الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
أصالة الفن وأصالة الموقف الإنساني - الحلقة الأولى: الفنان التشكيلي فيصل لعيبي

حين تقرأ سير حياة مجموعة من الفنانين العالميين، ومنهم جمهرة غير قليلة من خيرة فناني العراق في مختلف الفنون الإبداعية ابتداءً من الرسم والنحت ومروراً بالموسيقى والغناء والشعر والرواية والقصة، الذين يقدمون للقارئات والقراء فنوناً إبداعية بأصالة رائعة ومميزة يريدون من خلالها رفع مستوى ذوق الإنسان وتذوقه لتلك الفنون وتطوير الثقافة ومجمل الحضارة الإنسانية، وفي الوقت ذاته يسعون إلى رفع مستوى الوعي الفردي والجمعي لمجتمعاتهم والمشاركة في هذا السبيل للمجتمع البشري عموماً، ستجد في سير حياتهم أيضاً ما يؤكد مواقفهم الإنسانية النبيلة إزاء قضايا شعوبهم الأساسية، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية أم بيئية أم كلها معاً. وهذا الاستنتاج يمكن أن نجده عند جمهرة كبيرة من أصحاب الفنون الإبداعية على الصعيد العالمي الذين قدموا للبشرية ما يساهم في تعميق التفاهم والتعاون والسلام بين الشعوب والدول، وهم يشكلون ذخر الشعوب وكنزها الأصيل الذي يبقى خالداً بمرور السنين.  لقد ورثنا من الشعوب التي قطنت العراق منجزات رائعة تفخر بها البشرية كلها وهي إرثها في آن. والبشرية كلها حزينة لما يحصل بالعراق لا ضد الإنسان العراقي الذي يذبح ويسبى ويشرد ويغتصب ويهجر قسراً من مواقع سكناه فحسب، بل وضد أثاره الثقافية العظيمة وحضارته المجيدة التي تدمر اليوم على أيدي برابرة القرن الحادي والعشرين، على أيدي الإسلاميين السياسيين الفاشيين الذين فقدوا كل ذمة وضمير وتحولوا إلى قطعان وحشية تعيث في الأرض فسادا وفي البشر تقتيلاً واغتصاباً.

بالعراق عدد غير قليل من خيرة الفنانين المميزين في مختلف الفنون الإبداعية، والعراق بحاجة إلى حركة فاعلة ومؤثرة لهذه المجموعات االمتنورة من الفنانين ليلعبوا دورهم الفعال في تغيير الأوضاع المزرية التي تواجه العراق منذ عقود، والتي انتهت باجتياح واستباحة مريرة للعراق من بوابة الموصل، من خلال المشاركة في حملات التضامن والتوعية لأبناء شعبنا العراقي الذي ابتلي بالشوفينية والتمييز الديني والطائفية المقيتة وبحكام لا يعون سوى ملء الجيوب بالسحت الحرام، سوى التسلط واستخدام السلطة للاغتناء والهيمنة والنفوذ الاجتماعي لتحقيق أهدافهم وبعيداً عن مصالح الشعب العراقي. العراق بحاجة إلى مشاركة فاعلة للفنانين العراقيين والفنانات العراقيات في النضال من أجل طرد الغزاة الفاشيين ودعم النازحين من مناطق سكناهم والمعذبين في الأرض. من هنا فالإنسان يسعد ويشعر بالاعتزاز حين يلتقي بفنانين يحملون مشعل الحرية وراية النضال لصالح العراق والعراقيين والنازحين والمسبيات والمغتصبات والمباعات في سوق النخاسة بشكل خاص.

أحاول هنا أن أشير إلى شخصيتين عراقيتين مميزتين من بين مجموعة رائعة من فناني العراق في حقول الفن العراقي والعالمي الأصيل، احتلتا موقعين مهمين على الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية عبر نتاجاتهم الإبداعية الرائعة في حقلين إبداعيين هما الرسم والموسيقى، إنهما الفنان التشكيلي فيصل لعيبي وعازف العود نصير شمة.

فيصل لعيبي أطلق قبل عدة أسابيع حملة تضامنية لتنشيط العراقيات والعراقيين في الداخل والخارج لدعم النازحين العراقيين، لدعم العائلات العراقية النازحة من المناطق التي اجتاحتها واستباحتها قطعان داعش الوحشية ومن أجل إنقاذ التراث العراقي الحضاري وجدت صدى واسعاً على الصعيد العراقي وتأييد واسع النطاق.

