ميئوسٌ من أخلاقياتها!.

   كانت عدوى القراءة تُصيب كل من أصادِفهُ، وكان في محلتنا وما يُجاورها مجموعة كبيرة من الأصدقاء الطيبين يتعاطون قراءة الكتب بشغف وتلهف وعطش، وكنا نُعيرُ كتبنا لبعضنا البعض، وأثناء الموسم الدراسي كنا نضع تلك الكتب والروايات داخل الكتب المدرسية، عسانا نُقنع ذوينا إننا مُنصرفون لدروسنا اليومية المدرسية، لكنها كانت حيلة بريئة لم تَعبُر على والدي الشاطر، لِذا تركناها أنا وأخي وأخواتي لغيرنا خوفاً من العقاب.

   في العطلة الصيفية المدرسية، بين الموسم الدراسي والآخر، كُنا ـأخي وأناـ نجلس ليلاً مع بضعة أصدقاء، تحت واحدة من مصابيح الشارع، فوق الحشيش الذي زرعناه على المسافة الفاصلة بين الرصيف وأسوار بيوتنا، لنناقش بكل جد مواضيع كثيرة قرأناها في هذا الكتاب أو ذاك، أو لنتكلم عن البنات الجميلات اللاتي كُنا نحلم بإبتسامة منهن أو نظرة، أوحتى لتورد خدودهن بتأثير كلمة إعجاب يُطلقها أحدنا لواحدة منهنَ، حيث كانت المسكينة تخشى حتى من إظهار حتى إبتسامة مجامِلة عابِرة لأحدنا، خوفاً من أن يصل الخبر لشقيقها الفحل "وحش الشاشة" الذي يتطلب الموقف الإجتماعي المرجو منه أن يقوم "ببسط" كل من له إهتمام بأخته "بسطة" عراقية "غسل ولبس" كما نقول في عاميتنا!!، وأحياناً كان السحر ينقلب على الساحر، ويتذوق الأخ طعم "البسطة" حين لا تتطابق حسابات الحقل مع حصاد البيدر!.

   ملاحظة: (البسطة والمبسوط) في اللغة الشعبية العراقية تعني: فعل الضرب والمضروب -العقاب الجسدي- الذي يُنزِلُه أحد الناس بالآخر، وهو عكس مفهوم (البسطة والمبسوط) في اللغة الشعبية المصرية والشامية والتي تعني الإنبساط والإرتياح والتونس !.

   * كُنا نتكلم فيما بيننا بكل إسراف وإطناب ومبالغة عن شباب آخرين محظوظين نعرفهم تملِك عوائلهم مكتبات عامرة في بيوتهم يسيل لها لعابنا كما يسيل لعاب طفلٍ صغير لمرأى الحلوى.

   وتشاء الصدف أن يكون إبن عمتي وصديقي صلاح -وهو بعمري- في شلتنا الواردة الذكر، حيث كان بيتهم على مبعدة ميل واحد مِن بيتنا، وكان دائماً يذكُرُ أن شقيقه الأكبرعمراً (وليد) يمتلكُ في غرفة نومهِ مكتبة فيها عشرات الكتب الحديثة، لكنه لا يسمح لشقيقه صلاح بالدخول لتلك الغرفة إلا فيما ندر.

   كان وليد شاباً مثقفاً ومؤدباً وواعياً لدرجة كبيرة، يُجيد الخط والرسم وله أذواق موسيقية غربية وشرقية راقية، وكان يُسرِف في شراء الكتب والأسطوانات الموسيقية ومواد الرسم وأنواع الطوابع البريدية العالمية الثمينة، وكان والده (زوج عمتي) الغني -حسب مقاييس ذلك الزمن- يمده بما يشاء من نقود لدعم هواياته الجميلة الحضارية وتمويلها. لم يكن وليد يسمح لأخوته وأخواته الأصغر منه سناً بالدخول لغرفته (المتحف) تلك، ربما خوفاً من عبثهم، لكنه إستجاب لتوسلاتي المتواصلة، خاصةً بعد تدخل ووساطة والدي -خاله- وعمتي -والدته- في الموضوع.

