الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
إرادة التأسيس الحزبي و ألق التأسيس الثقافي

أحاول ،هنا، أن أتناول ،في هذه السطور، إحدى الوقائع الحية المتعلقة بالنشاط الصحفي – الثقافي، التي اهتم بها الحزب الشيوعي العراقي، منذ أول يوم تأسيسه، التي كان على الدوام يهتم بها ، ليصعد بها ويرتفع، الى حيث تكوين اجيال ثقافية متعددة مفتوحة الذهن والقلب على جميع المدارس الثقافية والفنية في بلادنا، اعتمادا على تجارب ذاتية لمثقفين وفنانين عراقيين، شكلوا رصيداً كبيراً في الثقافة العراقية، رغم ان الكثير من تلك التجارب كانت مريرة ومحاصرة، لكنها كانت تعتمد بشوقٍ ملـّحٍ على إرادة الحزب في تشجيع الإنتاج والابداع، اللذيْن استقرا في سجل الثقافة العراقية بفعل وتأثير الإرادة الوجدانية الصلبة لوسائل النشر في مطبوعات الحزب خصوصا صحافته المركزية. وقد استطاع الشيوعيون العراقيون بتجاربهم الغزيرة و بكثير من نثر الكلام وشعره ، خلال 81 عاماً أن يدركوا ضرورة وأهمية أن تكون صحيفتهم بليغة في مفردتها وبالغة العقلانية في فصيح الكلام العربي وعلمية الحديث والبحث ، ليكون في ميسور العقل الشيوعي المنظم أن يستوعب كل نتائج التحولات السياسية والثقافية في المجتمع العراقي.

في زياراتي الكثيرة إلى دار الدكتور صلاح خالص في سبعينات القرن الماضي، كنت اسعد نفسياً حين يدور حديث أو نقاش في التحليل السياسي أو في القضايا الثقافية الكلاسيكية، أو في الرؤية الحديثة المتطورة، بمشاركة نشيطة من زوجته الدكتورة سعاد محمد خضر، وبوجود وإصغاء أبنهما الطفل الحرِك المشاكس (سعد) الذي اصبح ،الآن، باحثاً اكاديمياً لامعاً، كوالديه. كانت تلك المناقشات تعتمد في أساسها على الذاكرة، الأدبية والسياسية، وعلى الصراع القائم داخل المجتمع ، بين الزمان الذي يذهب سريعا والذاكرة التي تحفظ الوقائع و تظهر أفكاراً متعددة، ومشاعر عديدة متغيرة. إذ كان الصحفي الدكتور صلاح خالص متدفق الأفكار تنساب من أعماقه أحاسيس وانطباعات لا تعرف التوقف. يحلل الكثير من الأحداث، الثقافية والسياسية، ومن ثم يعيد تركيبها بما يزيدها وضوحاً وتحديداً. من هنا تحمل ذاكرتي اليوم محاولة استعادة لحظات من الماضي الى لحظة الحاضر، المتعلقة بالذكرى الحادية والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي، والذكرى الثمانين لصدور جريدته المركزية الأولى.

كان المضمون الرئيسي لفكرة من افكار الدكتور صلاح خالص عن جانب من جوانب العمل الفكري هو الوصف التحليلي المميز ببعض كلمات ظلت نقاطها ثابتة في ذاكرتي اكد فيها نزعته في التحليل العلمي لدراسة المجتمع وهي إحدى الحقائق التي صنعت له مجده الصحافي – الادبي حيث كان من مؤسسي مجلة (الثقافة الجديدة) في خمسينات القرن الماضي ومن ثم مؤسساً لمجلة (الثقافة) في سبعيناته هي التي جعلته مفكرا انسانيا تفوقت عنده ساعة الكتابة والقراءة باعتبارها أعلى ساعات البهجة .

المقولة الاساسية الراسخة في ذهني من اقوال صلاح خالص هي: ( إن أي موقف عملي يبدأ بالتفكير أولاً ، أي أنه يبدأ بالإرادة..) . هذه المقولة حمل تفسيرها وعياً خاصاً ودقيقاً، فــ(الارادة الفكرية) تستطيع دائماً أن تؤكد وجود الحل لأكبر مشكلة نضالية او ثقافية مهما كانت معقدة .

لا أشك أن زمان يوسف سلمان يوسف (فهد) وشخصيته الإنسانية وألقه الفكري، إضافة إلى مشاعره وأحاسيسه الوطنية جعلته ، عن قناعة ذاتية، وعن ذكاء يعتلي تيار التدفق الواعي، منطلقا من (الإرادة) العميقة الواعية، التي مثـــّلتْ حدّاً سياسيا – ثقافياً فاصلاً في عراق القرن العشرين بتأسيس الحزب الشيوعي ليكون منظوراً (سياسياً – ثقافياً) في رحلة مبتكرة من رحلات النضال والمناضلين داخل المجتمع العراقي.

