الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
التَّازي المغربي.. عنوان داره بغداد!

كان المؤرخ والدِّبلوماسي عبدالهادي التَّازي (1921- 2015) أحد الكبار في المجالين، التَّاريخ والدُّبلوماسية، وعندما يكون المثقف سفيراً لبلاده يُقدم الصُّورة المشرقة في ما يمتلكه مِن معارف وسلوك. فالتَّازي ليس كأحد من الدِّبلوماسيين، وصل بغداد وهو علم مِن أعلام بلاده الثقافية، في أول مهمة لدولته سفيراً (1963- 1967) ثم عاد إليها (1968-1971) بعد تعلق بها.

خرجَ أجيالاً مِن أصحاب الشَّهادات العليا، فصاروا أساتذة وممارسين معروفين في مجالاتهم، وصنف وحقق عشرات الكتب، أرَّخ لمدينته فاس في أكثر مِن كتاب، وواحد منها صدر بثلاثة مجلدات، أما عمله الأكبر فهو «تاريخ المغرب الدُّبلوماسي» (12 مجلداً)، ومِن نوادر تحقيقه «تاريخ المنّ بالإمامة على المستضعفين» لابن صاحب الصَّلاة (ت 594 ه)، ولعل أهم تحقيقات «رحلة بن بطوطة» كانت له (5 مجلدات)، فكم حُققت تلك المخطوطة لكن لم يقف أحد على أوهام الرحالة فيها.

يحمل التَّازي عن بغداد ذكريات سعيدة مع مؤرخين وشعراء ومثقفين، فقد وصلها وهي تغلي بانقلاب عسكري لينتهي بانقلاب آخر، واستمر بها لأربعة أعوام، كان يطوف على منتدياتها ومجالسها متعرفاً على أعلامها في الفكر والأدب.

كان الكثير من الشباب يسمع عنه وينظر إليه بمنظار التَّلاميذ للأساتذة، وإذ تصلني رسالة منه، يسألني فيها عما إذا كنت أحد الوجوه التي تعرف عليها ببغداد الستينيات، أسوة بمصطفى جواد (ت 1969) مثلاً، مستوضحاً عن أمر ما في حينه. فأجبته: يوم كنتم كباراً كنا في الابتدائية والمتوسطة، بعدها استمرت الصِّلات، وزرته بالرِّباط لأكثر مِن مرة.

فوجئت وأنا أقف أمام داره باسم «بغداد»، فتسمرتُ مندهشاً، حتى طلَ فاتحاً ذراعيه مرحباً كأني أحمل ما ترك مِن ذكريات ضائعة له هناك. ولم أنس أن أسأله عن السرِّ؟ قال: «أحببت بغداد بحاضرها وماضيها العريق، ولهذه العاصمة موقف لا ينساه المغاربة، وهو الحفاظ على تراب المغرب»، ويقصد قضية الصحراء.

كان أنيقاً في هندامه وكلامه وابتسامته وتعامله مع الآخرين، صحيح أنه يُعد مِن الأرستقراطية المغربية، بحكم تاريخه الوظيفي، لكنه كان متواضعاً بما يمتلكه من خزين معرفي، ومَن يقرأ التَّاريخ يتطبع على التَّواضع، فكيف بمَن يعيش التَّاريخ مؤلفاً ومحققاً؟ اختارته دولته للملمّات، كاختياره سفيراً إلى إيران بعد شهرين من الثَّورة، وسط الفوضى وردات الفعل على كلِّ ما يتعلق بعلاقات إيران الملكية.

وجدتُ لديه أوراقاً متناثرة وصوراً نادرة عن أبوظبي، التي وصلها (1971) سفيراً، قبل إعلان دولة الإمارات بتسعة شهور. فقلت له: لماذا لا تجمع هذه الأوراق والصور ليكون كتاباً، فأنت شاهد عيان على هذه التجربة، كيف نراها في الصور وكيف هي الآن؟ فحبذ الفكرة، وزرته مرة أخرى وسلمته رسالة من صاحب «دار مدارك» الإعلامي تركي الدخيل، عارضاً عليه ما يمكن للدار نشره، على أن أزوره كي أساعده في ذلك. لكن سفري تعثر. ولما التقيته بموسم الجنادرية (2014)، وهو على كرسي متحرك، ويملأ الأجواء ابتساماً وتحايا، قال: «لقد جمعتُ شعث الورق وسيصدر».

كان أحد مقدمي النَّدوات لم يعرف مَن هو التَّازي، صاحب الأوسمة والجوائز والمؤلفات العِظام، فلما رفع يده للكلام وتكلم لم يصبر عليه، لكني صحت من مكاني دعه إنه عبدالهادي التَّازي. كانت تلك اللحظة الأخيرة مع مؤرخنا، الذي ملأ المكتبات بمؤلفات موثقة، لا يسع المقال ذِكرها. أقول: عندما يكون الدّبلوماسي مؤرخاً ومثقفاً لا يترك لحظة بلا فائدة، يتحول إلى رحالة، ويُقدم بلاده بأحسن وجه، فالدُّول بالخارج تُعرف بسفرائها.

أنتهي إلى بغداد، التي شوّه مؤرخون معناها الآرامي البابلي «بغدادو» أو «بكدادو»، وقيل معناها بيت الضان (فرنسيس وعواد، أُصول أسماء المدن العراقية)، فماذا بقي منها عندما يتمنى التَّازي زيارتها، وقد أطبق البناء العشوائي على ساحاتها، وذُلت نواديها، والأمل بمَن يرتاد شارع «المتنبي» من وراقين وشعراء وكُتاب وأدباء، فهي بهم لا بغيرهم تقاوم الإهمال وجسارة السِّلاح الطَّائفي.

أجمل مَن قال لتاريخها وحاضرها القريب (1962) مصطفى جمال الدِّين (ت 1996): «بغداد ما اشتبكت عليكِ الأعصرُ/ إلا ذوت ووريق عمركِ أخضرُ/ مرت بكِ الدُّنيا وصبحكِ مشمسٌ/ ودجت عليكِ ووجه ليلكِ مقمرُ/ وقست عليكِ الحادثات فراعها/ أنَّ احتمالكِ من أذاها أكبرُ». في إحدى قراءاته لهذه القصيدة قال جمال الدِّين: «خلقتني شاعراً»، وكانت أهدت للعالم عشرات العِظام في تاريخها. أكتب هذا لعلَّ اختيار التَّازي المغاربي «بغداد» المشارقية عنواناً لداره يُخجل القائمين على أمرها مِن حال شارعها «الرَّشيد» الرَّثة.

  كتب بتأريخ :  السبت 25-04-2015     عدد القراء :  3399       عدد التعليقات : 0