   كانت مكتبته تحوي أنواع الكتب الرائعة المنتقاة بكل عناية وذوق، وكلها تقريباً مجلدة بحرفية وأناقة عالية، وتنام بوقار ودلال فوق رفوف خشبية جدارية تأخذ تقريباً نصف مساحة غرفة نومه الكبيرة المستطيلة الشكل والتي كان يُسميها: "صومعتي".

   لا زلتُ أذكر الصمت والرهبة اللذان إمتلكاني وأنا أقف أمام أول مكتبة فخمة، إبتلعتُ ريقي وأنا أتناول بعض تلك الكتب لأقرأ عناوينها، وكان أول كتاب وقع في يدي ديواناً لعنترة إبن شداد العبسي، ورحتُ أتهامس مع صلاح وكلنا رهبة، فكأننا داخل كاتدرائية أو معبد أو ضريح تأريخي!، بينما وقف وليد مبتسماً بفرح وفخر وإعتزاز وقد راقه جداً مدى الإحترام والشغف الذي أبديناه أنا وصلاح تجاه كتبه، لذلك وًَعَدني خيراً في مسألة تسليفي كتبه تباعاً شرط أن أحترمها وأعيدها سالمة كما كانت.

   خلال فترة زمنية ليست بالقصيرة كنتُ قد إستنفذتُ قراءة (أغلب) كتب مكتبة وليد، عدى الكتب السياسية والفلسفية أو تلك التي لم تكن عناوينها تُثير إهتمامي، وكما يُقال فالكِتاب يُقرأ من عنوانه.

   الحق … لقد إستطاعت تلك الكتب وغيرها الكثير أن تُغير المفاهيم البسيطة المتواضعة وحتى المغلوطة في حياتي وفكري، وأن ترشدني بطريقة مباشرة جداً لمعرفة قُطبي الخير والشر والحق والباطل والجميل والقبيح، وأن ترسم لي صورة واضحة ومفهومة جداً عن مسيرة الإنسان الحياتية وبداياته التأريخية مُنذُ كان في كهوف العصر الحجري، وكيف تم إرتقائه إلى أن وصل لما هو عليه اليوم، وأن تساعدني بصورة ناضجة على إتخاذ موقف حياتي من أغلب الأمور التي تُحيط بوجودي، وخاصةً تلك التي تتعلق بالمقدس والأديان والله!. كذلك علمتني أن الإنسان موقف، وبدون إتخاذه لموقف واضح وعادل وإنساني، فسيبقى كائناً يَعبِرُ الزمن دون أن يترك أي تأثير إيجابي مفروض!، بل يمكن له أن يكون علامة إستفهام سلبية كبيرة ومُعَوِق لأغلب ما هو جيد حوله!.

   لا زلتُ أذكر أن غالبية كتب وليد كانت لِكُتاب غربيين كلاسيكيين معروفين عالمياً، ولم يكن في مكتبته إلا بعض الكتب لمؤلفين شرقيين، وربما كانت هذه إحدى الأسباب التي جعلتني لا أستسيغ في بداياتي كُتاب الروايات العرب إلا ما ندر منهم، أمثال نجيب محفوظ، جرجي زيدان، جبران خليل جبران، طه حسين، والبعض القليل الآخر، بينما تمتعتُ وغُصتُ حتى أنفي في كتب الروايات الغربية المُترجمة التي كانت تستقطب كل أحاسيسي وعواطفي، وتجعلني أبكي أحياناً كالطفل الصغير تأثراً بأحداث تلك القصص مثال: نساء صغيرات، الممر الشمالي الغربي، كل شيئ هادئ في الميدان الغربي، الشيخ والبحر، لِمَن تَقرعُ الأجراس، عشيق الليدي تشاترلي، أعمدة الحكمة السبعة، قصة الحضارة، ذهب مع الريح، الحرب والسلام، قصة مدينتين، الأخوة كرمازوف، والكثير الكثير من الروايات الأجنبية الأخرى. ولم أبدأ بقراءة أعمال الكُتاب العرب إلا من خلال قرائاتي للبحوث والمصادر والدراسات التأريخية والتراثية قبل سن الثلاثين بأعوام قليلة، وبعد أن لم تعد الروايات والقصص تروي عطشي وتوجهي الجديد في قراءة علوم التأريخ والتراث والمجتمع، والتي أصبحت -نوعاً ما- هوايتي وهدفي ونوع من تخصصي في السنوات اللاحقة، وقد عرفتُ وتيقنتُ من خلال كل قرائاتي بأن التأريخ هو أهم علم من المفروض على أي مثقف الإلمام بهِ، كونه يقول لنا كيف كانت بدايات الإنسان ورحلة تطوره وتطورعقله ومجتمعه ومفاهيمه وقناعاته ودينه وآلهتهِ، ويُعطينا الخلفية الكافية تقريباً لأن نرى ما عجز أن يراه البعض في مسيرة المجتمع البشري عبر آلاف وربما ملايين القرون، وحسب قول الحكمة: "من يجهل الماضي قد يصعب عليه إستيعاب وفهم الحاضر والمستقبل".

