الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
بناء الأمة- الدولة ومشكلة الانشطارات الدينية/ المذهبية- من التسييس الى العسكرة : مقاربة سوسيولوجية - سياسية (نموذج العراق)

اكتسبت الانقسامات الدينية- المذهبية في العراق زخماً بيناً منذ اتساع ظاهرة الاسلام السياسي بعد الثورة الايرانية (شباط 1979)، وبلغت مدى هائلا من التسييس، ثم العسكرة بعد الاحتلال الاميركي للعراق (آذار 2003)، فتغلغلت في الاطار الاقليمي، ثم اندفعت في اتساع في بعض بلدان الربيع العربي، لتعزز الاتساع الاقليمي فالعالمي للظاهرة.

ولعل النموذج العراقي هو الاكثر سطوعاً ودموية. فالنزاعات الاهلية، المذهبية و/او الاثنية، مستعرة، خفية او علانية، منذ 1964 وحتى اللحظة، مع فواصل خفوت مؤقت، أو اتساع دام .

بوسع الباحث ان يتمسك بفكرة ان قدم ظاهرة الانقسام الديني - المذهبي، وبروزها الحاد مجددا بعد نشوء الدولة الحديثة، يبيح الاستدلال بانها ظاهرة جوهرية، تاريخية، متصلة لا فكاك منها.

لا ريب ان الهويات الدينية- المذهبية اقدم عهداً من الهويات الاثنية- القومية، وهي بالتالي سابقة لنشوء الدولة المركزية الحديثة، اي ما يسمى في الادبيات السياسية السوسيولوجية بـ الدولة- الامة nation- state.

اما في ورقة البحث هذه فنميل الى اعتماد استدلال معاكس، مفاده ان ظاهرة التسييس وعسكرة الهويات المذهبية معاصرة، جديدة، وظرفية ،اي انتقالية، ناجمة عن تحولات كبرى في تاريخ تكوين الدولة الحديثة، ابرزها الطابع المركزي- الاحتكاري المفرط للدولة الحديثة واختلال بنيتها ، الذي اثمر عن فشلها في بناء الامة- الدولة.أما صعود الاسلام السياسي كحركة وفضاء اجتماعي وخطاب بما يحمله من امكانات انقسام مذهبي، بالقوة او بالفعل. فهو عامل حاسم بلامراء، الا اننا نرى أن صعوده هو نتيجة لفشل بناء الامة، وسببا لاحقا لتحقيق أو تعميق تسييس وعسكرة الانقسام المذهبي.

ولعل نمو ظاهرة الكونية (او العولمة) يمكن ان يندرج ايضا كعامل فاعل، بما ينطوي عليه من اذكاء الوعي بالهويات الجزئية، نتيجة كثافة التفاعلات والاتصالات، بموازاة أو بعد انهيار اليوتوبيات الكبرى (الاشتراكية).

نركز في ورقة البحث هذه على حقل نجاح و/أو فشل الدولة في بناء الامة، فهذا هو المنبع الاكبر لتسييس الهويات، رغم اعتماد هذا التسييس، على الخزين التاريخي للتمثلات الدينية- المذهبية، (بما فيها من مؤسسات اكليروسية، وبنى فقهية، وطقوس رمزية، ومخيلة جمعية).

نبدأ بحثنا هذا اولاً، باشارات جوهرية لكن عامة عن معنى الامة nation، ومعنى النزعة القومية، اي نزعة تأسيس امة nationalism، وبنائها في دولة في الحقبة المفضية الى الانتقال لتأسيس الدول-الامم في الرقعة العربية، لنمضي ثانيا في تحري منابع النزعة الوطنية العراقية (اي النزعة القومية في الاطار العراقي)، وسيرورة بناء الدولة- الامة في العراق، ثم نعاين ثالثا تشقق فانهيار هذا البناء، وما رافق ذلك من صعود وتسييس للهويات الجزئية، على اساس مذهبي و/او اثني، ونعاين رابعاً المنابع المغذية لذلك.

لعل من شأن هذا الامتداد التاريخي للمقاربة السوسيولوجية ان يكشف ان النزاع المذهبي الطائفي ذو مسار تراكمي، تناقصاً او تصاعداً، ما يؤكد اننا ازاء ظاهرة ظرفية، conjectural اي انتقالية، وليست ثابتة حسب رأي المدرسة الجوهرية essentialist .

