الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
«الثياب السُّود».. تغزو الأُدباء!

منذ أبريل 2003 والأدباء أضعف الطبقات، في مقاييس لغة العنف السائدة لا لغة الحضارة والثقافة، فلا صوت يعلو على صوت الرشاش والديناميت وكاتم الصوت. فلك أن تقهر الملايين بمئة مسلح يرتدون ثياباً موحدةً، ويشدون رؤسهم بعصائب خضراء أو حمراء على أنها عصائب حقٍ، وعِمامة تتوعد المعترضين بالويل، وهذا ما يحصل منذ ذلك التاريخ وحتى الأربعاء 17 يونيو 2015 عندما غزت اتحاد أدباء العراق جماعة ميليشياوية عُدوا بخمسين مسلحاً يرتدون الثياب السود، معلنين عن رمضانهم. أقول رمضانهم لأن تدينهم غير التدين الذي عليه الناس، يحسبون أنفسهم: «وكلاء الله»، ومَن سماهم أحد أعمدة هذا الاتحاد، وهو معروف الرصافي (ت 1945)، قبل تأسيسه (1959)، بـ«بوليس السماء» (العمري، حكايات سياسية).

مع يقيننا ويقين «بوليس السماء» أنه لا مفخخة جُهزت في اتحاد الأدباء، ولا إرهابي وقاتل ولص تخرج من مدرسته، ولا كلمة بغضاء بُثت من ندواته، ولو بُحث في مقرات الأحزاب المتنفذة وميليشياتها ما وجد العراق مجسداً اسماً وأرضاً وشعباً وثقافة مثلما جسد في أفئدة هؤلاء وأقلامهم.

قدمت هذه الطبقة الصورة الأخرى للعراق، ومن يحلم بالأمل من هذه البلاد، ومن عاصمتها بغداد، ينظر إلى هذا الاتحاد وشارع المتنبي، لا إلى ميليشيات تدر عليها أموال الشر، ولا عذر أنها في مواجهة «داعش» الآن، فقد غزت هذا الاتحاد، وأذلت النوادي الثقافية، قبل وجود «داعش» بسنوات، حصل هذا ويحصل بلا احتجاج ولا اعتراض، ومن هنا أدعو وزير الثقافة لتقديم استقالته، وهذا أقل احتجاج، لأن الأدباء واتحادهم سبب لوجود وزارة عنوانها «الثقافة»، فمن يعرف الرجل وثقافته ينتظر أن يكون أول المحتجين.

لقد تحمل الأدباء، إضافة إلى الاعتداء والإهانة من الداخل، من التابعين للأحزاب الدينية، تخوين الخارج (الثورجي)، على أنهم لم يقاوموا الأميركيين! تحملوا ذلك ويتحملون انتظاراً لنهضة «طائر الفينيق» من الرماد الذي تركته نيران الحروب والاضطهاد والحصار الخارجي. هذا، ويصعب على الإنسان الواعي الانضمام إلى أشباه أبي مصعب أو أبي درع، كي يكون مقاوماً، فمعلوم أن اتحاد الأدباء قاوم المشهد المظلم بقوة أمل إحياء إرث حضاري أكلته الفواجع بالتواتر.

بين فترة وأخرى يعود «بوليس السماء» يغزوا اتحاداً لم يسرق ولم يفسد بأموال الأرامل والأيتام، لم يقطع الطرقات لحماياته أوحواشيه، لم يرم أموال السحت في مهرجانات الدعاية ويستصرخ الدِّين للفوز بأصوات البسطاء، لم يزرع ثقافة التجهيل في الجامعات والمدارس، لم يبث سموم الطائفية في دماء الشباب، ويتكسب من البسطاء بـ«معركتنا بين الحسين ويزيد»!

إن للثياب السُّود تاريخاً، ارتداها العباسيون ودواوين الدولة كافة بأمر رسمي من المنصور (ت 158هـ)، بعد أن أُتخذت حداداً، مِن قَبل، على أخيه إبراهيم بن محمد بن علي (قُتل 131هـ) المعروف بالإمام (العسكري، كتاب الأوائل)، مع إطالة حجم العمائم السُّود على الرؤوس. وبما أن «شرَّ البلية ما يُضحك»، فدعونا نضحك على المرحلة التي يمرُّ العراق بها، وِمن بغداد أيضاً، مع شاعر العباسيين الأوائل زَند بن الجون المشهور بأبي دلامة (ت 161هـ) عندما أُمر كبقية حاشية دار الخلافة بارتداء اللون الأسود واعتمار عمامة طويلة سوداء، وسيف يعلقه في وسطه، وكان من الشعراء السود، ولما ضحك منه القوم رد قائلاً: «وكنَّا نرتجي من إمامٍ زيادةً/ فجادَ بطولٍ زادهُ في القلانسِ/ تراها على هام الرِّجال كأنها..» (الأصفهاني، الأغاني).

هذا وقصة الثياب والرايات السود القادمة من خراسان معروفة في كتب الأقدمين، والغريب أن اخباريي المذاهب متفقون عليها كافة، عندما يتحدثون عن خروج المهدي المنتظر. فتظهر لك تلك الجماعات كأنها تستبق الحدث، وتتخيل نفسها المعنية بتلك الأحاديث. فكم من رواية مُثلت على أرض الواقع وضجت بها رؤساء المذاهب ثقافةً وسياسةً.

أرى هيمنة أصحاب الثياب السود على بغداد، وبقية المدن، ضريبةَ الديمقراطية التي ولدت كسيحة، لأنها شيدت على أساس المحاصصة الطائفية، والذكريات حية، فقبل ذلك كان المهيمنون اليوم يجعلون من سجن مثقف أو أديب على يد السابقين، ضجة إعلامية واحتجاجات أمام السفارات، أما اليوم فيُغزى أدباء العراق كافة في عقر دارهم ولسان الحال يقول: «وتفرج المتفيهقون فلا دمٌ/ يغلي ولا قلمٌ يذود ولا فمُ/ لم تنفقئ خجلاً عيون أبصرت/ وجه الكريم بكفِّ وغلٍ يُلطمُ» (الجواهري 1963).

فمِن أي ميليشيا جاء هؤلاء الخمسون، أليسوا مِن التي تستعرض قوتها في شوارع بغداد علناً، ويحضر استعراضها حزب رئيس الوزراء؟! إنها ثقافتهم «التغييرية» و«الإرسالية»، حسب مفاهيمهم تنفذ بيد أصحاب الثِّياب السُّود.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 24-06-2015     عدد القراء :  3615       عدد التعليقات : 0