   لِذا فنصيحتي الأولى دائماً لمن حولي هي: التأريخ ثم التأريخ ثم التأريخ.

   * من ضمن مجموعة الأصدقاء كان لي صديق رائع إسمه (سردار داود سلمان البياتي)، كان قد إكتشف -حسب تعبيره- أن آلاف الكتب المستعملة تُباع بأسعار زهيدة جداً في سوق (السراي) الشهير، وهكذا بدأت رحلاتنا الأسبوعية إلى سوق السراي وشارع المتنبي حيث تقع أشهر المكتبات البغدادية، وحيثُ كانت ملايين الكتب تُباع على أرصفة شارع المتنبي!.

   في كل رحلة، كُنا نُنقِبُ، ولساعات طويلة، بين مئات وآلاف الكتب المنثورة بصورة شبه عشوائية على الأرصفة، ودائماً كُنا نجد كتباً قَيِمَة ندفع فيها أسعاراً بَخِسة جداً ومُضحكة في زهدها، حيث كانت تتراوح أسعارها بين (25 ) فلساً ومائة فلس!، وتبعاً لرغبة الشاري ومدى شطارته في التعامل مع باعة الكتب المحترفين في فن التعامل والمراوغة والحذلقة والتشاطر. وكُنا نُسمي رحلتنا الأسبوعية والتنقيب عن الكتب في سوق السراي وغيره ب: "البحث عن  اللآلِئ".

   صديقي سردار كان ينتقي دائماً الكتب السياسية اليسارية والماركسية وكل ما له علاقة بالإشتراكية والشيوعية والرأسمالية والأمبريالية والإستعمار والحرب الباردة بين العملاقين الدوليين والسياسة العالمية .. الخ.

   كان سردار -الذي يكبرني بثلاث سنوات- أحد القادة الشباب لقوى اليسار حيث كُنا نسكن في مدينة المأمون أيام الزعيم قاسم، ورغم صغر عمره إلا أنه كان يومها أشهر من نارٍ على علم، بسبب شجاعته اللامتناهية وجرأته وصلابته في كل المواقف المتحدية للطرف السياسي الآخر من قوميين وبعثيين وأخوان مسلمين، وقد دفع فيما بعد ثمناً باهضاً جداً بسبب يساريته ومدى فاعليته في الحزب الشيوعي العراقي، لكنه تمكن بعد التي واللتيا من التخرج من كلية الهندسة ومن ثم الهجرة  إلى دول الخليج مع زوجته، ورُزِق بولدين وعاش بسعادة ورغد إلى حد اليوم.

   أما أنا، فكانت تستهويني منذ البداية كل الكتب التي لها علاقة بعلم الإجتماع وتأريخ وتراث وادي الرافدين وتأريخ المنطقة العربية بصورة خاصة والعالم بصورة عامة، لِذا تركتُ في عمر مُبكر قراءة الروايات والقصص إلى قراءة كل ما له علاقة بالمصادر والمراجع والبحوث والمعلومات والمعاجم، كذلك -ومنذ أيام مراهقتي- إستهوتني بشكل غريب وعميق أبواب القصة القصيرة والشعر الحر.