اولاً- الامة، القومية، وتشظي المجتمع

النزعة القومية، والامة، والدولة القومية (او الدولة- الامة) ظاهرات تاريخية فتية، ان جاز التعبير، لا يزيد عمرها عن قرنين ونيف، لكن الدولة- الامة غدت، منذ الحرب العالمية الاولى الشكل السياسي او التنظيم السياسي الشامل المعترف به، والقائم على تطابق الحدود السياسية للدولة بحدود الامة كجماعة ، وعلى حين ان الحدود السياسية جغرافية تتعين باقليم محدد، فان تعيين او اختراع الامة يعتمد على اساس الثقافة بالمعنى السوسيولوجي، لكن الثقافة بدورها تتميز على قاعدة اللغة، او الدين، او العرق ، او حتى مزيج من هذا وذاك. هناك جماعات قومية لا تتوفر على اي عنصر مشترك (الهند مثلا) وهناك جماعات تتطابق وتجتمع فيها سائر العناصر الثلاثة المميزة للثقافة (اليابان). في اي حال، ثمة افتراض بان الامة تتميز بتجانس ثقافي معين، يتيح تماسكها ويبرر اندماجها في اطار دولة موحدة.

ويبدو المَعْلم الثقافي المميز للجماعة اعتباطياً في احيان كثيرة . ولعل هذا الاعتباط وراء شيوع فكرة "اختراع" الامة، وتخيل "الامة" انثروبولوجيا . خلاصة ذلك ان الدولة القومية، والنزعة القومية، نتاجان تاريخيان قريبا العهد، رغم تكونهما من عناصر جامعة موغلة في القدم، او سابقة للتاريخ (اللغة، الدين) او عناصر طبيعية (العرق) شأن امتلاك المرء عينين ورأساً واطرافاً. والدور الذي تؤديه الثقافة ايا كان الشكل الذي تتجلى به ، هو وظيفة تماثل ومجانسة، للجماعة المعينة، اي تعيين هوية موحدة، او هو وظيفة فصل وتمييز لهذه الجماعة بتفريقها عن هوية الجماعات الاخرى، على غرار قانون الهوية الارسطي آ=آ وليس ب، ج، د، الخ.

كانت الامبراطورية العالمية، هي الوحدة السياسية النموذجية للعصور الغابرة كالامبراطورية الرومانية، والاموية والعباسية، والامبراطورية الرومانية المقدسة والامبراطرية العثمانية، (نترك جانباً إمبراطوريات مغلقة تحولت الى دول قومية كاليابان والصين).

لكن هذه الوحدات الكبرى ظاهراً، كانت مفتتة داخلياً الى إمارات، ودول مدينة ، وسلالات حاكمة محلية، وتتوفر على مراكز سلطة لا حصر لها : سلطات طوائف، اتحادات حرفية واصناف و جماعات دينية، وأمراء حرب، الخ.ويمكن للمرء في إطار عالم الأسلام أن يضيف سلطات وولاءات للقبيلة، والعشيرة ولأعيان المدن، والأغوات، والمراجع الدينية، ويتحدث عن تعدد الجماعات الأثنية، والاديان، والمذاهب.

الامبراطورية، هذه الوحدة الشاملة للتنظيم السياسي الغابر، هي كيان مجزأ ومتشظٍ داخليا ً، وأن مختلف المكونات تفتقر الى الروابط العضوية البانية لتلاحم المجتمعات الحديثة. وهي حواجز منيعة ستواجه بناء الدولة المركزية الحديثة على الاساسي القومي و/أو/ الأثني المتجانس . ولكن الإكتساح كان سريعاً حيثما تطور الاقتصاد التجاري، والمدن الصناعية والفكر الحديث عاصفاً : تحطيم تقسيم العمل الثابت في المجتمع الزراعي، كسر احتكار رجال الكهنوت للثقافة، تعميم الثقافة العليا عبر نظم التعليم باللغة المحلية، تمركز الدولة (جيشاً، وإدارة) نمو المدن وتكثيف وسائل الإتصال، وإحلال ولاءات جديدة للأمة كجماعة حرة، متساوية (فكرة المواطن والإنتخابات) تقف فوق اشكال الولاء القديمة، سواء كانت فوق قومية(عبر الأديان) أو دون قومية (التنظيمات المحلية للمدن، والإمارات، والقبائل).

