الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
المتوكل.. الدافع الشخصي في انقلابه

أتينا في مقال سابق على الدَّافع الشَّخصي وراء حركة زيد بن علي (قُتل 122هـ)، وكيف تفرع إلى ثورات وعقائد ما زالت مشتعلة، وفي هذا المقال نُذكر بموقف مشابه، حدث بعده بأكثر من مئة عام، أسفر عن تغيير مسار الدولة، وأكثر من ذلك أنه كان البداية في ضعف مُلك بني العباس. كانت خلافة المتوكل (232- 247 هـ) بعد أخيه الواثق نقطة تحول فاصلة، في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية أيضاً، فمن المأمون (198-218هـ) وحتى نهاية الواثق (227- 232 هـ)، مروراً بالمعتصم (218- 227 هـ) نشطت حركة الترجمة وفتحت مجالس المناظرات، وكان جميع الأديان والمذاهب وأهل العقائد يحضرونها، فأعلن المأمون في العام الأخير من حياته مقالة المعتزلة «خلق القرآن» امتحاناً شديداً على الفقهاء، أضر بالمعتزلة قبل غيرهم.

وما يهمنا في هذه الكلمة هو انقلاب المتوكل، هل كان لعقيدة أم لوازع شخصي؟ لمِا أحس به مِن إذلال في حياة أخيه، فلا نجد في سيرة حياته أنه كان مِن المهتمين بالحديث، أو يفكر بما اسماه المؤرخون، المؤيدون لانقلابه بـ«إحياء السُّنة» (الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء)، فكيف تقدم لإلغاء ثلاثة عقود ونصف مِن سيرة عمه ووالده وأخيه، باتخاذهم للاعتزال نهجاً وانفتاحاً على الثقافات؟ مع شطر مِن عهد جده الرَّشيد (ت 193هـ) الذي قرب المتكلمين ثم أقصاهم؟

نجد الوازع الشخصي واضحاً وراء الانقلاب، وذلك ما لا يريد أن يتوقف أمامه الموافقون معه بغلق أبواب المناظرات الفكرية، وما صاحبه مِن قمع المتكلمين وغير المسلمين، بتطبيق ما سمي بالشُّروط العمرية فيهم «لبس الطَّيالسة والزَّنانير، وركوب السروج بركب الخشب...» (الطبري، تاريخ الأمم والملوك). ونكب المعتزلة بنكبة القاضي أحمد بن أبي دؤاد (ت 240 هـ)، مع أن الأخير كان سبباً في خلافته.

كان غضباً شخصياً تحول إلى موقف عقائدي، أو وصلنا هكذا، وبعد الاطلاع على حياة المتوكل في ظل خلافة أخيه نجده عاش مقصياً ومهاناً، يتوسط الوجهاء لنيل رضا أخيه. وأهين بحلق شعره أمام موظفي دار الخلافة وهو ابن المعتصم، بينما كان يعتقد عندما بعث إليه الخليفة أنه سيخلع عليه، فتهيأ بلبس سواد جديد، ومعلوم أن السَّواد جعله جد الخلفاء المنصور (ت 158 هـ) شعاراً للدولة، ولكنه تفاجأ باستدعاء حجام لحلق شعره، لما نُقل عنه بأنه تزيا بزي غير لائق بآل العباس. إضافة إلى حجب المال عنه ولا يحصل عليه إلا بواسطة وزير أو قاضي قضاة (الطبري).

كانت سياسة المتوكل انتقامية، ضد مَن سخر منه وأهمله بترشيح ابن أخيه خليفةً، فعلى ما يبدو أن الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه لم ينصبوا أولياء عهود، وقد كسر القاعدة بتولية أولاده. طال الانتقام الوزير الزَّيات (قتل 233هـ)، ثم أخذ يصفي كل تركة عمه وأبيه وأخيه خطوة خطوة، حتى غيّر مسار الدولة، ولكن الذين كانوا يعتقدون أنه أحيا السُّنة، وأعاد للخلافة هيبتها بسامراء، لم يذكروا أن سياساته كانت المسمار الأول في نعش الخلافة، فبعد قتله على يد ولده، أخذ الغلمان يتلاعبون بمصائر الخلفاء، حتى اجتاح البويهيون (334هـ) ثم السلاجقة (447هـ) بغداد.

إن المطلع على تفاصيل سيرة المتوكل سيجد انقلابه غير ما قُدم به، مِن أنه ثأر للدين ونصرة لأهل الحديث، فطبع الرجل العام كان مخالفاً لهذه الطَّبقة، وهو مِن أكثر الخلفاء إظهاراً للترف، ببناء القصور واتخاذ الجواري (المسعودي، مروج الذهب). وهذا ما لا ينسجم مع أهل الحديث ولا تقشف الحنابلة. هنا نقف أمام نزوع شخصي قد قلب مسار الدولة. فمِن شدة حنقه على أخيه، وبقية العباسيين، قرر نقل العاصمة إلى دمشق، وأخذ يتصرف بهوىً أموي، فقال الشَّاعر: «أظن الشَّام يشمت بالعراق.. إذا عزم الإمام على الطَّلاق/ فإن تدع العراق وساكنيه.. فقد تُبلي المليحة بالطَّلاق» (ابن تغري بردي، النُّجوم الزَّاهرة).

هنا ننقل عن القاضي عبد الجبار رأياً يُعلل به نزوع المتوكل الشَّخصي: «وحكي عن المتوكل أنه أظهر خلاف ذلك، لِما بينه وبين أخيه الواثق من العداوة» (فضل الاعتزال). صحيح أن عبد الجبار كان معتزلياً في الأصول لكنه مع السُّنة في الفروع لأنه شافعي، التي قيل إن المتوكل قد أحياها.

القصد من المقال، يجب عدم تحميل الحوادث أكثر مما تستحق، لأنها تتناغم مع رغباتنا، ونبني للمتوكل مجداً دينياً لأنه اضطهد الخصوم، فكم من حادثة أخذت صيتاً مدوياً في التَّاريخ، وما زال يتنازع فيها النَّاس، وكانت لا تتعدى حدود الدَّافع الشَّخصي.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 26-05-2015     عدد القراء :  3402       عدد التعليقات : 0