الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ترجل فارسٌ آخر

نعت لنا الأخبار قبل أيام , فارساً آخر, من فرسان الفن وألإبداع والعطاء العراقي المتميز , حيث توفي في الغربة , الفنان المبدع خليل شوقي -أبو مي -, الذي شارك في العشرات من الأعمال المسرحية والتلفزيونية الرائعة . فمن منا لم يستمتع بالإداء الرائع ل "عبد القادر بيكَ " في مسلسل " النسر وعيون المدينة " ومسلسل " الذئب وعيون المدينة " الذي أداه الفقيد خليل شوقي بإبداع منقطع النظير .

ربطتني بالفقيد , ابي مي , علاقة قصيرة , لكنها ثمينة وغنية في محتواها , وخطيرة في توقيتها وأدائها .

كانت الهيئة الأدارية لنادي التعارف , تستضيف عدداً من المثقفين , من ادباء وفنانين وصحفيين , في المناسبات والنشاطات التي  تقام في النادي , وهو نهج دأبت عليه الهيئات الأدارية للنادي منذ تأسيسه عام 1973 . وقد مُنح بعضهم عضوية الشرف في النادي , كالموسيقار الفقيد محمد جواد أموري والفنان كريم عواد وآخرين , لكي يتسنى لهم حضور فعالياتنا المختلفة متى شاءوا , هذا الحضور الذي كان يثري نشاطاتنا ويعزز سمعة النادي الثقافية ....

في احد ى أماسي الجمعة الخاصة بالأعضاء وعوائلهم , وكانت قاعة النادي الكبرى , التي تتسع لقرابة ألف كرسي , تغص بالحضور , حضر الفقيد خليل شوقي وابنته الفنانة مي شوقي , والفنان كريم عواد وعائلته , وكعادتي , وكنت رئيساً للنادي , أمرُّ على هؤلاء الضيوف الكرام لتحيتهم والترحيب بهم ...لم يمضِ على جلوسي قربهم إلا دقائق معدودة , حتى جاء الأستاذ مانع السعودي , وكان نائباً لرئيس الهيئة الأدارية , وخاطب الفنان كريم عواد بإسلوبه الرقيق الجميل ووجهه الودود , " استاذ كريم , كُلفتُ من عدد من اعضاء النادي , لتبليغك تحياتهم , ورجاءهم , لتقديم اية فعالية فنية قصيرة " , اعتذر الفنان كريم , فثنيتُ على طلب الأستاذ مانع قائلاً " اي ابو عطيل , وهي كنيته , أي شيئ , مقطع مسرحي قصير , بيت شعر , نكته جميلة , وانت قادر عليها جميعاً " ,,, استجاب الرجل , وتقدم الى الستيج , في منتصف القاعة , انحنى وقبله قائلاً " هذا أشرف ستيج في العراق " ... ساد صمتٌ وذهول لهذه المقدمة غير المتوقعة , صعد الى المنصة وتناول الماكرفون , وبدأ يقرأ قصيدتي الشعبية " ما ابيع طوكَي " , والتي عُرفت بمطلعها " أمحلت " , وكنت قد كتبتها عام 1963, حين كنت مختفياً في مدينة الكاظمية ,,, لقد قرأها كاملة وعن ظهر قلب , بصوته الجهوري والقائه المسرحي الجميل .... كانت المفاجأة هائلة بالنسبة لي ولزوجتي التي كانت تنظر الي مستغربةً ...وكان بين الحضور الكبير , اثنان أو ثلاثة من الأصدقاء يعرفون انها قصيدتي , وانها سياسية رغم رمزيتها ,,, قرأها كاملةً واجاد بإلقائها ايَّما إجادة ,,حين اختتمها , ضجت القاعة بالتصفيق الحاد والمتواصل . كنتُ بانتظاره , وبعد ان هدأ انفعاله وتناول قدحاً من الماء , سالته , لمن هذه القصيدة ؟ قال لا اعرف , قلت , ومنذ متى حفظتها ؟ قال حصلت عليها عام 1963 , وقد ارسلتها الى خليل , وكان معتقلاً خلف السدة , والآن أحاول إقناع " مي " باعادة تلك النسخة لي , وعرضت عليها 30 ألف دينار لكي تعيدها , إلا انها رفضت , واضاف , القيتها في مهرجان المسرح العربي في دمشق عام 1966 , واثارت ضجةً هناك , واستنسخها العديد من الفنانين العرب ... قلت , ألم تسأل احداً عن شاعرها ؟ قال ظننتها لمظفر النواب , وسألته عنها , فنفى ان تكون له , وقال -مظفر -اظنها لدينار السامرائي , فقلت له انها ليست لدينار , فهو صديقي , وهو لا يكتب الشعر الشعبي ,,قلت , وحتى الآن لم تعرف شاعرها ؟ قال ,لا , قلت أنا اعرف شاعرها, قال , صحيح ؟ من هو ؟ قلت , أنا , انها قصيدتي . فوجئ الرجل , وقال لخليل شوقي ," ابو مي تعال , لكََينا شاعر أمحلت " , سحب الفقيد خليل كرسيه , واقترب منا , كنا نتحدث بصوت خافت , وبعد ان اكدتُ له الموضوع , قال وقد التقط محتواها السياسي , " دعنا من هذا , أسألك الآن , ان من كتب " امحلت " عام 1963 , ماذا كتب الآن ؟؟ , قلت لا شيئ , فأنا من شعراء الواحدة , متجنباً التوسع في الموضوع ...لم يقتنع , واتفقنا ان نتحدث لاحقاً ...كانت هذه المناسبة هي بداية معرفتي الشخصية المباشرة , بهذه الشخصية الوطنية اللامعة في عالم المسرح العراقي الهادف .

بعد هذه الأمسية بكل مفاجآتها , صرنا نلتقي بين الحين والآخر في دار احد الأصدقاء الكرام " ابو نوار " , حيث قرأت لهم قصيدتي الشعبية الثانية " بغداد " التي كتبتها عام 1995 , وبحضور عدد موثوق ومحدود من الأصدقاء ,,,طلب مني قصيدة " بغداد " فلم استطع تسليمها وهي بخط يدي , في تلك الظروف الصعبة , اعتذرتُ له فتفهم موقفي ...وافترقنا , هو في هولندا , وانا في اميريكا , وكريم عواد كان في سوريا ولا ادري اين حل به الدهر .

اتصلت بابي مي قبل سنتين , وكان متعباً , هدَّته الغربة والحنين , فذكرني مطالباً بالقصيدة , طلبت إيمله او عنوانه البريدي لكي ارسلها له , فلم اتلقَ منه شيئاً .... رحل خليل شوقي , وعيونه ترنو الى العراق , مثل المئات من المبدعين الذين تناثرت قبورهم في ارجاء المعمورة .

فالى متى يبقى العراق ينزف كفاءات ومبدعين في ديار الغربة ؟؟ وهل ستبادر وزارة الثقافة لنقل رفاته الى ارض العراق التي عشقها واعطاها عصارة عمره فناً وابداعاً , كما بادرت الحكومة السابقة بنقل رفات الشاعر والخطاط المبدع محمد سعيد الصكَار ؟ وهذه ابسط ما يمكن تقديمه لمبدعينا الذين قست عليهم الحياة وراحت تبتلعهم الغربة والمنافي , الواحد تلو الاخر ؟

ويا صديقي الراحل الغريب , هل تقبل اعتذاري , لأنني لم استطع تلبية طلبك في حينه , ولم استطع ايصال القصيدة اليك فيما بعد ؟

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 15-04-2015     عدد القراء :  3912       عدد التعليقات : 0