ولو عاينا مجريات القرن العشرين في جلّ الرقعة العربية، من منظار القرن التاسع عشر، لرأينا أن ظهور الدولة القومية (القطرية باللغة الإيديولوجية) يبدو بمثابة تنظيم سياسي جديد ذي حدين:

الحد الأول، انفصالي، موجه ضد الجماعة الكبرى المقدسة (العثمانية)الموحد شكلياً في إطار امبراطوري، والحد الثاني توحيدي موجّه الى المجتمع الزراعي الحرفي المحلي، المتشظي مدناً، وقبائل، وجماعات دينية ومذهبية وطبقات مغلقة من السادة، والأشراف، والأعيان ونقابات الأصناف والتجار وشيوخ وأغاوات، وسادة الطرق الصوفية، المنظمة في عوائل ممتدة وهلم جرا.

ونكرر هنا أن الامبراطورية العثمانية كيان سياسي مقدس (= شرعيته تقوم على الدين)، متعدد الأثنيات، متعدد الأديان، متعدد السلطات المحلية، يمتد على عموم العالم العربي (عدا المغرب) وأجزاء من شرقي ووسط اوربا. ولو أستثينا الأناضول لوجدنا أن معظم الولايات العربية كانت خاضعة لحكم أسر وسلالات تنحدر من النخب العسكرية العثمانية (المماليك مثلاً )،وتتمتع بقدر من الإستقلالية. وهناك مناطق ورقاع تخضع لحكم الأعيان المحليين المسلحين في بعض المدن، أو عوائل الأشراف (في مكة مثلاً) أو شيوخ قبائل (في صحاري أو في اصقاع الاستقرار الزراعي)، أو كانت بلا حاكم (مثال نجد).وهناك رقاع يحكمها ولاة معينون مباشرة من الباب العالي، ولكن ليس من دون سلطات محلية وسطية يقودها منظمو العنف المحليون .

وكانت الأمبراطورية العثمانية في نشأتها تعتمد المقدس في شرعيتها (الدين) في إطار المذهب الحنفي السني، المتسامح مع المذاهب السنية الأخرى (خصوصاً المالكية والشافعية).كما تعتمد على فكرة الخلافة التي استقاها العثمانيون (حقاً أو زعماُ) من آخر خلفاء بني العباس في القاهرة .

وكان الهرم السياسي الإجتماعي يحتضن المسلمين السنة في قمته، يليهم المسلمون الشيعة، فالمسيحيون واليهود، وبقية الأديان. وقد اكتسب الأخيرون (المسيحيون واليهود) وضعاً قانونياً خاصاً (نظام الملل) يتيح لكل جماعة دينية ان تعيش وفقاً لقانونها وتختار ممثليها لدى سلطات الباب العالي .

الإنتقال من عصر الامبراطورية المقدسة الى الدولة القومية الحديثة، جاء مركباً، وفجائياً ومكثفاً. فالدولة الحديثة، تقوم على مبدأ المواطنة، أي مساواة أي فرد مع فرد أخر، مسلماً، أو ذمياً، حضرياً، او بدوياً، سيداً من الاشراف، أو حرفياً، شيخ مشايخ قبلي متعلم، أم فلاح قبلي جاهل بالأبجدية، أفندي، أم عامي.

وتحتاج هذه المساواة، دولة مركزية، ومؤسسات دستورية، وخطاباً قومياً جامعاً، اقتصاداً ديناميكياً متفاعلاً، ونظام تمثيل ديمقراطي مفتوح.

كانت نطف المركزية الحديثة، والدستورية، والنزعة القومية قد ترعرت في قلب الدولة العثمانية (ما صار اليوم تركيا) .هذه الحركة التاريخية، طورت اتجاهين : لامركزي، يستهدف اعطاء المجموعات الأثنية غير التركية حقوق استقلال ذاتي ( العرب والكرد)، وإتجاه أخر مركزي يركز على الإصلاح المؤسساتي والدستوري الحداثي للدولة المركزية .وتكللت الحركة بإنقلاب عسكري حمل ممثلي جمعية الإتحاد والترقي، القومية، المركزية، التحديثية الى سدة الحكم. وكان للاتجاه اللامركزي العربي صدى قوياً في المناطق العربية الا انه كان محدوداً وضعيفاً في العراق.ويرى حوراني ان القومية التركية والقومية العربية، في تلك المرحلة "لم تكن موجهة ضذ تغلغل النفوذ الاوربي بقدر ما كانت موجهة اساساً الى حل مشكلات الهوية والتنظيم السياسي للامبراطورية" .