   الكتب الوحيدة التي أُعيد قرائتها كل بضعة أشهرهي كتب الشعر، خاصةً تلك التي للبياتي وقباني والسياب ومطر والمتنبي والمعري والجواهري الكبير، فالشعر كالإعصار والزوبعة، لا يترك نفس الحدث أو التأثير في كل لقاء معه، حيث نفس القصيدة تُعطيني معاني ومفاهيم وإنطباعات ووقع وتأثير مختلف وجديد كلما أعدتُ قرائتها في أزمنة متقطعة ومتباعدة. والحق هو ليس إختلافاً في القصيدة بقدر ما هو إختلاف في مدارك النفس البشرية ونضوجها وتطور إستيعابها ومفاهيمها وتحولاتها التي قد تكون شبه جذرية أحياناً بين فترة زمنية وأخرى وتبعاً لما يُحيط بها من حواظن ومؤثرات ومُقنِعات، بينما القصيدة تبقى هي هي، لذيذة في كل الأحوال، رغم أنها تُعطينا طعماً مختلفاً في كل مرة، لكنه يبقى ممتعاً أبداً.

   لازلنا أنا وسردار على إتصال هاتفي لحد اليوم رغم إننا لم نلتقي ببعضنا منذ أربعين سنة، ولا يزال بنكهته وشخصيته المتواضعة المُتفتحة المَرِحة الساخرة من أمتع الأصدقاء الذين كانوا في حياتي، وأشكره من أعماق قلبي لأنه كان من أوائل المعجبين الداعِمين والناقدين أيضاً لكتاباتي، والمشجعين كي أكون كاتباً ولو بحجم متواضع.

   لكَ ولعائلتك أطلب السعادة والخير والموفقية يا صديقي العزيز سردار داود سلمان البياتي، مباركٌ أنتَ أينما كنتَ، وعسى أن ألتقيك ولو لمرة أخيرة قبل أن تنتهي حبات الرمل في ساعة الحياة الرملية.

   * وبسبب قراءاتي المكثفة المتواصلة وعشقي للحرف والكلمة والمعلومة، فقد كتبتُ الشعر الحر والقصة القصيرة وأنا في عمر مبكر. وعلى مدى ثلاث سنوات متتالية في نهاية الستينات حصلتُ على الجائزة الأولى  في بعض نوادي الشبيبة المسيحية في بغداد في مضمار الشعر الحر والقصة القصيرة، وبعد هجرتي لأميركا تحولتُ لكتابة المقالات والبحوث في المجلات والصحف المهجرية الصادرة في أميركا ولندن، وفي السنوات القليلة الماضية كتبتُ في موقع الحوار المتمدن وبعض المواقع الأخرى .

   أما تجربتي مع المسرح، فهي أطول من أن يتضمنها هذا المقال، وهي تجربة شخصية وبإجتهادات صبورة عنيدة وعملية. حيثُ إبتدأت بكتابة وإخراج وتمثيل بعض المسرحيات المتواضعة الساخرة الهادفة في العراق، لريع النادي المسيحي الذي كنتُ أنتمي له، وإنتهت بتكوين فرقة مسرحية في ولاية مشيكان الأميركية بعد هجرتي من العراق، قمتُ من خلال تلك الفرقة بتقديم خمسة عروض مسرحية كلها بفصلين ومن تأليفي وإخراجي، وكانت قد لاقت نجاحاً جماهيرياً متواضعاً أفتخر به، لكني تركت العمل المسرحي لأسباب شخصية ربما سأكتب عنها وعن تجربتي المسرحية -شبه المحترفة- في أوقات ومقالات لاحقة.