نصير شمة أطلق قبل فترة وجيزة حملة عالمية تحت شعار "أهلنا" لإغاثة النازحين العراقيين، بعد أن قام بزيارة مناطق النزوح العراقية التي تضم مئات ألوف النازحين الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان وأهل محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل وغيرها من المدن التي تعرض سكانها للاجتياح والاستباحة والقتل والاغتصاب والتشريد، إضافة إلى التدمير الواسع النطاق لتلك المناطق وللتراث الحضاري الإنساني العراقي العريق. وبجري الآن دعم الحملة من منظمات دولية وعراقية.

الفنان التشكيلي فيصل لعيبي صاحي  

من تسنى له زيارة بعض أو كل المعارض الفنية التي قدمها الفنان التشكيلي العراقي والمثقف العضوي المميز فيصل لعيبي، أو من اطلع على سفره الفني الموسوم "البحث عن الذات" (صدر عن دار الأديب، عمان-الأردن، ط1 2009)، هذا الكتاب الضخم الذي يضم مئات اللوحات والتخطيطات الفنية العميقة بإنسانيتها والمعبرة عن حس صادق، دافئ، أصيل وأليف إزاء الإنسان العراقي، عن حياته ومسراته وعذاباته، عن أفراحه وأتراحه، عن شهدائه وأبطال نضاله، عن أحلامه وتطلعاته، عن حياة العامل والفلاح والكاسب والحرفي والخياط وصاحب القهوة والحمام، عن الجنس الذي يشغل الشرقي من البشر والعراقي بشكل مباشر. هذا الفنان يشدك إلى العراق، أن تحب العراق وأن تحب أهل العراق، أن تحب الإنسان وأن تحب الخير وتكره الشر. هذا الفنان المفعم بحب العراق والإنسان، الذي جسدت لوحاته الفنية الأخاذة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للإنسان العراقي، ينهل باستقلالية عالية ومتفردة وواعية من معين الحضارة العراقية منذ أيام سومر وبابل وآشور.. والحضارة العربية والإسلامية ومن تجارب العراق الفنية الحديثة ويمزجها بما درسه واطلع عليه من ثقافة فنية أوروبية وعالمية وما اكتنزه من معارف وخبر لا في الفن التشكيلي فحسب، بل وبالموسيقى والغناء والرواية والقصة والحدوتة أو الحكايات الشعبية التي تتجلى برؤية مدققة وعفوية أصيلة في ألوانه وتخطيطاته الجريئة والحميمة التي تعبر عما هو في داخل هذا الإنسان وما يحمله من وعي بالحياة والإنسان ومن خيال خصب ومعطاء, ولوحاته تحمل في الوقت ذاته التناقض السرمدي للحياة بين الحركة و السكون، بين الظل والضوء، بين الخير والشر، بين المنتج والطفيلي، ألوانه الصافية وتلك المتداخلة المتناغمة مع الموضوع أو المضمون الذي يعمل للتعبير عنه. إنها التكامل الإبداعي بين الشكل والمضمون. يرى المتطلع للوحاته أنها في حركة أبدية غير منقطعة تنبض بالحياة، رغم السكون الذي تمنحه في الرؤية الأولية لتترك للناظر إليها فرصة التفكير والتفسير والتحليل. إنها السكون والحركة في آن واحد.

إن فيصل فنان الشعب بحق، فنان المجتمع العراقي، فنان النضال السياسي والاجتماعي، فنان التنوير الفكري والديني والاجتماعي، فنان الذي يقول بأن الفن يفترض أن يكون للشعب وقضاياه. تنقلك لوحاته إلى الحياة العراقية اليومية على امتداد العقود المنصرمة ومن مرحلة إلى أخرى، أو من ملف إلى آخر من ملفات الحياة اليومية للعراقيات والعراقيين. فهو يضعك وجهاً لوجه أمام الاستبداد بلك أساليبه وأدواته الفاشية دون رتوش ويجعلك تشتمه بصوت مرتفع، يضعك أمام ضحايا الاستبداد شهداء ونساء يحملن ضحاياهن، شهداء على طريق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. لوحاته فيصل لعيبي تمنحك الفرصة للدنو من نبض الحياة المتحركة التي تتجلى في عمل الكاسب والحلاق والرقاع وماسح الأحذية وبائع الرقي والبطيخ، والقهوجي والعاطلين عن العمل الذين يملؤون المقاهي الشعبية أو المخبر السري الذي يتربص بالضحية، أو الضابط الذي يخفي قسوته وراء نظارته. المقاهي التي تعكس موزائيك العراقي الاجتماعي أو القومي وأزياء الناس وألوان بشرتهم. الجنس، هذا الموضوع التابو، يكشف عنه فيصل بكل أبعاده العراقية الفعلية بجرأة كقصص ألف ليلة وليلة وما يجري في ليالي بغداد، ولكن يملأ اللوحة بدفء إنساني متفرد وحميم، بغض النظر عن من يمارس هذا الجنس ومع من.

