الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
انطباعات عائد من ولاية «شكو ماكو» الفضائية
بقلم : فيصل عبد الله
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

  الزيارة الاضطرارية القصيرة لمدينة مسقط الرأس تضعك أمام اختبارات يومية مربكة في طريقة التعاطي مع منطق الأشياء.

وفي الوقت ذاته، تسقط من يديك حججا وأوهام تشبثت بها لسنوات طويلة، ولربما اختلفت بسببها مع أقرانك... ذلك أن واقع ولاية «شكو ماكو» الديمقراطية اليومي حافل بالعجب لما آل إليه حالها، وغدا فرز اشتباك المعقول عن سواه في زحمة فوضاها أشبه بمتابعة فصول من مسرح العبث، إذ تحولت تلك اللازمة المحببة، وبفعل سياسات الحكام/السحرة الجدد، إلى واقع باذخ بخرافيته ومفارقاته. في يوم الولاية كل شيء مبذول بسخاء قل نظيره، عنوانه العريض «أكو فد واحد»، إلا أن هذا الواحد فضائي. وقاموس يومي مفتوح على رثاثة تعيد إنتاج نفسها بصيغ فاجعة أغرب من الخيال.

إذن لا تجزع ولا تتوقع الكثير حين يصبح «العادي» قرين نقيضه تماماً في يوميات الولاية الفضائية. ضع التقارير الإخبارية، وتلك الصادرة عن مراكز بحوث ودراسات محلية أو أجنبية، جانباً، واكتفي بفرجة مجانية لوقائع خام من دون تزويق أو توابل. «شكو» تصبح مرادفاً لفجاجة واقع زائغ متعدد الأوجه يعتصر القلب.. لدمٍ مُراق، لقتل على الهوية، للصوصية في وضح النهار، سواء كانت الغنيمة شخصاً او مصرفاً أو بناية، لتزوير سير وتواريخ وشهادات بشكل علني، لغياب أمن المواطن وأمانه، لمزابل قمامة بدأت تطمر أحياء بكاملها، لبشاعة عمران تجتمع فيه بدائية التنفيذ ودونية الذوق، لانحطاط قيميّ وأخلاقي، خصوصاً عند الطبقة الحاكمة، لتجهيل تربوي متعمد لأجيال الشباب، لصعود العصبيات العشائرية والمذهبية والعرقية بشكل خطير، لضمور واضح لدور الدولة في إدارة ملفات البلد الساخنة، ولشيوع ثقافة محفظتي أولاً.

الإجابة عن أسباب ما سبق، لا تتطلب التبحر بنظريات علم الاجتماع والسياسية والتاريخ للوصول إلى فهم يستقرأ أسباب ما مر في حياة البلد وعباده، على مدى العقود الثلاثة الماضية، وما ترتب عليها من نتائج. بل يختصرها معادل لغوي مستحدث عنوانه «عادي»، وفي أيام مشحونة بخزين من شد الضغائن والعصبيات القبلية والمذهبية والعرقية واللاكفاءة.

في الأجواء، تصبح تلك المفردة بمثابة تمهيد أولى لما ينتظرك على الأرض من تدهور أوصل الوضع العام إلى حديّ البشاعة والبؤس. فـ»العادي» يأخذ أشكالاً وصيغاً تدعوك إلى الاكتفاء بالصمت حفاظاً على سلامتك العقلية، إزاء منطق شيطاني مغلف برقائق «سيلفون» الفضيلة والورع.

«العادي» أن تقبل وجبة طعام على مضض، وعلى متن خطوط أجوائه المحروسة، منتجة قبل أكثر من شهرين، أو طبقا مكونا من كسرة خبز وشطائر من الخيار والجزر والخس مغلفة بطريقة بدائية وجنبها عيدان لتنظيف الأسنان، أو تقرأ تحقيقاً مدرسياً مبتسراً عن تاريخ «المدرسة المستنصرية» في المجلة الفضائية الصقيلة، على خلاف تحقيقات مطولة عن مدن بعيدة، أو تدخل في معارك تصل إلى الاشتباك بالأيدي لتأكيد حجز تذكرتك الإلكترونية، أو تقف في طابور طويل بانتظار موظفة واحدة لتسلم وشحن حقائب مسافري طائرة بكاملها وحجة المسؤول بـ»نقص الكادر» التي يصدح بها باللغة الإنكليزية.