ثم يضيف "النزعة القومية المصرية والتونسية والجزائرية،...تبلورت بازاء مشكلات الحكم[الكولونيالي] الاوربي، وكانت معنية بهذه القضايا في اطار بلدان ذات حدود مرسومة بوضوح."

حال العراق كان مغايراً لبلاد الشام (مثلاً) حيث النزعة القومية العربية قوية (لامركزية وسواها)، ومغايراً لمصر وبلدان المغرب، حيث النزعة الوطنية قوية بازاء الاحتلال الكولونيالي (الانكليزي والفرنسي)، او حيث توجد دولة،اي كيان سياسي اقليمي واضح التحديد، ثانيا، أما العراق العثماني فكان يفتقر إلى العنصرين الأول والثاني معا ً.

ثانياً الانتقال في العراق: دولة بلا أمة

ورثت الدولة العراقية الوليدة، كما رسمت حدودها الادارة الكولونيالية البريطانية في فترة الإنتداب (1920-1932)،كامل مشكلات الانتقال الى المركزية الحديثة، وبناء الأمة الناجم عن مجتمع مفتت ما قبل حديث. كان العراق يضم بين دفتيه أقواما عدة : العرب، والكرد، والتركمان، والاشوريين. وينقسم الى اديان، ومذاهب ابرزها الأنقسام الشيعي-السني. وينشطر إجتماعياً الى أهل مدن واهل قبائل وعشائر. وتتراتب المدن أجتماعياً في هرم لا مساواتي، السادة والاشراف، التجار، الحرفيون، المنظمون في أسر شبه مغلقة، ويعتمدون على عصبيات الاحياء (المحلّة بالدارجة العراقية)،اما عالم القبائل فمنشطر الى بدو وزراع، وتقوم بين القبائل مفاضلات هرمية: اهل الأبل (المحاربون) والشاويه (رعاة الاغنام)،والحرّاثة (المستقرون في الزراعة)، واهل الأهوار (المعتمدون على تربية الجاموس وصيد السمك).هذا المجتمع المؤلف من جماعات، تخترقه قيم اجتماعية ودينية ميالة الى الإنغلاق والتفريق والمفاضلة لا الى الإنفتاح والمساواة والتوحيد. من هنا الحاجة الى مؤسسات دمج، ودستور منفتح وخطاب توحيد (الأيديولوجيا الوطنية).ما من أحد كان واعياً بهذه التشظيات أكثر من الأمير (لاحقاً الملك)فيصل الأول العربي السني الشافعي، والحجازي، الواعي بالمبدأ الجديد الناظم للدولة الحديثة، المبدأ الوطني او القومي، والمدرك لحدّة الانقسامات الإجتماعية في الإطار الجغرافي الجديد

- العراق :

"ان البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها اهم عنصر من عناصر الحياة الإجتماعية، ذلك هو الوحدة الفكرية والملّية [يقصد القومية] والدينية. فهي والحالة هذه مبعثرة القوى، مقسمة على بعضها، يحتاج ساستها ان يكونوا حكماء مدبرين، وفي عين الوقت أقوياء مادة ومعنى" .

ويعدد فيصل الاول الإنقسامات الإجتماعية " 1-الشبان المتجددون (الحداثيون)،2-المتعصبون (المحافظون)، 3- السنة، 4-الشيعة،5-الاكراد، 6-الاقليات غير المسلمة،7-العشائر،8-الشيوخ،9-السواد الاعظم الجاهل المستعد لقبول كل فكرة سيئة...."

نجد هنا الانقسام الأثني (عرب-اكراد) والأنقسام الديني(مسلمون/مسيحيون) والانقسام المذهبي( شيعة-سنة)، والانقسام الإجتماعي (العشائر والمدن)، والانقسام الفكري (الحداثيون/والمحافظون).ويضيف:

"أقول وقلبي ملآن أسى انه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خالية من اية فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد واباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة،....فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه، وندربه ونعلمه".

