الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
اقليم البصرة.. بين الوهم والواقعية (1-2)

علينا جميعا ان نعترف اولا ان (ادارة مدينة البصرة) لم تكن في اي يوم من الأيام منذ نشوئها حتى اليوم إدارة عادلة او متمكنة لضمان حقوق مواطنيها.

لم يكن بمقدور هذا المواطن أن يكون سيد قراراته في ظل الانظمة المختلفة التي تعاقبت عليه وعلى مصيره . كانت المناسبات التي مرت على البصرة من دون ضغوط واضطهاد نادرة جداً، محدودة جداً.

المجتمع البصري في الحاضر والماضي ظل مجتمعا مقهوراً لم يعرف الحظوظ ولا الخطوط التي رسمتها جمهورية افلاطون، ولا التي رسمها جان جاك سيمون في ادارة الدولة ..كان السبب في ذلك هم اصحاب السلطة السياسية ،الشرعية منها وغير الشرعية ، من المحتلين الأجانب أو من أهل البصرة ذاتها.

الحقيقة التي يجب التذكير بها أن البصرة واجهت حالة من المطالبة بشكل من اشكال (الاستقلالية) في زمان سابق لم تكن فيه (افكار الفيدرالية) و(الحكم الذاتي) و(ثقافة اللامركزية) و(مصطلح الاقليم) قد انتشرت ،بعدُ، داخل الحركة السياسية او الاجتماعية في البصرة و العراق. كان ذلك عام 1921 .

في 13 حزيران من ذلك العام ، أي قبل قدوم الملك فيصل الأول وتتويجه، تقدمت مجموعة من وجهاء البصرة وقادتها في تلك الفترة بطلب خاص إلى السلطة البريطانية المحتلة ، موقع من قبل: (طه السلمان، وعبد الرزاق النعمة ،وعلي الزهير، واغا جعفر، والشيخ ابراهيم الزبيري، وسليمان الغماس، وعبد السيد العويد، وكباشي السعد، واحمد الصانع، وعبد اللطيف المنديل، وعبود الملاك، وسليمان الزهير ، ويوسف عبد الاحد عن المسيحيين ويعقوب نواح عن اليهود ). هذه المجموعة من قادة البصرة في تلك الفترة وجدت ان استقلال مدينتهم عن المركز في بغداد هو نوع من الترسانة القانونية التي تضمن تطور مدينتهم تطوراً حراً سريعاً بافتراض تقاربهم مع السلطات البريطانية (العسكرية - السياسية) المسيطرة على كل العراق ، أنداك، املين انهم اذا ما حصلوا على ترخيص بريطاني بهذا النوع من الاستقلالية وتحويل البصرة الى (ولاية) متكافئة الصلاحيات مع (الولاية العراقية المركزية) في بغداد. بهذا التكافؤ يمكن للبصرة، من وجهة نظرهم، أن تضمن لنفسها حالة من التقدم في جميع المجالات.

فقد جاء بعريضة وجهاء البصرة المقدمة الى السير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق ما يلي:

1 (من المعلوم جيدا ان الميزات الخاصة بالبصرة كانت سببا في تباينها منذ اعوام عديدة عن الاراضي العراقية الواقعة شمالها وهي التي سيطلق عليها فيما بعد اسم العراق الى هذه الاعتبارات ) ولما كانت البصرة بحسب موقعها الطبيعي ثغرا تتبادل فيه التجارة الدولية لذلك أمـّها منذ اعوام عديدة عدد ليس بالقليل من ابناء العرب وغيرهم من الاجانب ولا يزال عددهم ينمو نموا متواليا والمرجح ان يزداد ازديادا عظيما جدا في المستقبل القريب وقد كان من دوام الاختلاط بالشعوب الاجنبية تأثير على اهل البصرة ذهب بهم الى الاعتقاد بأن تقدمهم سيكون مخالفا في نوعه وسرعته لتقدم العراق). انظر صفحة 308 من مذكرات سليمان فيضي دار الساقي 1998 .

2 - (رجاؤنا هو أن تصير مقاطعة البصرة مقاطعة منفصلة تحت اشراف أمير العراق او اي حاكم ينتخبه اهالي العراق وتكون هذه الرابطة بين البصرة والعراق وحدة يطلق عليها اسم ولايتي العراق والبصرة المتحدتين ). نفس المصدر السابق.

3 (يكون للبصرة مجلس تشريعي منتخب خاص بها يكون لهذا المجلس السلطة التامة في التشريع المختص بالشؤون المحلية المحضة ولحاكم الولايتين المتحدتين الحق في رفض او طلب تعديل اي تشريع يمس بمصالح اهل العراق). نفس المصدر السابق ص 309 .

هذه ثلاثة مطالب رئيسية من مجموع 23 مطلبا تناولت فيها عددا من القضايا الادارية والضريبية والدفاعية وردت في عريضة حملت نوعا من التلميح الصريح الى ضرورة تمتع مقاطعة البصرة بـ(الحكم الذاتي).