تجد في لوحاته الكثير من أنواع الفاكهة العراقية والتي كما عبر عنها أحد الكتاب بأنها ترمز للجنس والخصب والنماء. وقد وجدت في لوحاته التشكيلية الكثير من الفاكهة العراقية إلا التمر، وخاصة تمر البصرة، وهو منها، فما السبب؟ لا أدري!

إن روعة لوحات فيصل لعيبي هي نتاج لحس فني فطري وموهبة كبيرة مصقولة بالعلم والثقافة الرفيعة والدراسة الدؤوبة وعدم الكلل عن البحث أو الملل، إنه مثقف يحمل هموم شعبه ويدرك بعمق وسعة مسؤولية الفن والفنان الملتزم بقضايا الإنسان. لوحات فيصل تجسد في عمقها وفي فراغاتها وألوانها وشخوصها ألحاناً موسيقية، عزف منفرد، غناء حزين، انحناءات خطوطه سلم موسيقي يجعلك مأخوذاً بها.  

الفنان فيصل مرَّ بكل المدارس الفنية المعروفة عالمياً واغتنى بها وأغناها، ووضع أو طور مدرسته الواقعية غير التقليدية المتفردة عراقياً وعربياً وعالمياً. يمكن أن تجد في لوحاته الكثيرة المنتشرة على نطاق واسع، والتي ستنتشر في الكثير من عواصم وبلدان العالم، الكثير من المقاربات مع جواد سليم ومحمود صبري في بدايات أعماله الكبيرة، أو بيكاسو وماتيس وغيرهم، ولكنك ستخرج بنتيجة واحدة أو استنتاج واحد ومهم هو، أصبح فيصل لعيبي مدرسة فنية بذاتها، إنها الواقعية العراقية المعاصرة المتفردة المتحركة والمتطورة والمشاكسة للواقع القائم، وهي بمستوى عالمي، كما عبر عن ذلك بعض من كتب انطباعاته عن فن الرسم لدى فيصل لعيبي والمنشورة في كتابه الرائع "البحث عن الذات"، الذي يفترض أن لا يخلو بيتاً قادراً على اقتنائه منه، أو في الصحافة والمواقع الفنية وغيرها. اشعر بالاعتزاز والامتنان لامتلاكي لوحتين من لوحاته الرائعة منذ العام 1980 وكانتا هدية منه لي. إنه صديق رائع أعتز وأتشرف بصداقته، إنه إنسان صريح وشفاف وصادق في وده وعلاقاته، وحميم لشعبه ووطنه وللنهج السياسي والاجتماعي والفني الذي التزم به. ومثل هذا الفنان جدير بأن يرفع راية النضال من أجل عراق حر وديمقراطي اتحادي ومن أجل تقديم كل الدعم لنازحي العراق ومشرديه. فشكراً له على حملته وتضامناً معه ومع من يمشي على هذا الدرب الإنساني المنشود. أقام فيصل لعيبي بصورة منفردة أو مشتركة الكثير من المعارض الفنية حيث عرضت لوحاته. وآخر معرض له كان في هذا العام 2015 في "دبي". نشرت جريدة "الصباح الجديد" العراقية ما قاله المدير التنفيذي لغاليري «ميم»، شارلي بيكوب، وجاء فيها: "إننا «عادةً ما نرسل كتاب المعرض قبل أن يفتتح إلى المتاحف العامة والخاصة، والنخبة من جامعي اللوحات لندعوهم لزيارة المعرض، وما أن استلم هؤلاء الكتاب الذي يحتوي على صور واضحة ومفصلة للوحات، حتى بدأت الحجوزات لتباع كل اللوحات قبل أن يفتتح المعرض، وما زاد غرابة الأمر أن بعض اللوحات طلبت من أكثر من متحف أو شخص مهتم، الأمر الذي أربكنا معهم كونهم لم يعتادوا مثل هذه الحالة». لنضع أيدينا جميعا بيد فيصل لعيبي في حملته الوطنية من أجل دعم نازحي العراق.

انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية (الفنان وعازف العود نصير شمة).

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 15-04-2015     عدد القراء :  3858       عدد التعليقات : 0