ولعل ابرز معلم على ازمة البحث عن الهوية في العراق عام 1921،ما دار بين الأمير فيصل (قبل تتويجه) والسير بيرس كوكس (Cox)المندوب السامي البريطاني والحاكم الفعلي للعراق. كانت بريطانيا تتجه الى إنشاء دولة عراقية وفقا لروح العصر، أي مبدأ القوميات الذي جاء من مصدرين متعارضين، الرئيس الليبرالي الاميركي وودرو ويلسون والرئيس الثوري الروسي فلاد يميرلنين على ان تضم الدولة ولايتي بغداد والبصرة، أما ولاية الموصل فكانت عملياً تحت الإحتلال البريطاني ولكن غير مدرجة بعد للحسم ، واعترض فيصل على الكيان الهزيل (ولايتي بغداد والبصرة )المحاط بالاتراك (المطالبين بالموصل) والايرانيين والسعودية (جنوباً ) ورأيي ان ذهاب الاكراد في دولة يعني ان (فيصل) سيجلس على عرش مملكة ذات اغلبية شيعية لن تستقيم له وهو السني الشافعي (شأن الأكراد).لعل ضم ولاية الموصل الى الكيان الجديد قيد الإعداد جاء في إطار المصالح النفطية البريطانية (آفاق استكشاف النفط في الولاية)ولكنه جاء أيضاً في اطار البحث عن ركائز لتوازن بناء الامة العراقية الجديدة، في منظور فيصل، وبذلك خُتم على مصير الأقليم الجديد، بان يكون ثنائي القومية، بتوازن ديني /مذهبي (تقريبي) .

الانقسام العربي-الكردي، أو الثنوية القومية، معلم ينتمي لعصر القوميات، المبدأ الناظم للدولة الحديثة، اما الانقسامات الدينية -المذهبية الحضرية القبلية، فهي أرث تاريخي إجتماعي إسلامي.

كان على الدولة الجديدة، ان تحل مشكلة الاندماج الصانع للأمة، او بعبارة اخرى كان العراق دولة تبحث عن أمة.

أقيمت الدولة الجديدة على اساس نظام برلماني دستوري، على رأسه ملك عربي، مسلم، نبيل الاصل، هو الملك فيصل بن الحسين. هذا الترتيب يعكس طبيعة القوى الفاعلة: القوة الكولونيالية (بريطانيا) بنظامها الملكي الدستوري على نمط برلمان ويستمنستر (بمجلسيه: العموم واللوردات) والأرومة العربية للحكام، الذي يمثل النزعة القومية العربية-الأثنية الناشئة، التي يحملها الملك فيصل والضباط العراقيون الذين التحقوا به في سوريا (الضباط الشريفيون نسبة الى الشريف حسين)، اما النسب القريشي للملك فيلبْبي مطالب ايديولوجيا النسب المكينة عند عوائل السادة (الشيعة) والأشراف(السنة) كما يتناغم مع ايديولوجيا النسب عند القبائل العربية، الأهم من ذلك عند طبقة ّ المجتهدين الشيعة في النجف وكربلاء.

ويلاحظ ان الاستفتاء البريطاني على نشأة الدولة والامير فيصل حظي بقبول عام وسط الشيعة والسنة، واعتراض شديد وسط الاكراد والتركمان، مؤشراً على جدية الانقسام الاثني (الاكراد)، والاعتراض التركي (خارجي)، وغياب الانقسام الطائفي .

وبإستثناء الأكراد، لأسباب أثنية، والتركمان لاسباب سياسية (موقف تركيا)، فان اختيار الامير فيصل بن الحسين حظي بقبول عام سني شيعي، في الاستفتاء العام وهو يوائم، بهذا القدر أو ذلك ميلاد النزعة الوطنية العراقية علم 1920.ولدت هذه النزعة قبيل واشتدت بعد عام 1920 عام الثورة العراقية، خصوصاً في المدن، على يد عدد من تجار المدن وعلى رأسهم التاجر الشيعي جعفر ابو التمن، مؤسس الحزب الوطني، وهو أول حزب سياسي حديث، شيعي- سني. ورغم ضعف المدن (24بالمئة من السكان) فقد اضطلعت بدور صانع الأفكار ومحرك التمردات ضد سلطة الأنتداب حيث نظمت في بغداد أول تظاهرات في شكل احتفالات دينية سياسية : مولد نبوي (طقس سني) في جوامع شيعية، وموكب حسيني(طقس شيعي)في جوامع سنية، فكان الطقس المشترك الجديد ايذانا بولادة الوطنية العراقية وسط عرب المدن .

