الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
التطرف الدِّيني.. البداية قبيل الإسلام!

قد لا يستغرب مَن يُطالع ظاهرة «الحُمْس» قبيل الإسلام ما يشوب حاضرنا من تطرف ديني، يقود إلى التكفير وبالتَّالي القتل. فالأمر، حسب تلك الظَّاهرة، قد سبق الإسلام، ليأتي فيما بعد ويصل به المتشددون إلى ما يحيطنا من جماعات التكفير والإيغال بالشّعائر، باستدراج الماضي ليكون هو الحاضر. من المعلوم أن الغلو دينياً يأتي على ضربين: العِبادي وهذا ما يخص الفرد، وقد أشار إليه القرآن في أكثر من آية، والآخر العقائدي، وهو الأخطر، وما أرى الثاني إلا وارداً من الأول، في الغالب من الحالات.

ذلك أنه عندما تتوافر الأسباب والظروف، لا يرى المغالي في عبادته مَن لا يعبد على طريقته إلا خارجاً عن الدين، ولعل الممارسة والفكر الدِّينيين هما الأكثر خطورة من غيرهما، ذلك إذا علمنا أن العقائد أو الأيديولوجيات كافة قابلة للتطرف والغلو، لكن خطورة الأولى، وعلى وجه الخصوص عندما تعبئها الأحزاب والمنظمات الدِّينية، تتحول إلى فعل جماعي عنيف باسم الله.

إن في عرض قصة «الحُمْس»، والمفرد أحمسي ومعناها المتشدد في دينه (الجوهري، الصِّحاح)، فائدةً، فما يفعله المتشددون في دينهم اليوم، له صِلة بما قبل الإسلام، وليس بالضَّرورة اقتران التفاصيل، فالمهم الفكر والممارسة، سواء كان في الإسلام أو سواه.

فبعد سلامة البيت الحرام في عام الفيل (ق 6 م)، وفق القصة المشهورة، أخذت قريش وأحلافها من العرب، كردة فعل، تزداد «في تعظيم الحرم والمشاعر والشّهر الحرام، ووقروها، ورأوا أن دينهم خير الأديان وأحبها إلى الله، وقالت قريش وأهل مكة: نحن أهل الله وبنو إبراهيم خليل الله، وولاة البيت الحرام، وساكنو حرمه، وقُطانه، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف العرب لأحد مثل ما تعرف لنا» (الأزرقي، أخبار مكة).

ثم يأتي محمد بن عبدالله الأزرقي (ت 250 هـ)، ويُعتقد أنه جمع كتاباً لجده في هذه الأخبار، على ما فعله الحُمْس في دينهم، وقد تعصبوا بفعل ما حصل للبيت: لم يسمحوا لغيرهم وحلفائهم بالطواف بملابسهم، وخيروهم بين الطَّواف عراةً أو بثياب تباع لهم أو تُكرى عند الباب، وعلى وجه الخصوص للطواف «الصرورة» أي الطائف لأول مرة. ولا يسمحون لغيرهم بجلب طعام إلا أن يشترى من طعام الحُمْس أو إكراماً. ولا يطعمون السّمن، ولا يتخذون الأقط (اللَّبن الحامض). لا يدخلون بيت شعَر، ولا يستظلون في بيوت الأدم (الجلد)، ولا يدخلون البيوت، خلال الموسم، من أبوابها، بل كان كلٌّ منهم يثقب ثقباً في ظهر بيته ويدخل ويخرج منه، أي يحرمون المرور تحت عتبات الأبواب.

كذلك امتنعوا عن شعائر الموسم الأُخر، فتركوا الوقوف على عَرفة والإفاضة منها، وكانوا قبل ذلك يمارسون هذا الطَّقس، وقالوا: «نحن الحُمْس أهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرم، ولا نعظم غيره» (الأزرقي، أخبار مكة). ثم اشترطوا على مَن يزوجون من العرب أن يكون الأولاد على دين أُمهاتهم «حُمْس»، حتى «صار هذا كلُّه سُنةً» (المصدر نفسه).

فكانت العرب حينها على دينين «حُلة ومحُمس». الحُمْس هم قريش وما ولدت بناتهم من أزواجهنَّ من غيرهم وكنانة وخزاعة والأوس والخزرج وبقية الحلفاء، أما الحلّة فبقية العرب. نجد أن الشَّيخ محمد بن عبدالوهاب (ت 1206هـ) قد أشار إلى ما زاده الحُمْس على دينهم، في «مختصر سيرة الرَّسول»، ولربَّما إشارته تتعلق بما حارب من ممارسات بمنطقة نجد آنذاك، أو وردت بلا قصد. أقول هذا لأن العديد مِمَن كتبوا السيرة من المعاصرين لم يمروا بخبر «الحُمْس».

جاءت آيات عديدات في إبطال تطرف الحُمْس واشتراطهم على غيرهم في الحج أو الاعتمار، أو في العبادة. منها: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ منْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ منْ أَبْوَابِهَا»(البقرة: 189)، وما يخص الثياب والطَّعام، «يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا» (الأعراف: 31).

يُذكر، مثلما يحدث اليوم من تصرفات المتشددين تجاه المخالفين، كان كل مَن يُخالف معتقد الحُمْس «ضُرب وانتزعت منه» ثيابه. ولذا فزماننا بحاجة لإزاحة بعض مما يُلقن في المدارس من منهاج ليس بينه وبين «الحُمْس» سوى خمسة عشر قرناً، نعم، إنه دهر دهير! ولكنّه كالنَّهر الرَّاكد توقفت مياهه عن الجريان، فنبت ما نبت على شطآنه، بدعواهم أن ما أضافوا من مغالاة وتحَمْس صالح لكلِّ زمان ومكان!

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 27-01-2015     عدد القراء :  3669       عدد التعليقات : 0