في بداية حكمه، أطلق نظام حزب البعث (1968-2003) برنامجاً راديوياً اسمه «من على ظهر الحصان الطائر»، على ما أتذكر، وأكتسب شعبية كبيرة لقدرة مقدمه البصريّ في الهبوط من أعالي «الفضاء» وعلى صهوة جواده لتتبع المختلسين من أعضاء الحزب الحاكم ضمن حملة «من أين لك هذا».

كانت الغاية واضحة وتقول العكس، فرض سلطة الأمر الواقع، زرع الخوف في النفوس، استهداف الطبقة الوسطى وإطلاق يد أعضاء حزب البعث في فرض الإرادة السياسية على المجتمع، وبما يشبه الإخصاء. اليوم وبعد أكثر من أربعة عقود، يكتشف سياسيو المصادفة، طيبو القلوب والسرائر، بان هناك «فضائيون» يقدر عددهم بعشرات الآلاف، يتقاضون أجوراً ورواتب من خزينة أموال الشعب «المظلوم»، ولكنهم وهميون او افتراضيون لا وجود لهم سوى على الورق.

وعلى وقع هذا الاكتشاف المجلجل، انشغلت وسائل الإعلام المحلية بفتح ملفات فساد طويلة جعلت هذه الولاية تقبع، وباقتدار عالٍ، في آخر سلم الدول الأكثر فساداً في العالم، حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية.

ومقابل هذا الكشف الخطير، تلقفت الطبقة السياسية الجديدة، مثلها مثل الزوج المخدوع، هذه الفضيحة بحماس منقطع النظير لتصفية حساباتها السياسية مع خصومها الوهميين، وعبر مناكفات تلفزيونية وإعلامية تفوح منها روائح الكذب والرياء، دفعاً عن تهم حقيقية تطالها ولتبييض الوجه.

وضمن هذا المسلسل التراجيكوميدي، المفتوح الفصول والنهايات، يتحدث العباد عن جدوى استثمار «شركة للأخوين» في ميدان تربية الخيول بعد تطهير أراضيهم من دنس عصابات «داعش» الإرهابية، وآخر توجه الى بحر الظلمات لحل مشاكله. ولكي تطعم دراما المسلسل أعلاه بتوابل جديده، خرج على العباد قيادي في حزب السلطة ووزير سابق يعلن فيه صدمته من هول أموال «السحت» والفساد المنتشرين في مفاصل الدولة.

فيما طلَ، من على إحدى الفضائيات، قرينه وفي شطحة جديدة مطمئناً ومهدداً كل من تسول له نفسه التلاعب بقوت العباد بقوله إن «خروج المارد من قمقمه» رهن بإشارة واحدة من سبابته. ويبرر وزير، متعدد المواهب والاختصاصات، وبشكل صلف تَزُعم أبناء شقيقه لعصابة تمتهن الخطف وطلب الفدية بقوله «إنهم مشكلجيّه». ولكون عباد هذه الولاية أدمنوا الأريحية، لكثرة ما مر في حياتهم من مقالب الكاميرا الخفية، وبما يشبه الاستقالة الجماعية، فقد قرورا التيمم والتوجه إلى الباري عزَ وجلَ بإدامة البحبوحة التي يعيشون فيها ويغار منها الأعداء.

طيب، هل يمكن إدراج ما رصد من عشرات المليارات الدولارات الأمريكية لمشاريع وهمية، وتلك الخالية من مواصفات الجودة والنوعية، ضمن منحى الفساد الفضائي؟ أو كيف لبلد ميزانيته السنوية، تقدر بحجم ميزانية ثلاث أو أربع دول، فيها عجز يصل إلى النصف؟ أو لماذا تبخرت الأموال المرصودة لإعادة إعمار البلد، أكثر من ثمانية أضعاف، وبأرقام اليوم، ما رصدته الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية والمعروفة بخطة مارشال، من دون أثر من رقيب أو حسيب؟ أو هل من المعقول أن يعيش المواطن 20 ساعة من دون كهرباء، وثلث سكان البلد تحت مستوى خط الفقر في القرن الواحد والعشرين؟