كما حمل الضباط الشريفيون العائدون من سوريا بعد الإحتلال الفرنسي لها، افكار النزعة القومية العربية، الداعمة، بصيغتها آنذاك، للنزوع الوطني العراقي.

كما ان الخطاب القومي المحلي (الوطني) تعزز بفضل فتاوى النجف، السابقة لثورة 1920، واللاحقة لها، في دعواها لإستقلال "الامة العراقية " بأمير عربي مسلم، وهي فتوى تعكس وعي المجتهدين بالمبدأ القومي الناظم للأمم، في جانب مثلما تعكس تمسكهم التقليدي بالبعد الديني العام خلوا من التعيين المذهبي .

هكذا ولدت الوطنية العراقية بازاء تحديات الكولونيالية الغربية، لتلحق بالنزعات الوطنية المماثلة في مصر والجزائر، وتونس، الخ لكنها على خلاف ذلك ولدت على اساس اتفاق وتفاهم سني-شيعي، نعني تحديداً اتفاق قوى اجتماعية فاعلة، قوامها تجار المدن وشيوخ العشائر، والنخب العسكرية الإدارية المتحدرة من الإدارة العثمانية.

كانت بنية الدولة الوليدة ثنائية: دولة الانتداب الحاضرة بشكل مندوب سام، وجيش بريطاني، وجهاز من المستشارين الاغراب، ودولة وطنية، ملك، وجهاز اداري ووحدات عسكرية من عناصر عراقية. وكانت هذه الثنوية تجمع مصالح القوة الكولونيالية في جانب، وشروط تقرير المصير المحلي، في جانب آخر.

هذه الثنائية في تركيبة الدولة في الحقبة الكولونيالية، تركت أثرها في سيرورات تكوين الدولة وبناء الأمة. هاتان العمليتان(1- تكوين الدولة، 2- بناء الامة) متطابقتان الى حد كبير، في المجتمعات المتجانسة، ولكنهما مفترقتان أو تنعمان باستقلال نسبي عن بعضهما في المجتمعات اللامتجانسة (او المبرقشة كما افضل تسميتها).

ابتداء تكوين الدولة يتعلق بنظام المؤسسات والرقعة الأقليمية للكيان السياسي الجديد، بدستوره وقوانينه وبنى السلطة (الوزارة، الإدارة، الجيش، الشرطة ) العملة، العاصمة، العلم وما شاكل.

أما بناء الأمة فيتعلق بإرساء الآليات الضرورية لضمان رضى ومشاركة شتى الجماعات الأثنية والدينية والثقافية، واندراجها في المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية.

بالطبع هاتان العمليتان متداخلتان رغم تباينهما. العملية الاولى (تكوين الدولة ) تؤسس الدولة كجهاز للأدارة والحكم، والعملية الثانية (بناء الأمة) تؤسس الدولة كممثل لجماعة قومية (ذات تجانس)أو وطنية (تقطن أقليما موحداً).

ولسوف نرى كيف ان هذه الثنائية ستفعل فعلها في كل حقل.ابتداء تكوين الدولة يبدأ بتحديد الرقعة الجغرافية، أي تثبيت الحدود، وإنشاء مؤسسات الدولة كالجهاز الإداري، الوزارات، المؤسسة العسكرية، نظام التعليم الحديث، نظام القضاء، الدستور، البرلمان، والمؤسسات الرمزية: العاصمة، العلم، والمؤسسات الإقتصادية (العملة، البنك المركزي) والنواظم الاقتصادية بما في ذلك الضرائب.

وقد مضت عملية بناء هذه المؤسسات لتكوين الدولة كجهاز سياسي للحكم، عدة سنوات، تميزت باضطرابات كبرى تمثل ردة فعل دول المنطقة بعامة، والمجتمع الأهلي المتشظي بخاصة، ازاء الدولة الجديدة.

يقول لونكرك وهو عسكري أداري ومؤرخ بريطاني خدم في العراق، عن فترة التكوين هذه: "الوضع الدستوري للمنطقة (العراق) ملتبس. ثمة سيادة تركية ما تزال قائمة، رغم إنها كامنة، وثمة انتداب، تقبله بريطانيا ويرفضه العراق نفسه، وثمة نظام ملكي دستوري لكن الدستور لم يسّن بعد، وثمة معاهدة مبتغاة مع بريطانيا، لكنها لم تكتب بعد" .

