الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ثقافة القتل التي لا يعتمدها الايزيديون

منذ بدء صيرورة العقل والوعي الديني عند الانسان كانت الايزيدية ، وكان معها وصاياها وأسس ديانتها التي تقف عليها ، تزامنت مع زمانها ومكانها عبر السبقات الدينية والنصوص المقدسة ، وعبر النصوص المحفوظة في الصدور وتعاليم القوالين ورؤى الكواجك والموروث الديني ، النصوص التي تؤكد على التمسك بالمحبة والتسامح والدعوة الى الخير ولم يكن الموت والقتل من بينها ، ولم يكن مطلقا وسيلة أو سبيل لنشر ديانتهم المغلقة عليهم ، والمفرطة بالتقييد والالتزام بحدود المكان ،وبالرغم من هذا التقييد والتعليمات الصارمة التي توجب طرد وعزل مخالفيهم من ابناء الأيزيدية أنفسهم ، لم نطلع على توجيه ديني في كل الأزمنة التي مرت على الأيزيدية ، وحتى الصعبة والمريرة منها ، يدفعهم للاقتصاص والغدر بمن يخالفهم في الدين والعقيدة ، ربما يتحاشونهم أو يقاطعونهم الا انهم قطعا لم يغدروا بهم ، ولم يتوجهوا لذبحهم وسبيهم وقتلهم بسبب اختلاف الدين ولا حتى انتقاما أو ثأرا منهم ، ولو في أحلك ساعات الغضب أو الحزن المر .

خلال تلك الممارسات الطقسية تبرز طقوس الصلاة والدعاء ، حين يتوجه الأيزيدي نحو الشمس ، نور الاله الساطع على الأرض ، فيتوسل لربه أن يمن على الناس لينشر الخير بينهم عموما ، ثم بعد ذلك ينشره بين أهله ، التوسل والخضوع الى الله يتم بغياب الناس المخالفين لهم في العقيدة ، ولا يحتاجون فيها الى موقف منافق أو ترضية لخواطر جيرانهم من المسلمين أو المسيحيين وقبل ذاك اليهود والزرادشتيين ، فهم يعتبرون طلب الخير والمحبة بين الناس والتسامح من أسس العقيدة الأيزيدية ، ومن موجبات الدعاء التي يتوسلها الايزيدي الى ربه .

يشهدون ان لا اله الا الله الواحد الأحد ، وهذه الشهادة بحد ذاتها تجعلهم في صف الموحدين ، ولا اشتراطات على الأيزيدي في دينه غير الأيمان الصادق بالعقيدة ، وصفاء القلب والسريرة تجاه الغير ، وأن يكون من ابوين أيزيديين .

هم يشهدون بأن الله واحد لا شريك له وليس له والد أو ولد ، وهم يؤمنون بالإنسان كيفما كان فقد خلقه الله جزء من روحه التي لا تفنى ، ومن حق الأنسان أن يؤمن بما يشاء ، فلا تكفير لهم ولامحرمات عندهم تجاه مخالفيهم في الدين ، ليس هناك من موانع سوى أن لا تسيء لدينهم ومعتقدهم ولا تسخر من طقوسهم ولا لبقية الديانات ، وأن لا تسمح لأحد أن يسخر من دينك وعقيدتك .

هذه النصوص الدينية تحرم عليهم الخيانة والغدر والسلب والنهب والكذب وقتل النفس ، وكما تحرم عليهم الاستحواذ على مال الغير ، أو التعدي على حلال آخر ، والمحافظة على عرض وشرف من يتخذونه ( كريفا ) ، فيصير أخا لهم في الدنيا ، كما يحرمون تحقير بقية الديانات وشتم انبياؤها ورسلها ، لهم طقوسهم الخاصة مثلما يحترمون طقوس الآخرين ، لابل يشاركون في طقوس الاخرين مشاركة انسانية ووجدانية .

تقول النصوص الايزيدية :

(( أنصح الناس بالخير ، وأقبل نصائح الخير من الناس ، ولا تتعب نفسك وراءها ، ولا تغضب عند سماعها ))

((علمتكم طريق الخير ، وعلمتكم طريق الشر ، وسهلت لكم طريق الخير لكي لا يكون لكم حجة يوم لا ينفع الندم ))

ولعل من يعرفهم عن قرب يتلمس تلك العلاقة الانسانية الصادقة معهم والأمانة التي تميزوا بها ، لم يكتب عنهم التاريخ الذي ظلمهم كثيرا أي موقف مشين ، فلم يستغلوا الخلافات السياسية في العراق ، ولم يستغلوا ضعف جهة ما ليقفوا ضدها ، ولم يكنوا معولا تتخذه السلطات لتهديم الأحزاب الوطنية ، لابل اصطفوا مع الثوار والحركات السياسية المطالبة بحقوق وحريات المواطنين ، ودفعوا عن ذلك ثمنا باهضا من حرية ودماء وأرواح شبابهم دليلا على ذلك .

