الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
من ذاكرة التاريخ : صدام يزج العراق بحرب ضد إيران

(1)

اتسمت العلاقات العراقية الإيرانية منذُ سنين طويلة بالتوتر والصدامات العسكرية على الحدود في عهد الشاه [محمد رضا بهلوي]، حيث قام الحكام البعثيون في العراق بإلغاء معاهدة 1937 العراقية الإيرانية المتعلقة باقتسام مياه شط العرب بموجب خط التالوك الوهمي الذي يقسم شط العرب إلى نصفين أحدهما للعراق والآخر لإيران، وسبب الإجراء العراقي إلى قيام حرب استنزاف بين البلدين على طول الحدود واستمرت زمناً طويلاً ، ووصل الأمر إلى قرب نفاذ العتاد العراقي، واضطر حكام بغداد إلى التراجع، ووسطوا الرئيس الجزائري [هواري بو مدين] لترتيب لقاء بين صدام حسين وشاه إيران لحل الخلافات بين البلدين.

وبالفعل تمكن الرئيس الجزائري من جمع صدام حسين وشاه إيران في العاصمة الجزائرية وإجراء مباحثات بينهما انتهت بإبرام اتفاقية 16 آذار 1975، وعاد حاكم بغداد إلى اتفاقية عام 1937 من جديد، ووقفت حرب الاستنزاف بينهما، ووقف الدعم الكبير الذي كان الشاه يقدمه للحركة الكردية، حيث استطاع البعثيون إنهاءها، وإعادة بسط سيطرتهم على كردستان من جديد.

وفي عام 1979، في أواخر عهد البكر، وقعت أحداث خطيرة في إيران، فقد اندلعت المقاومة المسلحة ضد نظام الشاه الدكتاتوري المرتبط بعجلة الإمبريالية الأمريكية، وأتسع النشاط الثوري، وبات نظام الشاه في مهب الريح، وسبّبَ ذلك الوضع الخطير في إيران أشد القلق لأمريكا، فقد كانت مقاومة الشعب الإيراني لنظام الشاه قد وصلت ذروتها، وبات من المستحيل بقاء ذلك النظام، وبدأت أيامه معدودة.

كان هناك على الساحة الإيرانية تياران يحاولان السيطرة على الحكم، التيار الأول ديني يقوده [آية الله الخميني] من منفاه في باريس، والتيار الثاني يساري يقوده [حزب تودا الشيوعي]و [مجاهدي خلق]اليساري ووجدت الولايات المتحدة نفسها أمام خيارين أحلاهما مُرْ. لكن التيار الشيوعي كان يسبب لها بالغ القلق نظراً لموقع إيران الجغرافي على الخليج أولا، ولكون إيران بلد منتج للنفط في المنطقة ثانيا، ولأن إيران تجاور الاتحاد السوفيتي ثالثاً.

وبناء على ذلك رأت الإدارة الأمريكية إن مجيء الشيوعيين إلى الحكم في إيران سوف يعني وصول الاتحاد السوفيتي إلى الخليج، وهذا يهدد مصالحهم النفطية بالخطر الكبير، ولذلك فقد اختارت أهون الشرين [بالنسبة لها طبعاً]، وهو القبول بالتيار الديني خوفاً من وصول التيار اليساري إلى الحكم، وسهلت للخميني العودة إلى إيران من باريس لتسلم زمام الأمور بعد هروب الشاه من البلاد، وهكذا تمكن التيار الديني من تسلم زمام السلطة، وتأسست الجمهورية الإسلامية في إيران في آذار 1979.

إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهِ السفن، كما يقول المثل، فلم تكد تمضي سوى فترة قصيرة من الزمن حتى تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بعد أن إقدام النظام الجديد على تصفية أعداد كبيرة من الضباط الكبار الذين كانوا على رأس الجيش الإيراني، كما جرى تصفية جهاز [السافاك] الأمني الذي أنشأه الشاه بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، وجرى أيضاً تصفية كافة الرموز في الإدارة المدنية التي كان يرتكز عليها حكم الشاه.

وجاء احتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الحرس الثوري الإيراني، واحتجاز أعضاء السفارة كرهائن، وإقدام الحكومة الإيرانية على طرد السفير الإسرائيلي من البلاد وتسليم مقر السفارة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، كل تلك الأحداث المتتالية أثارت قلق الولايات المتحدة، ودفعتها لكي تخطط لإسقاط النظام الجديد في إيران قبل أن يقوى ويشتد عوده، أو على الأقل إضعافه وإنهاكه.

وتفتق ذهن المخابرات المركزية إلى أن خير من يمكن أن يقوم بهذه المهمة هو صدام حسين، وبهذه الوسيلة تضرب الولايات المتحدة عصفورين بحجر واحدة.

فالعراق وإيران دولتان قويتان في منطقة الخليج، ويملكان إمكانيات اقتصادية هائلة، ولحكامهما تطلعات خارج الحدود، إذاً يكون إشعال الحرب بين البلدين وجعلها تمتد لأطول مدة ممكنة كي يصل البلدان في نهاية الأمر إلى حد الإنهاك، وقد استنزفت الحرب كل مواردهما، وتحطم اقتصادهما، وهذا هو السبيل الأمثل للولايات المتحدة لبقاء الخليج في مأمن من أي تهديد محتمل.