ربما مثل هذه الأسئلة سئلت مئات المرات، عبر وسائل الإعلام ولاكتها الألسن كما يمضغ أهل اليمن نبات القات في مجالسهم، من دون الظفر بإجابات شافية. ولكن أن تسأل سوؤلاً بريئاً، عن طبيعة عمل مكتب «عيادتك القانونية بين يديك.....»، وموقع صورة مديره، يتوجم المقابل وتحمر وجناته وتصطك أسنانه بدل الكلام. أمر»عادي» في ظل تجاوزات خطرة على الملكية العامة والخاصة يصعب على موسوعة غينيس جردها وإدراجها في متون صفحاتها. «عادي» أن ترتفع الراية السوداء على وزارة النفط.

و«عادي»، أيضاً، أن تجد تلك الراية مرفوعة على ملعب الشعب الرياضي، ذلك الذي صممه الفرنسي-السويسري لي كوربوزييه، أو تتوسط نهر دجلة. وحمى هذا التزلف سرت ولتشمل بيوت السكن والمحال التجارية، بما فيها مكاتب دلالية وورش تصليح السيارات وبيع مواد الخردة، ومؤسسات الدولة الأخرى، وبطريقة لا تخلو من إساءة واضحة إلى رموز دينية لها قيمتها وثقلها في الوجدان الشعبي. الأمر سيان، فإن تجرأت برأي يقول عكس منطق «العادي» المتداول يأتيك صوت كورس يردد « كل شيء صح..كل شيء زين... كلمن يقول ما كو عدالة بهل البلد إلا بنذالة...لو... منسعر الَلِحد وطَمّه البينّ»، حسب كلمات طقوقة شعبية شاعت منذ زمن بعيد.

في الجانب الآخر، وبما يشبه الفواصل بين عروض مسرحية مستمرة، تتيح ولاية «شكو ماكو» لزائرها متعا صغيرة عابرة، تطل برأسها وبحياء رغم صعوبات العيش وتكاليفه الباهظة، حين تلتئم العوائل حول موائد الطعام في مطاعم الدرجة الممتازة، أو في مقاه تتوزع على جانبي شارع الربيعي (جانب الرصافة) تقدم الشيشة (الأركيلة)، وبجميع النكهات عدا التفاح المحرم بفعل فتوى، لزبائنها من الجنسين، أو حيوية وأناقة «مول المنصور» الراقي (جانب الكرخ)، بينما يحتضن متنزه الزوراء(الكرخ) ألعاباً وزوايا تجذب العوائل والعشاق، خصوصاً أيام نهاية عطلة الأسبوع، في أكبر مساحة خضراء على أديم هذه الولاية. فيما يجد رواد سوق شارع المتنبي لبيع الكتب ضالتهم صباح كل يوم جمعة، عبر لقاءات تجدد تمرداً مؤقتاً على يوميات خانقة ومطبقة على حياة مثقفي ومبدعي هذه الولاية.

وغدا أقرب إلى الموعد الأسبوعي الثابت الذي يستقطب الكثير من الشعراء والفنانين والروائيين والسينمائيين والإعلاميين ومحبي عوالم الكتب وأصدقائهم والمتطفلين أيضاً. وفي الوقت ذاته، تحولت ساحة مبنى القشلة وما يحيط بها إلى فضاء مفتوح للتعبير عن غضب مُقيم، وعبر حلقات تجتمع حول الموسيقيين والمغنين والشعراء الشعبيين والرسامين وأصحاب القضايا المطلبية أسبوعياً، وبما يشبه زاوية هايد بارك اللندنية الشهيرة، على أمل إزاحة ما أشاعة السحرة الجدد من خراب وفساد لا يطاق.

... «شكو ماكو»، أصلها بابلي، وكلمة «شكو» تعني ماذا هناك او ماذا حدث، وجوابها «ماكو» لا شيء جديدا.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 30-01-2015     عدد القراء :  3732       عدد التعليقات : 0