رغم واقع الحياة النضالية ، المعقدة والصعبة، آنذاك عام 1935 إلاّ أنه تحرك من النقطة الفكرية الايجابية النشيطة ذات الميزة البسيطة في ممارسة الحرية التنظيمية القادرة على تحقيق الحرية الانسانية، التي تحمل نسيجا متنوع الألوان في ميدان (الثقافة العراقية) . لقد حدّد الرفيق فهد من خلال موقعه القيادي في الحزب الشيوعي ، برؤية نظرية واسعة، ضرورة وجود (جريدة مركزية) ناطقة باسم الحزب. ثم حدّد ضرورة أن تكون (الجريدة) قادرة على معارضة الفكر المتخلف النابت في مجالات كثيرة من أعماق المجتمع العراقي كله. كان يريد أن تكون الجريدة مكرّسة ليس لنشر افكار الحزب فحسب، بل بنشر الافكار الوطنية والافكار التقدمية عموماً. كما وجد ضرورة أن تكون جريدة الحزب قادرة على تجميع القدرات الثقافية لوضع مضامين الديمقراطية والحرية في متناول القراء والمثقفين ، حتى في متناول الناس البسطاء من العمال والفلاحين والطبقة الوسطى.

هكذا صارت (إرادة) و(مهمة) الجريدة المركزية أمام جميع محرريها والعاملين فيها خلال 81 عاما ليس فقط الدفاع عن الحرية، بل النضال اليومي من أجل تحقيقها لجميع أبناء الشعب .

كما أن هدفها لم يحدد بمواكبة او تفسير ما يجري داخل المجتمع، في الريف والمدينة فحسب ، بل العمل والمساهمة الفاعلة في تغييره ونقل صفاته الثقافية إلى مراحل متقدمة أعلى.

كان الهدف الثقافي للجريدة من بداية صدورها ،حتى اليوم، ان تحلــّق عاليا في الميدان الثقافي، وأن تخلق الإحساس الخاص لدى القارئ بالثقافة الماركسية الهادئة في التوضيح النظري، والرؤية العلمية، والاستنتاج والتحليل، وفي الفرضيات العملية، كي لا يفقد المناضلون والمثقفون اتصالهم بالواقع المجتمعي.

من أجل هذا ومن أجل أن تتساوى الرؤية الطبيعية للأحداث، الكبيرة والصغيرة، في الحياة والمجتمع والسياسة، بين رجل الشارع والعضو الحزبي المنظم، أصدر الرفيق (فهد) جريدة الحزب المركزية (كفاح الشعب) في العام 1935 مبشرة بفجرٍ ثقافي - فكري - نضالي يظفر فيه المثقف العراقي والمناضل الشيوعي برؤية جديدة، حرة وجريئة ، لمستويات الأحداث والصراعات، بما يرفع عقول الشيوعيين ومناضلي الاحزاب الوطنية الأخرى إلى ما فوق الاهتمامات الصغيرة . كان يؤكد على ضرورة أن لا تكتفي الجريدة بعرض مشاكل العمال والفلاحين وجميع الكادحين من أبناء الشعب، بل بتقديم الحلول الدقيقة لها. كذلك أكّد في المجال الثقافي أن لا تقتصر مهمة الجريدة على ما هو معقد، بل تقدم الحلول المعقولة ايضا لتكون الثقافة للجميع.

بعد بدايات تأسيس الحزب الشيوعي في العراق وتحديداً في أواخر الثلاثينات ظهرت مواقف عديدة يمكن تصنيفها الى جانب (الارادة) ،التي تحدث عنها ، ذات يوم ، الدكتور صلاح خالص كما اشرت سابقا، باعتبارها لوناً متألقاً مشرقاً يفترض أن يكون أداة في تنوير المواطنين في مجتمع يكابد الآلام في حياته ، لا يرحم إنسانا فقيراً أو ضعيفاً. ظفرتْ تصنيفات جريدة الحزب المركزية بأعجاب المثقفين العراقيين وبعض الاكاديميين. كما اجتذبت اهتمام الادباء والشعراء والفنانين، خاصة وأن مضامين الجريدة لم تكن متزمتة ازاء المدارس المختلفة والتعددية، رغم أن نظام كلامها كان قاسٍ ضد الاستعماريين وضد الطغاة. كانت تلك المضامين تمشي في صف منتظم من التصنيف بين الموقف النظري والموقف العملي. كان قائد الحزب الشيوعي (فهد) قد انطلق من فكرة كارل ماركس، التي صاغها بقوله: (التطبيق من دون نظرية اعمى.. والنظرية من دون تطبيق عقيمة). أراد أن يوجد رابطة حقيقية بين الموقفين رغم وجود عواصف سياسية كثيرة، في تلك الفترة، أهمها عاصفة (داخلية) بعد انقلاب بكر صدقي وعاصفة (خارجية) بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية ، لكن الرفيق فهد وجد نفسه سعيداً حين سأل : ما العمل..؟