لكن هذه المطالب لم تجد لها مؤيدين من كل وجهاء البصرة فقد وجد البعض منهم ان مفهوم استقلالية البصرة كما ورد في العريضة هو مفهوم معقد الى حد بعيد في الظروف التي تمر على البصرة والعراق ومنطقة الشرق الاوسط كلها . لذلك اعلنوا عن معارضتهم لهذه العريضة، التي لا تطابق الواقع ، وبالتالي فأنها ليست في صالح اهالي البصرة لا اداريا ولا مدنيا ولا قانونيا ولا سياسيا . كان المعارضون لهذا المشروع كل من : (محمد زكي، عبد العزيز المطير، عمر فوزي، محمد امين باش اعيان، الحاج احمد حمدي الملا حسين) ، علما بأن احد القادة الانكليز الذي كان يقف الى جانب المطالبين بالاستقلالية قد هدد المعارضين بالاعتقال بسبب موقفهم هذا .

يمكن للقارئ الكريم النظر الى عريضة مجموعة عام 1921 المطالبة باستقلالية مدينة البصرة، المتحدة مع العراق من الناحية الجوهرية ،وليس الشكلية، مقارنة مع المطالبة عام 2014 بـ(إقليم البصرة) من حيث الاعتماد على الظروف الخاصة لمدينة البصرة، ومن حيث الوضع القانوني لهذه المطالب، ومن حيث الحرية والعدالة كأداتين لتحقيق التقدم والتطور. في كلا الحالين يجد المواطنون نوعا من الجدل والحوار بين مجموعة من (الافراد) و(المجتمع) ، بين مجموعة مسئولين في محافظة البصرة والحكومة المركزية والبرلمان العراقي.

في الوقت الحاضر كان بعض اهالي البصرة ، من الحكام والبرلمانيين، منذ عام 2003 وما قبله حتى اليوم، يعتقدون ان الدولة العراقية تنقسم الى قسمين: (أعلى) و(أدنى).. الأعلى هم الحاكمون في بغداد ، والأدنى هم الحاكمون في مجلس محافظة البصرة . أما غالبية اهل البصرة فقد ظلوا يعيشون في مجتمع اشد تخلفا من جميع المجتمعات في المحافظات العراقية كافة ، رغم ان البصريين ينتجون ، كل عام، نفطا من اراضيهم يموّل 90 بالمائة من الميزانية العراقية العمومية. احيانا يخالجهم شعور المتعة بهذا المقدار من الإنتاج باعتبارهم أصحاب الأرض الأغنى في بلاد الرافدين، خاصة بعد تدهور الثروة الزراعية بهبوط انتاجية محاصيل النخيل هبوطا مريعاً ، خصوصاً منذ عام 1980 . في غالب الاحيان يخالجهم أيضاً شعور سلبي محبط حين يدركون بأنهم مضطهدون ومستغلون الى الحد الاقصى ، حتى في ظل نظام ديمقراطي معلن بنى نفسه بعد سقوط النظام الدكتاتوري القمعي الاستغلالي في نيسان عام 2003.

الواقع المأساوي الذي يعيشه اهالي مدينة البصرة جعلهم يلقون لومهم ليس فقط على (حكام الفوق) في بغداد، بل على (حكام التحت) في محافظة البصرة ،ايضا ، وهم في هذا اللوم محقون تماما لأن حكام الفوق والتحت خلال السنوات العشر الاخيرة كانوا مهتمين بشهواتهم المادية ،الذاتية ، بعد ان تملكت اغلبهم نزوات غير طبيعية انهكوا بها اقتصاديات المدينة بمشاريع وهمية أو ثانوية، وفرطوا بمصالح الناس، خاصة الناس الفقراء مهملين بذات الوقت اي بناء للقوى الاقتصادية التحتانية الهادفة الى رفع مستوى معيشة المواطنين. أهدرت بذلك مليارات الدولارات بأبواب من المصروفات الخلفية والامامية واضاعت بالتالي جميع امال الجماهير الشعبية.

من دون شك ، كان هناك في البصرة قليل من الحاكمين مخلصين لوطنهم العراق. يريدون للبصرة التقدم ولأهاليها العيش الكريم. كانوا قد ركبوا خلال عشر سنوات سفينة اصلاح ما افسده دهر نظام صدام حسين، لكن السفينة حملت اشرعة حزبية عديدة ، متصارعة ومتنافسة ومتناقضة، في طقس بلا رياح فسيطر كثير من الفاسدين على أموالها واعمالها في سبيل تحقيق اهدافهم الشريرة لمزاولة نهب المال العام بمهارة وبأساليب متقنة من دون اي ضمير او احساس بالمصلحة العامة كما هو الحال في جميع محافظات العراق.