   * بعد إنقلاب شباط  ( 1963 ) في العراق، ومقتل الزعيم عبد الكريم قاسم، وهيمنة البعثيين والقوميين العرب على السلطة، راح صبيان (الحرس القومي) يقتحمون بيوت الناس الآمنين لإلقاء القبض على كل من يظنون أنه ضدهم، وكانوا كلما وجدوا مكتبة في أحدى الدور يقومون بإلقاء القبض على رجال الدار!، فالكتب كانت رمزاً للثقافة، والثقافة كانت تعني لهم (اليسار) حصراً، وكل ما هو غير مساند لإرهابهم الذي تمخض لاحقاً عن مجازر بشعة بحق الكثير من العراقيين الأبرياء!. وكم يُذكِرُني موقف البعثيين والقومييين تجاه الكتب والثقافة بموقف (غوبلز) وزير حكومة هتلر، الذي صَرَحَ يوماً: كلما سمعت كلمة ثقافة، تمتد أصابعي تتحسس مسدسي بصورة غريزية لا إرادية!.

   كان النظام السياسي المتخلف في العراق، ومنذ الأيام الأولى لإنقلاب شباط 1963 معادياً لكل المثقفين العراقيين، وكأنه يعترف بهولاكيته ودونيته وإعتماده على العنف والقمع والجهل كوسيلة للحكم!، لِذا قام أهالي بغداد بصورة خاصة والعراق بصورة عامة بإتلاف آلاف وملايين الكتب التي يمتلكونها خوفاً من بطش لِئام وزعاطيط الحرس القومي يومذاك. وتشاء الصدف أن يكون إبن عمتي (وليد) خارج الدار ذات يوم، وكانت تسكن في بيتهم عمتي الثانية المُسِنة العانس، كانت إمرأة متواضعة المدارك، وطيبة ومسالمة وعلى نياتِها، أي (من أهل الله) كما نقول في وصفنا الشعبي العراقي، وقد سَمعَت من الجيران أن الحرس القومي يقومون بحملة تفتيش لبيوت الناس، ويُصادرون الأسلحة والكتب حين عثورهم عليها، ويصادرون حتى الناس إن لم يكونوا على شاكلتهم وأخلاقهم ومبادئهم الطحلبية الهشة، وهكذا راحت عمتي أثناء قيلولة أهل الدار، تنقل أغلب كتب إبن أختها المسكين (وليد) لتلقي بها في باطن ال (سبتك تانك)، وهي حفرة عميقة تقع عادةً بين الحديقة والدار، مسقفة ومبنية بالطابوق في كل دارٍ لا تحوي أنابيب الصرف الصحي.

   عند عودة وليد للبيت مساءً عرف من أخوته وأخواته مصير (أغلب) كتبه الغالية المدللة، فبكى بُكاءً مراً، ولزم الصمت المُطبق، وصعد إلى غرفته، وإعتصم فيها حزناً وألماً لعدة أيام، بعدها رفض نهائياً الحديث عن الموضوع.

   وليد توفاه الأجل في العراق قبل سنتين، أما عائلته فتعيش اليوم في أسطنبول، وتطرق كل يوم أبواب سفارات العالم، عسى أن تحصل على موافقة للهجرة !!!.

   * لكل مِنا مشاعر مختلفة تجاه الكتب والقراءة والثقافة والمعرفة والتعلم وغيرها من الأمورالحضارية. أذكر أن أقصى أمنيات والدتي -الأمية- الراحلة كانت تعلم القراءة والكتابة، وقد حققت أمنيتها الغالية تلك في مدارس (محو الأمية) في زمن الزعيم عبد الكريم قاسم. ويوم نالت الشهادة مع بضعة نساء من محلتنا، جلست تبكي ونحنُ نُهنئها ونقدم لكل الجيران شربت النارنج والشاي والكعك، وأخواتي يهللون ويرقصون حولها!. أعتقد كان الحَدَث بالنسبة لها كبيراً جداً جداً، وربما بحجم السماء!، وأحسَسْتُ يومها أن والدتي كانت تحمل عقدة نقص نفسية كبيرة بسبب أميتها!، أذكر أنها كانت دائماً تطلب مِنا أن نقرأ لها، ومرة من المرات زعلت بكل ألَم وجدية من والدي حين عَيَرَها بأميتها أثناء خصام صغير بينهما، وقالت له وهي تبكي وترتجف إنفعالاً: "لو كانت ظروف حياتي قد سمحت لي بالتعلم كما سمحت لكَ ظروفك .. لكنتُ اليوم أعلَمُ مِنكَ بعشرات المرات"!. مما دعا والدي للإعتذار منها، فالرجل لم يكن يعرف أنه ضرب على وترها الحساس!. وأعتقد أنها كانت تقصد من كلامها: بأن الإنسان من صنع ظروفه أحياناً.