أجاب بنفسه: إنها الحاجة إلى تجديد مستمر للصحافة الشيوعية المركزية ورفدها باستمرار بدمٍ جديدٍ وأحياناً باسمٍ جديد. إنها الحاجة إلى الشرارة ذات يوم فأصدر جريدة الحزب الثانية باسم (الشرارة) في ديسمبر عام 1940 مؤكداً أنه لا ارادة ثورية بدون عقل ثوري . يعني بالإرادة ،هنا، هي (الحزب) وعقلها (الجريدة).

على نفس نهج جريدة (كفاح الشعب) وبهدف تجديد العمل الصحفي الشيوعي فقد احتوت (الشرارة) بداخلها على الجانب النظري في الثقافة، كما تضمنت في الجانب السياسي عملا تحريضياً، تنظيمياً، حركياً، نضالياً. هكذا ايضا اكتسبت صحيفة الحزب المركزية مسيرة ابداعية طويلة صار عمرها المتبصر، هذا اليوم ، 80 عاما رغم الصعوبات والعوائق في هذه المسيرة. هذا بالتحديد ما جعل حيازتها يُعد من قبل المثقفين العراقيين فخراً وامتيازاً، خاصين، فريدين، وما زالت هذه المشاعر ،حتى اليوم، تشكل استجابة دائمة بين جريدة طريق الشعب وقرائها. كما اصبحت صحف ومجلات الحزب الشيوعي ذات تأثير مهم وواسع، في المجتمع العراقي وفي الثقافة العراقية .

كان هدف الجريدة ان تخلق في داخل المجتمع العراقي كتــّابا قادرين على صناعة الافكار ، في المقالة والقصة والرواية والشعر والمسرح والنقد، وكان شغلها وشاغلها ،حتى اليوم، أن تدخل إلى عالم الثقافة العراقية مبدعين قادرين على أن يكونوا مؤثرين على القراء، مثلما كان مكسيم غوركي في روسيا مؤثرا بكلام وصنعة روايته (الأم) ومثلما احدثته كلمات وصناعة رواية (جولي) لأبي الديمقراطية الغربية جان جاك روسو على التاريخ الاوربي الثقافي كله، او رواية غوته المسماة (آلام فيرتر) او مسرحية الشاعر الالماني شيلر (اللصوص) التي كانت دراما ثقافية كبرى ضد الطغيان والطغاة.

استطاعت (الشرارة) أن تشرق في فجر الوعي لتسهم بوضع لبنة الثقافة الديمقراطية ،بتقنية بسيطة من تقنيات النشر السري، بطباعة بسيطة أيضاً، لكن صدورها كان أثيراً ومؤثراً لأنها تمثل (الإرادة الوطنية) . ثم واصلت رفيقاتها (القاعدة) و(اتحاد الشعب) و(طريق الشعب) نفس المسار بإتقان ارقى لتوسيع زاوية الوعي والرؤية لدى القراء ، مما جعل قراءتها منبهاً من منبهات الوعي الثقافي والسياسي. كان كل عدد يمر على صدورها عاملاً مساعداً في اجتياز مصاعب كثيرة أهلتها الانتقال إلى مرحلة من الوعي العالي، ممتدة إلى مدى أوسع من القراء ،خاصة من نخب المثقفين المتلهفين الى اللقاء بكلماتها المعدودة لكنها القادرة على كشف اشياء الوطن ومعضلاته جميعها فقد كان يسوقها دافع القوة المضافة في النضال اليومي الحثيث والمتواصل لمصلحة الشعب العليا واهدافه في الحرية والديمقراطية والتقدم.

