الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الغلو والتطرف في مدينة الاعتدال والقانون

لاهاي- كانت مدينة لاهاي يوم 10 - 1 - 2015 تشهد أمطارا غزيرة، مصحوبة برياح عاتية فرضت على السيارات التحرك بحيطة وهدوء، حسب توجيهات شرطة المرور، التي تقوم ببثها عبر الراديو والتلفزيون. في تلك الساعة كنتُ وصاحبي نظن أن قلة تحت هذا الطقس الغاضب والمتطرف سيشارك في أمسية الاستماع إلى محاضرة الدكتور رشيد الخيون عن “التطرف والغلو”.

موضوع التطرف والغلو لا شك أنه على غاية من الأهمية، خاصة في فترة حرجة يمرّ بها العالم كله في تلك الساعة، التي تصاعد فيها إرهاب العناصر الإسلامية المتطرفة بكل نباتاتها ومساراتها؛ من تنظيم القاعدة إلى جبهة النصرة، وداعش المولود في العراق وبلاد الشام بأشنات مكروهة الرائحة.

وقد خلف الإرهابيون المتطرفون جريمة كبرى في مدينة باريس التي تحمل أجنحة الحرية الزرقاء في القارة الأوروبية، حيث أن مجموعة صغيرة العدد شديدة العدوان والخطر، تشبثت بالجريمة، فقتلت 17 مواطنا فرنسيا في يوم واحد.

تراث التطرف

في ظل الطقس الممطر بلاهاي والطقس الناري بباريس وجد العراقيون في مدينة العدالة، والقانون، والمهندسين، والعلماء، والشعراء، وأصحاب الملايين أنهم أمام تحدّ كبير لعبور العتبة الصعبة لحضور ندوة تبحث في أصول الغلو وحدّة التطرف وسهول الحرية.

تعلّم العراقيون من الهولنديين أن لا يوقفهم شيء من أخبار الدنيا الملتهبة أو لا طقس رديء عن العمل والنشاط؛ لا حرّ ولا برد، ولا مطر مهما كان غزيرا، يمنع الناس في هولندا عن نشاط منتدى علمي. بروح التوثب العراقي، فاقوا كل المتوقع في تحدّي غضب الطقس الساخط.

لقد حافظوا على الوعد الطيب بالدقة التامة، وبحضور كثيف، ليشاركوا جميعا في الاستماع والمناقشة، مع ضيف غزير المعرفة التراثية، قدم من لندن متنشقا ضوع التراث العربي والإسلامي عن التطرف الديني في التاريخ والحاضر.

بدأ الدكتور الخيون محاضرته بتذكير جمهرة الحاضرين بنهر دجلة، حيث افتتح محاضرته بأربع أبيات ليست من الغزل، بل من الشوارد المليحة المستقيمة مع تركيب مضمون محاضرته.

اختار سبوطة الشعر وجزالة المعاني من قصيدة الشاعر العظيم محمد مهدي الجواهري “المقصورة” التي كان مستهلها “ودجلة إذ فار أذيّها / كما حُمّ ذو حرد فاغتلى”.

   المحاضر قدم ملخص نظرته عن نموذج الغلو والتشدد في أفكار ابن تيمية وصولا إلى الخميني مرورا بالمرابطين

أدخل في الحال إلى مسامع الحاضرين أوصاف المنظر الأول عن محافل “التطرف والغلو” القديمة حيث تركز تدوير المحاضرة على ظاهرة “الحمس”.

الحق أقول إنني لم أكن أعرف شيئا لا عن معنى كلمة الحمس ولا عن أهل الحمس، لكن سرعان ما بيّن لنا المحاضر معنى الحمس وأهله. لقد تبيّن أن “الأحمس” هو الشديد الصلب في الدين والقتال، كما أورده الخيون عن صحاح العالم اللغوي المعروف إسماعيل بن حمّاد الْجَوْهَري (توفي 393 هجري).

استرسل رشيد الخيون في القول والأمثلة منغمسا في تقديم المعلومة تلو الأخرى من التاريخ العربي- الإسلامي الموثق. كانت المعلومات تترى في أقواله عن متون “الغلو والتطرف”، متحدثا أولا عن الحمس، لينتقل بنا إلى أخبار مكة وأخبار قريش ويتحدث عن شرائع كثيرة، وصولا إلى بعض الأحداث العربية- الإسلامية القديمة في ما يتعلق بـ”دولة الملثمين”.

