الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
النجف والشرارة

لسبب ما وجدت نفسي اعد مدينة النجف ميناء رغم أنها واقعة على حافة صحراء واسعة. وأنا أحببت المدن الساحلية واستهوتني الموانئ، منذ أن شاءت الظروف ذات يوم ان اركب البحر واعمل بحارا. ومنذ ذلك الحين غدت المواني أليفة بالنسبة لي، فهي تبدد وحشة البحّار وغربته، خاصة عندما يطول به الابحار، وينعزل عن العالم والبحر يحيط به من كل جانب، فيصبح الميناء هاجسه الوحيد، يتشوق ملهوفا للوصول إليه.

والميناء لا ينكر أحدا، فهو دار للجميع. لا تشعر فيه بالغربة او الضياع، لانه يجعل كل ما حولك مألوفا، وربما كان هذا حال البصرة في سالف الايام.

وعودة إلى السبب الذي جعل النجف في عينيّ ميناء. ربما لأنها ملجأ لكل غريب، وبيت آمن لكل من يقصدها. وهكذا تحدث عنها الأديب الفقيد عبد الغني الخليلي، الذي لم أجد شخصا يحب مدينته كما أحبها هو وأحب مدارسها، وحبّبها الى كل من استمع إليه. كان يعشق حتى حبات الرمل فيها، هي التي كما كان يقول لا تطرد فقيرا، وتفتح ذراعيها لمن يطلب العلم. وقد آوت المفكر الشهيد حسين مروة الذي جاءها معمما، وغادرها حاسر الرأس، بعد ان كشفت له عن اوجه التناقض بين الفقر والغنى. حيث ادرك فيها ان السبب يقع خارج الغيبيات، وانه يكمن في الجشع وشهوة الاستحواذ على كدّ العامل وكدح الفلاح. وكم حدثنا الخليلي عن تلك اللقطة، التي فاجأ فيها مروة زملاءه وهو يسير معهم خلف نعش فقير، حيث لم يتمالك نفسه فراح يردد «قتله الفقر ...قتله الفقر»..

والنجف، مثل أي ميناء مجازي، تزدحم بالمدارس والمجالس، وتنفتح فيها المعارف بأفق واسع، ويتعمق فيها الوعي بضرورات التعايش، وتتعدد الثقافات، وتتجذر الأصالة، وتجد حتى الحداثة موطئ قدم. ومع ذلك حسبت ان اصدار مجلة يسارية فيها، متنوعة المواضيع ومتعددة الاهتمامات، مغامرة غير محسوبة النتائج، ولم أتوقع لها الاستمرار وانتظام التوزيع.

من جهة ثانية كثيرة هي المحاولات التي بادر من خلالها ناشطون ومثقفون الى إصدار مطبوعات، ولم تنجح مبادراتهم بسبب عوامل شتى منها التمويل. فكيف لمجلة لم يكن بين القائمين على اصدارها شخص ميسور، ان تستمر؟ كما ان اسمها ذو إشكالية معينة، فـ «الشرارة» تذكر بالثورة والثورية، وهذه المفاهيم لم تعد دارجة كثيرا، فكيف يجري استقبلها في مرحلة التبست فيها المفاهيم واختلطت المعايير؟

مع ذلك غدت «الشرارة» مشعل ضوء تتطلع اليه ابصار الكثيرين وسط عتمة حالكة، مشعل يبشر بعالم جديد لا ظلم فيه ولا ظلمات.

وهكذا مثل أي مشروع جديد، يظهر في ظروف استثنائية ولم تستكمل كل شروط نجاحه، يواجه مشروع هذا المطبوع الدوري صعوبات من دون ريب، منها المادي ومنها المعنوي.

لكن «الشرارة» رغم كل شيء مضت في طريقها، من دون ان تكبو او تتلكأ او يصيبها الوهن، واستمرت تصدر بانتظام عددا تلو عدد. وها ان اعدادها المتتابعة بلغت المائة في سنة صدورها العاشرة، وها نحن نشاركها الاحتفاء بهذه المناسبة، فيما أعيننا تترقب ديمومة صدورها، ليكتمل الدرس الذي يفيد ان التحدي هو الرد على المحبطات.

  كتب بتأريخ :  الخميس 18-06-2015     عدد القراء :  3138       عدد التعليقات : 0