فمثلا ً اعترض كل الجيران على حدود العراق : إيران اعترضت حول كردستان وشط العرب، تركيا اعترضت على ضم الموصل، والسعودية على منطقة الحياد، وبريطانيا نفسها على الكويت. وبالطبع كان من المحال على اي جماعة اهلية (محلية) ان تثبت رقعة الأقليم (العراقي) هذا الشرط الأساس لأي دولة حديثة، بدون القدرة العسكرية البريطانية المتفوقة.ودخلت دولة الانتداب في نزاع مع الدولة المحلية قي صراع حول وتيرة، وحدود بناء المؤسسات، فمثلا بريطانيا اعترضت على توسيع الجيش وأبقته في حدود 7500 جندي، كما جوبهت خطط التجنيد العام ( بدل التطوع) بمعارضة بريطانية (للحفاظ على اعتماد العراق على القوة العسكرية البركولونيالية )ومعارضة القبائل لسبب اخر يتصل بالخوف من أخذ الأبناء للخدمة، وحرمان الأسر الفلاحية من القوة البشرية المنتجة. ونشب صراع آخر بين الاثنين حول الدستور الذي ربطت بريطانيا المصادقة عليه بأبرام المعاهدة العراقية -البريطانية.

هناك تصادم آخر بين شقي الدولة الكولونيالية، البريطاني والعراقي، دار حول النظام القضائي،حيث دفع البريطانيون بإتجاه تقسيم العراق الى قضاء حضري خاضع للقانون الوضعي، وقضاء قبلي خاضع للعرف العشائري.كان هذا التدبير في العرف البريطاني، وسيلة إقتصادية كفوءة للحكم Cost-effective ruleيتكفل فيه مشايخ العشائر بإدارة القضاء والامن في الأرياف، وتتولى فيه القوة الجوية البريطانية معاقبة العصيان، أي عصيان .

لم يمر تكوين مؤسسات الدولة بلا تمردات واعتراضات محلية وتمردات قبيلة عربية ضد الحكم البريطاني أو تمردات أثنية (تمردات الشيخ محمود البرزنجي - السليمانية) ضد تأسيس الدولة (أعوام 1920،1924،1930)او احتجاجات حضرية ضد المعاهدة البريطانية أو اعتراضات وفتاوى دينية ( من النجف) تحرم على الشيعة الخدمة في الدولة، اعتراضاً على النفوذ البريطاني، لا تصادماً مع فكرة وجود دولة عراقية. لكن هذه السيرورة حظيت ايضاً بدعم حضري ، قبلي، توطد بالتدريج.منابع هذا الدعم تعود الى عمليات بناء الامة، أي ادراج شتى الجماعات في بنية الدولة، وفتح باب المشاركة السياسية، والادارية والاقتصادية والثقافية أمام هذه الجماعات. وبالفعل اشتملت أول وزارة عراقية على مزيج عربي كردي، شيعي سني، ويهودي (موسوي) كما ان البرلمان العراقي نظم على اساسس تمثيل المحافظات، وافراد حصة للموسويين (اليهود) والنصارى (المسيحيين)، حسب منطوق دستور 1925.

لكن العملية الاهم، هي استخدام السلطة التوزيعية للدولة كمالك لرقبة الارض، في خلق طبقة واسعة ومتعددة المشارب من ملاك الارض ثم طبقة رجال الاعمال. وشكلت هاتان الطبقتان الاساس الإجتماعي الاقتصادي لبناء الأمة ذات الاغلبية الريفية (76 بالمئة من السكان) وكانت هذه الطبقة الجديدة تضم شيوخ القبائل العرب، والأغوات (زعماء قبائل الاكراد)، وسادة واشراف شيعة وسنة، فضلاً عن تحول النخب السياسية من الضباط والإداريين، بل الملك فيصل نفسه، الى ملاك اراض. وبخلق طبقة ملاكين متماسكة وموالية، توفرت الدولة الوليدة على اداة جبارة لدمج شظايا الجماعات الأثنية والمذهبية والدينية المتنافرة.