   على عكس ذلك تماماً كان جارنا الإعتدائي الشخصية (أبو جبار)، يضرب أولاده وبناته بشدة وقسوة ولؤم إذا ضبطهم يقرؤون غير كتبهم المدرسية أو القرآن، معتقداً أن الكُتب من غوايات الشيطان!!، وأن تعلم القراءة هو لغاية واحدة فقط وهي لفهم القرآن وترسيخ الدين!. كان (أبو جبار) مُعلِماً في المدرسة المتوسطة التي كنتُ أحد طلابها، وحين كان يغضب على طالب ما كان يقول له: "لا أحد أفسدكم وأخذ عقولكم غير الكتب"، أذكرُ كذلك أنه لم يكن يرد على تحياتي أبداً رغم إنني إبن جاره !، ربما لأن الكتب الدينية السلفية التي كان يقرأها كانت تقول له وتُحرضهُ على عدم الرد على تحيات غير المسلم حتى لو كان طفلاً أو مُراهقاً !!.

   * أذكر أن أول فتاة صادقتها في العراق كانت قد أهدتني كتاب شعر لنزار قباني، وأن أول حاجة وضَعتُها في حقيبة سفري وأنا أغادر العراق -إلى غير رجعة- كان ديوان شعر لعبد الوهاب البياتي (الذي يأتي ولا يأتي).

    أما (علوان)، كببجي السوق القريب من بيتنا، فكان يُغلف (لفة الكباب) بورقة من أوراق الجرائد والمجلات!، ولا زلتُ أحتفظ بآخر ورقة وضع لي في داخلها لفة الكباب الذي إبتعته منه، وكان في تلم الورقة موضوع رائع لكاتبة القصة القصيرة السورية (غادة السمان)، وها قد ذهب علوان والهباب والكباب، وبقيت غادة السمان حية في عقول وذاكرة ملايين المثقفين العرب، وخالدة في كل كتبها التي أقتنيتها فيما بعد، وكانت سبباً كبيراً في صقل معرفتي بأبعاد القصة القصيرة.

   أما (بشرى)، الفتاة المُسلمة التي كانت تُبادلني الحب، والتي هربت من حياتي يومذاك خوفاً من أن تفتك بها عائلتها، فقد كانت تستعمل كتب والدها المتنفذ لحفظ وتجفيف الفراشات التي تصطادها من حديقة دارهم!.

   إمرأة من أقاربي أوصَت زوجها وأولادها أن يضعوا تحت وسادتها في كفنها بعد أن تموت دستة اللعب (ورق قمار)!، وأنا أوصيتُ عائلتي بأن يضعوا تحت وسادة تابوتي كِتاب شعر لشاعر شرقي لم يُهادن الداينصورات والمسوخ.

   بعض الناس في جاليتنا العراقية في المهجر -من طبقة المُترفين جداً- لهم مكتبات فخمة في قصورهم الفارهة تعج بالكتب السميكة التي جمعوها بطريقة عشوائية لإكمال شكل ورونق غرفة المكتبة!، ولا تهمهم نوعية الكتب ماداموا لن يقرؤوها!، المهم هو سمكها وتجليدها الأنيق، مثال سلسلة كتب (الأنسكلوبيديا) بأعدادها الكثيرة، أو مجموعة (قصة الحضارة - ول ديورانت)، فالكتب بالنسبة لبعض الناس ليست سوى قطع ضرورية مُكَمِلة لآثاث البيت وزينته وأبهته، بالضبط كالبيانو والأرائك والستائر والسجاجيد!، وكلما إلتقطوا صورة تذكارية .. يُحرصون أن تكون المكتبة في خلفية الصورة!!.