وهكذا خططت الولايات المتحدة لتلك الحرب المجنونة، وأوعزت لصدام حسين بمهاجمة إيران والاستيلاء على منطقة [خوزستان] الغنية بالنفط، واندفع صدام حسين لتنفيذ هذا المخطط يحدوه الأمل بالتوسع صوب الخليج، وفي رأسه فكرة تقول أن منطقة [خوزستان] هي منطقة عربية تدعى [عربستان] .

لم يدرِ بخلد صدام حسين ما تخبئه له الأيام ؟ ولا كم ستدوم تلك الحرب؟ وكم ستكلف الشعب العراقي من الدماء والدموع؟ ناهيك عن هدر ثروات البلاد، واحتياطات عملته، وتراكم الديون الكبيرة التي تثقل كاهل الشعب العراقي واقتصاده المدمر.

لقد سعت الإمبريالية بأقصى جهودها لكي تديم تلك الحرب أطول فترة زمنية ممكنة، وهذا ما أكده عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين أنفسهم وعلى رأسهم [ريكان] و[كيسنجر]، وغيرهم من كبار المسؤولين الأمريكيين. فقد صرح الرئيس الأمريكي ريكان حول الحرب قائلاً:

{ إن تزويد العراق بالأسلحة حيناً، وتزويد إيران حيناً آخر، هو أمر يتعلق بالسياسة العليا للدولة }.

وهكذا بدا واضحاً أن الرئيس ريكان كان يهدف إلى إطالة أمد الحرب، وإدامة نيرانها التي تحرق الشعبين والبلدين معاً طالما أعتبر البلدان بما يملكانه من قوة اقتصادية وبشرية، خطر على المصالح الإمبريالية في الخليج، وضمان وصول النفط إلى الغرب، وبالسعر الذي يقررونه هم لا أصحاب السلعة الحقيقيين.

أما هنري كيسنجر منظّر السياسة الأمريكية فقد ذكر في مذكراته التالي:

{إن هذه أول حرب في التاريخ أردناها أن تستمر أطول مدة ممكنة ولا يخرج أحد منها منتصراً بل كلا الطرفين مهزومين}!!، وتلك هي الجريمة الكبرى بحق العراق وإيران. وطبيعي أن هدف الإمبريالية لا يمكن أن يتحقق إذا لم تستمر تلك الحرب إلى أمد طويل، وإضافة إلى كل ذلك كان سوق السلاح الذي تنتجه الشركات الغربية مزدهراً، ومحققاً أرباحاً خيالية لتجار الحروب والموت، في حين استنزفت تلك الحرب ثروات البلدين المادية والبشرية، وسببت من الويلات والماسي والدموع ما لا يوصف، فلم تترك تلك الحرب عائلة في العراق وإيران دون ضحية.

لكن الإمبريالية لا تفهم معنى الإنسانية، فقد كان الفرح يغمر قلوبهم وهم يشاهدون كل يوم على شاشات التلفزيون وصور الأقمار الصناعية تلك المجازر التي بلغ أرقام ضحاياها حداً مرعباً، فقد قتل في يوم واحد من أيام المعارك أكثر من عشرة آلاف ضحية، وكانت مصالحهم الاقتصادية تبرّر كل الجرائم بحق الشعوب.

أن الحقيقة التي لا يمكن نكرانها هي إن تلك الحرب كانت من تدبير الإمبريالية الأمريكية وشركائها، وأن صدام حسين قد حارب نيابة عنهم ولمصلحتهم بكل تأكيد، ولا مصلحة للشعب العراقي إطلاقاً في تلك الحرب، ولا يوجد أي مبرر لها أبداً.

كما أن إيران لم تكن مستعدة لتلك الحرب، ولم يعتقد حكام إيران أن النظام العراقي يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة، وهذا ما يؤكده اندفاع القوات العراقية في العمق الإيراني خلال أسابيع قليلة دون أن يلقى مقاومة كبيرة من قبل الجيش الإيراني .

أحدث تقدم الجيش العراقي في العمق الإيراني قلقاً كبيراً لدى القيادة الإيرانية التي بدأت تعد العدة لتعبئة الجيش بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات، وقامت عناصر من الحكومة الإيرانية بالبحث عن مصادر للسلاح، حيث كان السلاح الإيراني كله أمريكياً، وكانت الولايات المتحدة قد أوقفت توريد الأسلحة إلى إيران منذُ الإطاحة بالشاه، وقيام الحرس الثوري الإيراني باحتلال السفارة الأمريكية واحتجاز أعضائها كرهائن، وتمكنت تلك العناصر عن طريق بعض الوسطاء من تجار الأسلحة من الاتصال بإسرائيل للحصول على السلاح، وبالفعل أقدم حكام إسرائيل على تلبية حاجة إيران من السلاح كي تستمر الحرب بين البلدين.