ويلاحظ ان تركيب طبقة ملاك الارض يوازي تقريباً التركيب المذهبي- الديني والأثني: نحو 48بالمئة من الشيعة،و20بالمئة من الاكراد السنة،و18بالمئةعرب سنّة، فضلاً عن وجود تركمان وآشوريين وسواهم، في صلب هذه الطبقة .التي وجدت في استقرار الدولة حماية لحقوق الملكية الجديدة للأرض، كما وجدت في المشاركة في مجلس النواب والأعيان وسيلة لضمان وتمثيل مصالحها. ورغم ان هذه المصالح كانت جزئية، ماخوذة على انفراد، فأن تنوع طبقة ملاك الارض، ضمن الأندراج المتوازن لشتى الجماعات وعمل بالتدريج،على تسهيل بناء الأمة.

معنى ذلك ان انفتاح النظام السياسي على تمثيل شتى الجماعات، والمشاركة في الثروة الاقتصادية، الارض أولاً فرأس المال في إطار إقتصاد السوق الحر، أتاحاً للدولة كجهاز للحكم،ان توسع وظيفتها من مجرد جهاز تحكم الى كيان يمثّل أمّة قيد التكوين.

لعبت المؤسسات والمنظومات المركزية للدولة كالمدارس والجيش، او الإدارة والبرلمان دورها في عمليات المجانسة والتوحيد. ولعل تطويرالشبكات الحديثة للأتصالات والمواصلات (بناء الطرق، الملاحة التجارية،سكك الحديد)ساهم في تقليص العزلة السرمدية بين المجموعات الحضرية والريفية، وخروج المدن، المنغلقة على ذاتها من عزلتها السابقة لكي تنشط وتتفاعل في فضاء وطني مشترك ناشئ حديثاً.

وشرعت الخطوط الفاصلة بين الاحياء المغلقة داخل المدن بالتلاشي، وظهرت أحياء جديدة قائمة على المهن الحديثة، لا العصبيات الفارطة.كما ان استقرار القبائل نهائياً في الارض وتفتت الاتحادات القبلية عجل في تفكيك هذه "الدويلات" القبلية.

ولعل ما سهل عمليات بناء الأمة ان الوعي بالانتساب الأثني والديني والمذهبي، كان وعياً ثقافياً بقي، بأستثناء الكرد، غير مسيّس، فبؤرة الولاء عصر ذاك، وكانت على الدوام (وما تزال بحدود معينة) مرتبطة بالتنظيم الاجتماعي المحلي كالعشيرة والجماعات القرابية (الأسر الممتدة للسادة والاشراف)، والقرية، وعصبيات المدن. وضمن هذه التشكيلات الاجتماعية كانت الطبقات او الشرائح القديمة (ما قبل الحديثة ) تنشط وتفعل فعلها : الارستقراطيون، الاشراف، التجار، الشيوخ والأغوات، الحرفيون (الاصناف)، ومن هؤلاء نشأت طبقة الملاك ورجال الأعمال الجدد (التجار، الصناعيون، المصرفيون، والمقالون).

بقي ان نضيف ان عمليات الاندراج في بناء الأمة لم تكن سلسة دوما ولم تكن طوعية دوما بل اتسمت في فواصل مهمة بإستخدام وسائل العنف السافر، باستخدام القوة العسكرية: قمع حركات الكرد (ابتداء من 1924)، او تمردات القبائل ضد الخدمة العسكرية (1934)، او قمع حركة الآشوريين (1936)، او تهجير اليهود (1948).لكن المجرى العام، رغم هذه الفواصل، تميز بقدرة الدولة المركزية على بناء اللحمة بين الأجزاء المبعثرة وان عمليات الاندراج أو التكامل اتصفت بالديناميكية .

ولعل ابرز معلم على نجاح مسعى الدولة في بناء الأمة ان الانقسامات الاجتماعية- الطبقية، خلال حقبة الإربعينات والخمسينات: الفلاح بأزاء المالك الإقطاعي، العمال بإزاء رأس المال (الأجنبي والمحلي)، الطبقات الوسطى الحديثة المعتمدة بأغلبها على التعليم (بيع المعرفة )بازاء الطبقات القديمة، ولدت حركات ثورية عارضت النظام الملكي على اساس ايديولوجي-اجتماعي، تعبيرا عن الإحتجاج على الأقصاء السياسي والاقتصادي. وكانت مرجعيتها في ذلك شعب ضد حكومة، فلاحون ضد اقطاعيين وعمال ضد رأسماليين ووطنيون ضد حكام كولونياليين أغراب، في إطار عراق موحد.

الجزء الثاني

الجزء الثالث

  كتب بتأريخ :  الخميس 29-01-2015     عدد القراء :  3252       عدد التعليقات : 0