   قبل سنوات قالت لي إبنتي يوم كانت لا تزال طالبة، بأن أغلب تلاميذ مَدرَستِها يعتبرون كل من يقرأ الكتب ( Nerd*- نِرد )!!!!!. ولكن .. والحق يُقال فالمجتمع أو الشعب الأميركي مشهور ومعروف بالقراءة، وممكن للكاتب هنا أن يكون مليونيراً بسبب عدد القراء من الشعب الأميركي!، ونادراً ما يوجد أميركي لا يقرأ أو يقتني الكتب، وتراهم يقرأون في كل مكان، حافلة نقل (باص) أو طائرة أو مطار أو حديقة أو حتى أثناء قضائهم الحاجة صباحاً أو في أي وقت آخر!، وربما كان ما قالته إبنتي ينحصر في مجموعة من الطلبة في سن معين.

   أما في مدارس بغداد فكُنا نُطلق -تهكماً- على الشبان الذين لا يقرأون تسمية أو نعت (يندل دربة) .. وهو إصطلاح شعبي شائع ويعني حصراً الحمار الذي يعرف طريقه من كثرة الذهاب والإياب في نفس الدرب!.

   أما غالبية المجتمع العراقي -كنسبة مئوية-، قديماً وحديثاً، فلم تكن تقرأ ولا تُعيرُ الكتب أي إهتمام من أي نوع، ولهذا فالكتاب والشعراء العراقيين كانوا دائماً يتضورون جوعاً، ومات أغلبهم حزيناً فقيراً مريضاً في دول الشتات، ولم يحصلوا حتى على قبر في الوطن المقهور ليلف عظامهم المقرورة .

   وحول هذا الموضوع بالذات تحضرني قصة جميلة قرأتها ذات يوم عن (أبو الحسين الجزار)، وإسمه الحقيقي (جمال الدين يحيى بن عبد العظيم)، وهو من عائلة جزارين (قصابين) بالوراثة، تكَسَبَ بالشعر مدة من الزمن، ثم عاد لمهنة الجزارة، وذات يوم سئله أحد المتنفذين وإسمه (شرف الدين) عن أسباب تركه للشعر، فكان جوابه:

   لا تلمني يا سيدي شرف الدين ….. إذا ما رأيتني قصابا

   كيف لا أشكر الجزارة ما عشتُ ….. حفاظاً، وأترك الآدابا

   وبها صارت الكلاب ترجيني ….. وبالشِعر كنتُ أرجو الكِلابا

   * قرأتُ يوماً رأياً ل (رَي برادبَري- كاتب أميركي) يقول فيه:

   You don t have to burn books to destroy culture

   just get people to stop reading them

   Ray Bradbury

   يومها تسائلتُ: أليس هذا ما يحدث بالضبط لمجتمعاتنا الشرقية اليوم وبغض النظر عن الجهات المُسَبِبة !؟.

   ************************************************

   * Nerd

    نِرد: كلمة إنكليزية غير فصيحة، تُستعمل في وصف الطالب الذي يقرأ كثيراً وشكله ولباسه وشخصيته غير إعتيادية، ولا يشترك مع بقية الطلبة في الفعاليات الرياضية لأسباب عديدة منها عدم لياقته البدنية، وفي أغلب الأحيان يكون إنطوائياً وخجولاً وقليل الجرأة والإختلاط، وربما يقابلها كمعنى في لغتنا كلمة (بهلول أو أثول أو إنطوائي أو حتى خُنجَة)!. هذاعلماً بأن غالبية ال (Nerd,s) في أميركا يصبحون من أهم العلماء والمفكرين والسياسيين والشخصيات المهمة في حياتهم العملية لاحقاً.

     في سنة 1951 نشرت مجلة (نيوز ويك) تقريراً يقول أن هذه الكلمة ظهرت كإستخدام شعبي في مدينة ديترويت -مشيكان لأول مرة، وبحلول أوائل الستينات إنتشر إستخدام كلمة ( Nerd ) في جميع أنحاء أميركا وحتى إسكتلندا!.

   المجدُ للإنسان.

   مع تحيات الحكيم البابلي - طلعت ميشو.

   tommisho@gmail.com

  كتب بتأريخ :  الجمعة 21-11-2014     عدد القراء :  4299       عدد التعليقات : 0