الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
غريب على إقليم البصرة

لن يغنّي أحد من بعده لدروب " وفيقه " التي تاهت في الغربة ، مثلما لن يكتب الشعراء من بعده مثل "غريب على الخليج".. ولن يعاتب عاشق وطَنَه بمثل ما عاتب السياب:

البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون..

والبحر دونك يا عراق

لم يكن بدر يُدرك أنه سيحزن القرّاء لقصائده التي أرادها في بداية حياته مثل نبوءة مفزعة تؤذن بعصور الخراب ، ومثلما نتأمل في مراراته وأحزانه وذكرياته، نتذكر تلك الجواهر من القصائد التي زين بها الشعر العربي، نتذكر ذلك الفتى النحيل الذي حط الرحال من البصرة ، قاصدا دار المعلمين العالية ليلتقي بنازك الملائكة ، ولميعة عباس عمارة وبلند الحيدري ومن بعدهم عبد الوهاب البياتي ..الأولى وضع معها أسس الشعر العربي الحديث ، والثانية كتب لها أجمل قصائد الغزل ، والثالث جرّب معه الغربة التي تنبأ فيها الاثنان بأن رحلة المنافي ستستمر أعواماً وأعواما ليكتب بلند بأسى :

فلقد جردني حراس حدود الوطن المنكر

حتى من جلدي ومن لحمي

حتى من حلمي في أن أولد في الجرح

الشاب الذي وقف أمام أستاذه محمد مهدي البصير جاء يحمل فقر الحال وغنى الأمنيات ليصوغ منهما صورة لوطن جديد، بوسع الآمال اسمه العراق ، وحلم أن لا يعيش غريبا على الخليج.. وأن لا يصرخ سدى.. عِراقُ، عراقُ..ولا يردُّ سوى الصدى.

لم يحلم بما لم يحلم به العراقيون من قبل بأكثر من حياة كالحياةِ، وأن يموت على طريقته ، " بأكثرَ من يدين صغيرتين تصافحان غيابنا".

بدر كان مغرماً بما يكتب ، يعتقد أن الفكر والشعر سيصنعان بلداً يكون ملكاً للجميع، و مجتمعاً آمناً لا تقيّد حركته خطب وشعارات ثورية، ولا يحرس استقراره ساسة يتربصون به كل ليلة... ديمقراطية، تنحاز للمواطن لا للطائفة، وتنحاز للبلاد لا للحزب والعشيرة.، عاش السياب أسير أحلامه، متنقلاً في الشعر والحب والمرض ، من ": أزهار ذابلة إلى أساطير التي تنبأ فيها روفائيل بطي بمجد الشعر لهذا الشاب الخجول ، مروراً بالأسلحة والأطفال وحفّار القبور، وأنشودة المطر لينتهي وحيدا يئن على بلاد تنكر أبناءها لأنهم لا يمارسون الخديعة، ولا يحملون صور قادتها الجدد ، ولا يهتفون لهم في الساحات .

مات السياب قبل نصف قرن وفي عينيه عتاب، فالبصرة استبدلت ثوب الحياة برداء الحشمة والفضيلة الزائفة ، وقد استولى عليها البعض ممن يفرضون كثيرا من الكآبة على الحياة معززين ثقافة الظلام، يبددون الأمل ويحاصرون التفاؤل، يأمرون الناس بالكف عن ممارسة الفرح الذي لم يعد مهنة العراقيين بعد أن سادت مهن جديدة مثل العصابات وفرق الموت والعلّاسة والحواسم وأمراء الحرب الطائفية وكل هؤلاء يتبارون في كيفية ذبح السعادة والفرح ووأدهما في مقبرة الظلام.

طوال حياته ظلّ السياب يشعر بأنه بلا قيمة في مدينته البصرة وأنها لا تريده ولا مكان له فيها. وبعد نصف قرن على رحيله نجدها مشغولة بالأقاليم ، عن ذكرى شاعرها الكبير . وعندما دخل المستشفى في الكويت حيث مات غريبا كتب : لا أحد يسأل عني . سوف أموت حيث يرميني مصيري المجهول . كم أتمنى أن أعود إلى حيث ولدت:

هو الموت جاء

لصوص يشقّون درباً إليه

هو الموت عبر الجدار

و لا شيء غير انتظار ثقيل

ألا فاخرقوا يا لصوص الجدار

فهيهات هيهات مالي فرار

نتذكر السياب مثلما نتذكر أنَّ الشعرَ والغناء تجربَةٌ ومنفى، " توأمان ونحن لم نحلُمْ بأكثر من.. حياة كالحياةِ، وأن نموت على طريقتنا: عِراقُ.. عراقُ.. ليس سوى العراقْ.

من سيقرأ في شوارع البصرة شيئاً من " شناشيل ابنة الجلبي " ، من يسمعنا بدلا من برامج الردح السياسي : الشمس أجمل في بلادي من سواها ،والظلام حتى الظلام هناك فهو يحتضن العراق . . واحسرتاه متى أنام فأحسّ أنّ على الوسادة من ليلك الصيفيّ طلاًّ فيه عطرك ياعراق!

تكتب خالدة سعيد في رثاء السياب :" من قلب أرض عريقة في الكآبة والحرمان، مبطنة بالشعر والتاريخ، ومع تباشير الوعي الفكري والحضاري، ارتفع صوت السياب ".

متى أعود، متى أعود

واحسرتاه… فلن أعود إلى العراق.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 22-12-2014     عدد القراء :  3444       عدد التعليقات : 0