ولم يكن تصرف إسرائيل هذا بمعزل عن الولايات المتحدة ورضاها ومباركتها إن لم تكن هي المرتبة لتلك الصفقات، بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن الوضع العسكري في جبهات القتال قد أصبح لصالح العراق، ورغبة منها في إطالة أمد الحرب فقد أصبح من الضروري إمداد إيران بالسلاح لمقاومة التوغل العراقي في عمق الأراضي الإيرانية، وخلق نوع من توازن القوى بين الطرفين.

ففي آذار من عام 1981 أسقطت قوات الدفاع الجوي السوفيتية طائرة نقل دخلت المجال الجوي السوفيتي قرب الحدود التركية وتبين بعد سقوطها أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات إسرائيلية إلى إيران، وعلى الأثر تم عزل وزير الدفاع الإيراني [عمر فاخوري ] بعد أن شاع خبر الأسلحة الإسرائيلية في أرجاء العالم .

إلا أن ذلك الإجراء لم يكن سوى تغطية للفضيحة، وظهر أن وراء تلك الحرب مصالح دولية كبرى تريد إدامة الحرب وإذكاء لهيبها، وبالفعل تكشفت بعد ذلك في عام 1986 فضيحة أخرى تلك التي عُرفت بفضيحة إيران ـ كونترا على عهد الرئيس الأمريكي [رونالد ريكان] الذي وجد أن استمرار لهيب الحرب يتطلب تزويد إيران بالسلاح وقطع الغيار والمعدات، من قبل الولايات المتحدة وشركائها، وبشكل خاص إسرائيل التي كانت لها مصالح واسعة مع حكومة الشاه لسنوات طويلة، وكان تقديم السلاح لإيران قد حقق هدفين للسياسة الإسرائيلية الإستراتيجية:

الهدف الأول: يتمثل في استنزاف القدرات العسكرية العراقية التي تعتبرها إسرائيل خطر عليها.

الهدف الثاني: هو تنشيط سوق السلاح الإسرائيلي، حيث قام الكولونيل [ اولفر نورث ] مساعد مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي بترتيب التعاون العسكري الإسرائيلي الإيراني من وراء ظهر الكونجرس الذي كان قد اصدر قراراً يمنع بيع الأسلحة إلى إيران، وجرى ترتيب ذلك عن طريق شراء الأسلحة إلى ثوار الكونترا في نكاراغوا، حيث كان هناك قرارا بتزويد ثورة الردة في تلك البلاد، وجرى شراء الأسلحة من إسرائيل، وسجلت أثمانها بأعلى من الثمن الحقيقي لكي يذهب فرق السعر ثمناً للأسلحة المرسلة إلى إيران، هذا بالإضافة إلى ما تدفعه إيران من أموال لهذا الغرض.

و انتهزت إسرائيل فرصة قيام الحرب العراقية الإيرانية، لتقوم بضرب المفاعل الذري العراقي عام 1981، فقد كانت إسرائيل تراقب عن كثب سعي النظام الصدامي لبناء برنامجه النووي، حيث قامت فرنسا بتزويد العراق بمفاعل ذري تم إنشاءه في الزعفرانية، إحدى ضواحي بغداد، وكانت إسرائيل تتابع التقدم العراقي في هذا المجال عبر جواسيسها باستمرار، وعندما قامت الحرب العراقية الإيرانية وجدت إسرائيل الفرصة الذهبية لمهاجمة المفاعل، مستغلة قيام الطائرات الإيرانية شن غاراتها الجوية على بغداد ، وانغمار العراق في تلك الحرب مما يجعل من العسير عليه فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل آنذاك .

وهكذا هاجم سرب من الطائرات الإسرائيلية يتألف من 18 طائرة المفاعل النووي العراقي في كانون الثاني 1981، وضربه بالقنابل الضخمة، وقيل حينذاك أن عدد من الخبراء الفرنسيين العاملين في المفاعل قد قدموا معلومات واسعة ودقيقة عن المفاعل مما سهل للإسرائيليين إحكام ضربتهم له، وهكذا تم تدمير المفاعل.

لم يستطع حكام العراق القيام بأي رد فعل تجاه الضربة الإسرائيلية، واكتفوا بالتوعد بالانتقام من إسرائيل، فلم يدر في خلدهم أن الحرب سوف تطول لمدة ثمان سنوات، ويُغرق صدام حسين شعبه وبلاده في تلك الحرب المدمرة، حيث دفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً من أرواح أبنائه، وثروات بلاده وأثقلته بالديون .

و في أواسط عام 1982، استطاع النظام الإيراني احتواء هجوم الجيش العراقي، وتوغله في عمق الأراضي الإيرانية، وإعداد العدة للقيام بالهجوم المعاكس لإخراج القوات العراقية من أراضيه بعد أن تدفقت الأسلحة على إيران، وقامت الحكومة الإيرانية بتعبئة الشعب الإيراني، ودفعه للمساهمة في الحرب.

3 / 5 / 2015

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 05-05-2015     عدد القراء :  3339       عدد التعليقات : 0