عمل الخير ومساعدة الاخر والعطف على الفقراء والمساكين والتسامح والدعوة للمحبة والتآخي بين البشر والتمسك بالسلام من قيم المجتمع الأيزيدي التي يتفاخر ويعتز بها ، فلم يفكر أحد منهم أن يقتل أو يجرح انسان لأنه يخالفه في الدين ، ولم يقم أيزيدي واحد بسرقة مال أحد من غير دينة ، ولم يتعد على شرفه أو عرضه ، ولم يعرف عنهم انهم شكلوا مجموعات إجرامية تتخذ من الدين ستارا لتعتدي على أرواح الناس وتسلب أمنهم وحرياتهم .

ولعل ظاهرة الكرافة لدى الايزيدية جديرة بالتقليب والبحث والدراسة والتأمل، هذه الظاهرة الاجتماعية النبيلة التي تفرد بها المجتمع الايزيدي في المنطقة، وتميزوا بها بين كل الديانات التي حلت في نفس المنطقة ، كانت حقا ظاهرة إنسانية لم يسبقهم أليها شعب من الشعوب في الشرق ، وبالرغم من كون بعض الشعوب تمسكت بظواهر هي قريبة الشبه بالمكارفة، إلا ان ظاهرة الكرافة الايزيدية واسعة وصريحة وصارمة وتعبيرية عن بقاء الحس الإنساني لدى المجتمع الايزدي رغم الجراح والدماء والخسائر الفادحة التي بذلها الايزيديون ، دليلا أكيدا على تغلب قيم الخير في الإنسان على قيم الشر، وسيطرة قيم المحبة والأخوة الإنسانية على نوازع الكراهية والفجور والشر ، هذا مما يدعو وبشكل ضروري إلى التركيز لبحث هذه الظاهر الإنسانية والغور بعيدا في معانيها وانعكاساتها على المجتمع الايزيدي وشعوب المنطقة الأخرى .

وإذا كان الأيزيديون دعاة محبة وسلام فليس من باب الضعف أو الخنوع ، ذلك لأن قيم دينهم تدعوهم للتمسك والالتزام بها ، مثلما تجبرهم على التمسك بالمكان المقدس في لالش ، الا انهم لم تظهر عليهم في تاريخهم المليء بالتضحيات والموت والقتل ما يشين تلك الصفحات المريرة ، مصرين على أن قيم الخير ستنتصر حتما في النهاية .

ومع أن موجه الشر الأخيرة التي اجتاحتهم تتبرقع باسم الدين ، ومع أن الممارسات التي مورست ضدهم دليلا أكيدا على التناقض بين ديانة الذئاب التي يزعم مروجيها دعوتها للقتل ، وبين ديانتهم الإنسانية التي تدعو للمحبة ، ديانة الداعشيون تدعو لنشر قيمها بذبح الأنسان ونحره كالخراف ولا قيمة لأرواح البشر التي خلقها الله ، وديانة الأيزيديون تفتح صدور شبابها للتضحية من أجل الحياة ، ديانة تنتهك الأعراض والشرف ، وأخرى تدعو للتماسك الإنساني والأخوة والشرف ، ديانة يزعم مروجيها انها تحمل نصوصا تدعو للقتل وإيذاء الآخر وسلب ماله وحلاله وشرب دمه ، وأخرى تدعو لاحترام آدمية الإنسانية وعقيدته وحريته فيها ، فأي الطرفين سيبقى وينتصر في النهاية .

أن حتمية انتصار قوى الخير معروفة تاريخيا ، وهي من المسلمات التي اثبتتها تجارب الحياة البشرية ، كما أن الهمجية واندفاع الأشرار يمكن أن تحدث ضررا بليغا بالحياة الإنسانية ، ويمكن أن تجعل بعض القيم تضعف أو تتزعزع القناعة عند بعض الناس ، الا انه في كل الأحوال ومهما كان الأثر والنتائج والخسائر بليغة وكبيرة ، فأنها ستكون شاهدة من شواهد التمسك بالفعل بقيم الأنسان الجميلة ، وعلى اندحار الأشرار ونهاية المجرمين ، وعودة الحياة الإنسانية الى مجراها الطبيعي كما أرادها الله .

ستنتهي داعش حتما ، وستنهي لعبتها وسيتوقف من يحركها ، ولكن سوف لن تشفى الغل والقيح المتجذر في عقول وصدور الحاقدين ، وسيلملم الأيزيديون قتلاهم ، ويستقبلون بناتهم بالدموع ، ويستذكرون أطفالهم المدفونين في الجبل ، ويقيمون مآتمهم لفقدانهم الأحبة من شيوخهم ورجالهم ، ويشيدوا النصب لأبطالهم وتضحياتهم التي ترفع الراس ، وسيتحدثوا لأجيالهم القادمة عن تلك الصفحة الغادرة ، غير أنهم سيرفعون مرة أخرى اكفهم عند شروق شمس الصباح الى الله يدعون بالخير لكل الناس ، ثم يطلبونه لأنفسهم وعيالهم ، وستعود الأيزيدية أقوى مما كانت .

  كتب بتأريخ :  الخميس 18-12-2014     عدد القراء :  3723       عدد التعليقات : 0