الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
اكتشاف المسيحيين
بقلم : إنعام كجه جي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

كأن العراقيين اكتشفوا أن هناك مواطنين يشاركونهم الانتماء لتلك الأرض ويدينون بالمسيحية. كم كان عددهم؟ وكم أصبح؟ ما نسبتهم إلى المجموع؟ لم يعد ذلك مهمًا بعد خراب البصرة، كما يقول المثل القديم، أو بعد خراب الموصل، حسب المثل الأحدث. وقد نتج عن هذا الاكتشاف المفاجئ سيل من المقالات والأغاني والمدائح الموجهة للعراقيين المسيحيين، تستذكر صفاتهم وطباعهم وطقوسهم وخبراتهم وما قدموه للبلد في الاقتصاد والسياسة والعلم والأدب والفن.

وعندما تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي، قبل سنتين، صورة لخطاب رسمي صادر عن الحكومة يشير إلى المسيحيين باعتبارهم «جالية»، هبّ المدوّنون والمغرّدون والفسابكة والمعلّقون يعترضون على هذا الخطأ ويستنكرون أن يصدر عن رئاسة الوزراء. لماذا الاستنكار؟ هل نحن في السويد أم أننا، واقع الحال، في دولة طائفية تدير أُمورها بالمحاصصة وتتعامل مع المواطن بالمحاصصة وترتاب في كل مختلف حتى ولو كان من الدين نفسه؟ قل لي ما مذهبك أقل لك من أنت.

في السابق، كانت الشخصية المسيحية لا تحضر في الروايات والمسرحيات إلا عند الحاجة لصاحب حانة أو فتاة ليل. أما اليوم فإن المسيحي والمسيحية يدخلان مرفوعي الرأس إلى الروايات التي تصدر بأقلام كتّاب مسلمين يسعون لإضفاء نكهة إنسانية على ما يكتبون. وفي السياق نفسه، ظهرت شخصية اليهودي العراقي في الأدب، بوصفه مواطنًا أصيلاً يتعلق بتربة بلده رغم المحاولات الحثيثة لطرده منه، وليس بوصفه مرابيًا أو جاسوسًا أو منافقًا ينتظر الفرصة للقفز إلى إسرائيل. إنها شخصيات غير أساسية، تبدو لي «تجميلية» مفتعلة وعابرة، مثل وسائل الإيضاح التي يأتي بها المعلمون لشرح المعلومات بشكل أيسر للتلاميذ. كأن آلاف المعلمين المسيحيين والأطباء والحرفيين والتجار والمهندسين والراهبات والكهنة كانوا من دون وجوه ولا أسماء، يسيرون في المدن وهم يرتدون طاقيات الإخفاء. بشر منسيون محفوظون في النفتالين وقد آن الأوان لاستخراجهم من الحقيبة وإرسالهم إلى المكوى ليصبحوا جاهزين للظهور.

نتيجة لهذا التهافت، نشر ناقد يعمل أستاذا للأدب العربي في جامعة بريطانية، دراسة عما سمّاه «الرواية المسيحية» في العراق. فأي مسيحي هذا الذي نقرأ عنه اليوم المقالات ونسمع الأناشيد؟ إنه كامل الأوصاف: الوطني المُخلص النظيف المثقف العفيف المسالم الأمين المتسامح الصادق الخارق العاشق للحياة وللموسيقى ولجيرانه من أتباع الأديان والمذاهب والقوميات الأخرى. نوع من «سوبرمان» لا يمكن أن يجمع تحت وشاحه طائفة بكاملها كان تعدادها مليونًا ونصف المليون. إنها، من دون شك، نظرة صادرة عن نفوس نقية، وبأقلام كتّاب مُنصفين. لكن «الزائد أخو الناقص» كما نقول في أمثالنا المحلية. فالتطرف في المحبة لا يغيّر الواقع ولا يخدم المسيحيين. وهو قد يكون وبالاً عليهم. إنهم بشر مثل كل البشر وليسوا ملائكة.

عراقيون طيبون ومواطنون أُصلاء. نعم. لكن بينهم الجبان والحسود والمرتشي والمرتزق وكل الصفات التي ينطوي عليها بنو آدم. وبهذا فإن المبالغة في الطوباوية أو في إضفاء المدائح تبعث على الأسى، لأنه يضع المسيحي المفترض في خانة خاصة لا تشبه بقية شركائه في الوطن. أي أنها تمارس ضده التمييز، من حيث لا تدري ولا تقصد. وهي لا تداوي ما يتعرض له المسيحيون من استهداف واعتداءات وتهجير في العراق وغيره من بلاد عربية. فالدواء الوحيد هو اعتبارهم مواطنين كاملي الأهلية ومنحهم حقوقهم وحماية أعراضهم وممتلكاتهم.

لقد فاق عدد المسيحيين العراقيين في كندا وأستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة عددهم في سهل نينوى. ومثلهم الملايين من مسيحيي فلسطين ولبنان وسوريا ومصر. وكلما سمعت شعار «عاش الهلال مع الصليب» في فيلم أو مظاهرة تعتريني الخشية. هذا شعار مكانه البيت والمدرسة وحواضن تنشئة الأجيال، لا الشارع وقنوات التلفزيون. وقد عاش الهلال مع الصليب في عراق النصف الأول من القرن العشرين، من دون جعجعة ولا لافتات. ثم زحفت الدبابات وراح الزعماء يدخلون الكنائس للدعاية والظهور أمام الكاميرات. وفي مرحلة تالية رأيناهم يقودون «حملات إيمانية» ويزورون المساجد ويأمرون بتذهيب قباب مراقد الأولياء لذرّ الرماد في العيون. لكن تلك حكاية أخرى.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 18-05-2015     عدد القراء :  1755       عدد التعليقات : 0