انشأت في مدينة البصرة خلال السنين العشر الاخيرة شهوات شلّة من الفاسدين في نهب المال العام وايقاف سطوة القانون وانتشار النزوات لدى المسيطرين على دفة الامور من الرأسماليين الجدد ، المتخفين وراء الدين الحنيف بشعارات الاسلام السياسي، الذين سرعان ما امتلكوا ملايين ومليارات من الدولارات حوّلوها إلى حساباتهم في البنوك الأجنبية . يقابل هذه الظاهرة على النطاق الجماهيري مظاهر أخرى:

1- نشوء (سخط جماهيري شديد) على تقصير الحكومة المحلية في (مدينة) البصرة وعلى نطاق جميع الاقضية والنواحي.

2- نشوء حالات من (التشنج) الجماهيري الشديد بسبب انعدام معظم الخدمات، وعدم تطوير مؤسسات الخدمة الاجتماعية والاقتصادية ،وهدر المال العام، وارتفاع نسب البطالة، وخضوع دوائر المحافظة لمصالح الرأسماليين التجاريين والمقاولين.

3- بسبب (السخط) و(التشنج) نتج عنهما (توتر شديد) في العلاقة بين (الجماهير) و(الحكومة ) مصحوباً بأنواع مختلفة من المظاهرات والإضرابات والاعتصامات المحدودة، كانت قادرة على التعبير الجماهيري المناهض لمواقف وخطط الحكومة المحلية الفاشلة والفاسدة، لكنه ظل تعبيراً لا يسمعه أحد ، لا في حكومة بغداد ولا في حكومة البصرة، ولا حتى من المطالبين بالتحول إلى إقليم، من مثل وائل عبد اللطيف و خلف عبد الصمد اللذين كانا بوظيفة (محافظ البصرة) لفترة من الزمن.

من الطبيعي ان (السخط) و(التشنج) و(التوتر) يجعل الناس بالنتيجة يائسين من الحصول على حقوقهم أو تلبية مطالبهم في العيش الكريم، خاصة وانهم يرون بأم اعينهم تصاعد حالات الفساد المالي الى جانب التدهور المتسارع في توقف المؤسسات العامة عن تقديم الخدمات اليومية المطلوبة على يد الطبقة الرأسمالية الجديدة المتسلطة على رقاب الناس الفقراء. لا همّ لدى أغلب الحاكمين في المدينة، المنكوبة بالفقر والجهل والمرض، غير اصطياد الفرص التي تزيد من ثرائهم.

بعض التشكيلات الوظيفية في محافظة البصرة المتكونة من بعض اعضاء مجلس المحافظة ومعهم بعض اعضاء مجلس النواب كانوا قد بلوروا قيماً قانونية معينة من قيم الدستور العراقي الجديد فاطلقوا عام 2008 - 2009 موضوع تحويل (محافظة) البصرة الى (اقليم) ظناً منهم ان تحويل العناوين يكفي لتغيير حال الناس. لكنهم لم يدركوا أن مجرد تلفظ او سماع كلمة (اقليم) لا تضع البصرة على طريق التطور من دون تطوير الشخصية الانسانية والثقافية لأهالي البصرة عموما ، ولقادة محافظتها خصوصا. فمن دون إخلاص وطني عال المستوى للإنسان القيادي ، الحاكم والبرلماني ، يبقى أمل تطوير حياة سكان البصرة مجرد خيال او سوء استعمال لخيال بعض قادة المحافظة، الذين يدعون هذه الايام، من جديد، على الشاشات التلفزيونية الى تحويل (محافظة) البصرة الى (اقليم) ظنا منهم ان بإمكانهم تقليد تجربة (اقليم كردستان) التي تطورت تدريجيا عبر تاريخ كفاحي طويل خاضه الشعب الكردي بوسائل سلمية تارة وبالسلاح ضد الدكتاتورية ، تارة اخرى. لم يكن تحديث إدارة اقليم كردستان عملية استنباطية مجردة وليست مسألة اشتقاقية مجردة، بل هي نتيجة ظاهرة حياة نتجت عن وعي الانسان الكردي، القومي والسياسي، الذي عومل طيلة تاريخ ما يسمى بالحكم الوطني في العراق منذ عام 1921 حتى عام 1991 بمواقف العنف والإهمال والقهر من الحكومة المركزية ، حتى كانت انتفاضة الشعب العراقي في آذار عام 1991 قد اجتازت بثوريتها حدود الغموض فيها وفي اسبابها .أصبح التصور الشائع لدى المواطنين الكرد كلهم ان ساعة الخلاص من دكتاتورية نظام صدام حسين قد حلت وقد كانت ماكنة الامم المتحدة والولايات المتحدة تعمل بتأثير منقطع النظير من اجل المساعدة في تحرير شعب كردستان العراق من ظلم الدكتاتورية، صانعة مجازر حلبجة والانفال واعطي ناتج الانتفاضة لكردستان واقعاً إدارياً جديداً تحت اسم (اقليم) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 18 – 12 – 2014

  كتب بتأريخ :  الإثنين 22-12-2014     عدد القراء :  3852       عدد التعليقات : 0