كما قدّم ملخص نظرته عن نموذج الغلو والتشدد في أفكار ابن تيمية، وصولا إلى الخميني مرورا بدولة “المرابطين” في المغرب (448 هـ)، ليكشف مدى التطرف الديني في نظام “الحسبة” مع أنه كان مفيدا في المعاملات الإسلامية بالأسواق، لكنه يبدو في العصر الحالي عنيفا.

خطر العقيدة

لم يسمح الباحث لنفسه أن يمرّ على التشدد والغلو من دون أن يذكر محمد بن عبدالوهاب زعيم الوهابية، ثم قدّم خلاصة معاني التطرف والغلوّ بالقول:

“التطرف لم يستخدم قديما كمصطلح يفيد التشدد أو الغلو لكن نجده في القواميس ما يشير إلى هذا المعنى، فمن يقول طرفت الناقة فمعنى ذلك أنها تطرّفت أي رعت أطراف المراعي ولم تختلط بالنوق”.

أما الغلوّ فقد أوضحه بمعان كثيرة منها: غلا في الأمر يغلو غلوا أي جاوز فيه الحد. غلا السعر أي ارتفع، غلا السهم وغلوت بالسهم أي رميت به أبعد ما تقدر، والغلواء سرعة الشباب وأوله، تغالى لحم الناقة إذا ارتفع، وذهبوا الغلو، وأضاف أنه موجود في كل مناحي الحياة، مثلا إن الذين ماتوا عشقا كانوا مغــالين.

كما أكد أن أخطر أنواع الغلوّ من الناحية الاجتماعية هو الغلو الديني بشقيه من حيث العقيدة والعبادة، وقد أشار القرآن إلى شأن العبادة أو العملي من التطرف والغلو في سورة النساء الآية 171: “يا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ“.

   كان الخيون حريصا على تمحيص ومقارنة أجوبته بأسلوب جذّاب، وبوسامة تعبير فيه نكهة التراث وفكاهة المعاصرة، دون أيّ غموض

وأوضح أن تكوين أي حزب على أساس عقيدة ما من العقائد الدينية يؤدي بشكل من الأشكال إلى نوع خطير من أنواع التطرف، لأن المتطرفين يصبحون مطالبين بتطبيق الشريعة متكلمين باسم الله، كما ان نوعا آخر من التطرف يمكن ان يظهر في أحزاب غير دينية.

أما أسباب نشوء التطرف والغلو فهي: 1 - الخطاب الديني المتشدد. 2 - الفقر الثقافي والعلمي بين أفراد الشعب. 3 - الواقع الاجتماعي المنقسم مذهبيا وعشائريا.

بهذه الصور الدقيقة استطاع رشيد الخيون أن يربط بين التراث والمعاصرة، حيث يعاني الوطن العراقي كله من ظلام التطرف بسواد شعارات دولة الخلافة الإسلامية (داعش)، حين هجمت في العاشر من يونيو الماضي من أسراب وحشية دموية متطرفة بدءا من محافظة نينوى، كان غلّها قاسيا بأشد أنواع القسوة على أرواح الناس وأراضيهم وأعراضهم وأملاكهم، في مساحة واسعة شملت ثلث مساحة العراق، فامتزج السواد بين دجلة والفرات، كما امتزج فيها دم المسلم مع أخيه المسيحي والكردي والإيزيدي وغيرهم. وضاع في هذه الغزوة الهمجية الغسق العراقي الذي سيظل منتظرا فجر تحرير كل شبر من الأرض العراقية.

قبل اختتام الأمسية تعددت أسئلة ومداخلات الحاضرين حول المعرفة التراثية- التاريخية التي قدّمها المحاضر. وتطرقت أجوبته إلى مزيد من شرح المواضيع التي تحدّث فيها وعنها، بما فيها مواضيع سياسية معاصرة عن الغلوّ الذي يزأر في الوقت الراهن بأمكنة مختلفة من العالم.

كانالخيون حريصا على تمحيص ومقارنة أجوبته بأسلوب جذّاب، وبوسامة تعبير فيه نكهة التراث وفكاهة المعاصرة، دون أيّ غموض وبلا غوص في التعميم والتفاصيل، فكان قادرا من خلالها أن يبين حقائق تاريخية كثيرة مسندة إلى منهجه في توثيق المعلومة التاريخية بأسودها وأحمرها وأبيضها. وأنهى كلامه الأخير بتلخيص لمعاني التطرف والغلوّ المنتخبة بعناية، وبأمثلة وثيرة للسائلين والمعقبين.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 20-01-2015     عدد القراء :  4122       عدد التعليقات : 0