بالرغم من ان العمر الطويل لجريدة الحزب المركزية بغالبِ أعوامه كان يعتمد على الصدور السري، والتوزيع السري، والقراءة السرية، إلا أنها لم تكن عابرة سبيل. كان همها الاول في أثناء فترات صدورها السري، في ظل الحكم الملكي، أن تسد رغبات القراء في توحيد نظرات الشعب الى مطالبه اليومية، وفي الدعوة إلى وحدة كلمة وصفوف القوى الوطنية الراغبة في تحويل العراق إلى بلد ديمقراطي. لكنها رغم كل الظروف القاسية حيث يتعرض العامل في الجريدة او ناقلها او قارؤها الى مرتبة التعذيب القاسي في دهاليز اجهزة الامن العامة إذ أنني أعرف المئات من شباب مدينة البصرة دخلوا المعتقلات والسجون السياسية بدون وجود تهمة غير حيازة نسخة واحدة من (الجريدة) .. ربما دخل الالاف منهم من مدن عراقية اخرى الى سجن بغداد وبعقوبة ونقرة السلمان لنفس السبب. كما قدمت الجريدة المركزية قرابين من كتابها اللامعين في مختلف العهود امثال الراحلين ( عبد الرحيم شريف وحسن عوينة وعدنان البراك وعبد الجبار وهبي) ، غير أن الجريدة كانت تصل حتى إلى تلك الاقبية المظلمة داخل السجون، كعروس من الحلوى، تفضي إلى صحوة وسعادة والى احساس بالتحدي والنصر بتقوية موقف السجناء و رفع مستوى عزيمتهم ومواجهتهم صعوبات السجون مواجهة إنسانية فريدة.

ظلت الجريدة نشيطاً ايجابياً بين صفوف الشعب وبين المثقفين العراقيين.. تصرفت بكل مراحل حياتها، السرية والعلنية، تصرفاً مستقلاً، لم تستشر فيه أحداً غير قرائها، الذين كانت تمثل نوراً لعيونهم ،بما تحمله من اهتمام بمحنهم ومحنة وطنهم وشعبهم.

في فترات الصدور العلني وهي شهور قليلة في عمر الجمهورية العراقية الأولى 1958 – 1963 جوبهت حريتها بالقمع. كما قُمعت بمستوى أشد في عمر الجمهورية الصدامية خلال فترة صدورها العلني 1973 – 1979 حيث التضييق والرقابة على مكاتب تحريرها وطباعتها وتوزيعها بقصد دفعها لتكون مجرد صوت سلبي يراد ربطه بمصير غريب عنها وعن حزبها وعن حقوق الشعب العراقي ومطالبه في الحياة الحرة الكريمة.

لم تستطع لا القوة البوليسية الارهابية ولا السجون ولا أحكام الاعدام والاغتيالات في الشوارع او في زنازين التعذيب التي شملت مئات الصحفيين العراقيين الوطنيين والديمقراطيين من ايقاف الصحفي الشيوعي من أمثال ( عبد الرزاق الصافي.. ابراهيم الحريري.. مفيد الجزائري ,غيرهم الكثير) عن العمل الجوهري في سبيل حرية الشعب ورفاهيته ، فقد واصل عمله ، سراً في الصحافة الشيوعية، أو علنا في غيرها. كما واصل صحفيون شيوعيون خارج العراق ،خاصة بعد اشتداد قبضة النظام الدكتاتوري، نظام صدام حسين، على جميع نواحي الحياة واولها الثقافة والصحافة والنشر بعد اضطرار الكثيرين الى مغادرة وطنهم، إذ نستذكر جريدة كفاح الشعب والشرارة والقاعدة فأن جريدة (طريق الشعب) الحالية برئيس تحريرها، ومحرريها ،وطبّاعيها، وموزعيها، يواصلون رسم صورة الحرية الحقيقية تواصلاً مع تلك (الإرادة الأولى) ذات المضمون الحر لتأكيد دور الجريدة المركزية ليس في اكتشاف ذاتها فحسب، بل لتوفير اليقين الحسي في التجارب النضالية الثرة، مما يؤكد لقرائها الدائمين، من المثقفين والمناضلين، أن خطها يظل مستقيما ،متجدداً، شكلاً ومضموناً، في عمرها المديد، خاصة بما ينتظر من دورها الذي ينبغي أن تلعبه (طريق الشعب) في العمل اليومي الضروري لتوحيد القوى الديمقراطية والمدنية باعتبار هذا التوحيد حقيقة اساسية لبناء وطن عراقي جديد.

التجديد الدائم في شكل الجريدة المركزية ومضامينها هو تذكرة الرحلة الطويلة ،مستقبلا، بسيمفونية متقنة البناء، لتدخل قلوب قراء جدد ، بمعقولية فكرية ، خاصة قلوب قراء شباب من الجنسين، المهتمين بالأحداث اليومية الصغيرة ،الحالمين بالحرية والمغامرة من أجل أن يكون بلدنا كله مبعث فخرنا جميعاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 26 – 3 – 2015

  كتب بتأريخ :  الخميس 26-03-2015     عدد القراء :  3522       عدد التعليقات : 0