الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ضرورات الانتباه الى الجذور والاعماق في معالجة قيمة العملة الوطنية..

من الواضح في السوق المالي والتجاري، ببغداد ،خلال الأسابيع الأخيرة، ظاهرة انفلاتٍ ناعمٍ في قيمة الدينار العراقي أمام قيمة الدولار الامريكي. لا شك أن مثل هذا الانفلات حتى ولو كان جزئياً إلّا أنه يؤثر بصورٍ مختلفة على السوق التجارية، وعلى اسعار المواد الاستهلاكية، وعلى حسابات التوفير المحلي، وعلى الاستثمار الوطني والاجنبي ، كما أنها ترهق أصحاب الدخول الواطئة والفقراء ،أيضاً.

النظر إلى هذه الظاهرة من مختلف الزوايا التركيبية يعني، بشكل أو آخر، كشف مخاطرها على الاقتصاد الوطني ، من ناحية تأثيرها على الهيكل الاقتصادي العراقي، المصاب أصلاً  بخللٍ كبيرٍ بعد انخفاض اسعار النفط في السوق العالمية ،خاصة في حالة تشخيص أن اقتصادنا الوطني منذ زمن طويل - قبل وبعد عام 2003 - كان اقتصاداً استيرادياً يعاني بصورة كبيرة من عجز متواصل في الميزان التجاري ، رغم وجود سمة الاقتصاد الريعي باعتبار العراق بلدا مصدراً للنفط.

هذا الوضع يحتاج الى تحليل واقعي ،ليس من وجهة نظر تجارية بحتة كما فعل واعلن كبار المسئولين في وزارة المالية والبنك المركزي، بل يحتاج إلى تحليلٍ عميقٍ من وجهة نظر اقتصادية تغور إلى العمق والجذور، أي من وجهة نظر الطبيعة الرئيسية للنظام الرأسمالي ،وطبيعة انقلاباته المالية، نتيجة ازماته الدورية المتعاقبة، وفقاً لكون تلك الازمات الحتمية منطلقا لتفسير دور وعلاقات (الدولار الامريكي) كوحدة حسابٍ عالميةٍ لتقييم قوة العملة الوطنية ، في أغلب بلدان العالم ، صعوداً او هبوطا .

في عام 2003 حال سقوط النظام الشمولي انضم العراق فوراً، بصورة كاملة، الى صفوف معسكر الرأسمالية العالمية ، يتحكم به ليس مدراء أو وزراء (القطاع العام) كما كان الحال في نظام صدام حسين،  بل صار رجال (القطاع الخاص) من أصحاب أحزاب الاسلام السياسي، الذين سيطروا على السلطة الحاكمة منذ ذلك الحين. أول شيء فعله القطاع الخاص القادم اغلبه من خارج العراق هو تحويل الاقتصاد العراقي إلى (الخصخصة).  كانت أولى نسخ هذا التحويل مأخوذة من اساليب الرأسمالية الوحشية ، حيث القضاء على القطاع الصناعي الوطني بكامله، ونهب معدات وآلات الصناعة العسكرية، التي أسس قواعدها وشيدها النظام البائد، وبيعها الى بعض حلفائهم بدول مجاورة للعراق. كما تركوا الزراعة العراقية ينالها التصحر والاهمال باعتماد الرأسماليين الجدد على استيراد البضائع الاستهلاكية المتنوعة، في مقدمتها البضائع الغذائية من خارج البلد .

من وجهة النظر الواقعية هذه واذا ما استبعدنا التصدير النفطي فأن الاقتصاد العراقي نراه على عجزٍ مستعصٍ في الميزان التجاري،  بمعنى أن تجارة الاستيراد كانت منذ عام 2003 وحتى اليوم  تنمو اسرع من تجارة التصدير،  اي أن بلادنا تنفق نسبة عالية من عائدات الصادرات النفطية على البضائع والخدمات المستوردة.  هذا الشكل من الانفاق هو الاكثر خطورة في كل اقتصاد وطني ، سواء في العراق أو غيره، لأنه يجعل الثروة الوطنية أقل من قيمتها الحقيقية ، خاصة اذا ما اخذنا بالحسبان حقيقة أن التوفير المحلي في احتياطات الدولار بالبنك المركزي ليس تصميماً مخططاً ثابتاً بحال وجود الخوف لدى الرأسمال الاجنبي من تصدير استثماراته الى بلد غير آمن في اغلب اجزائه ،مما يخنق بدوره الاستثمارات الضرورية لاستدامة النمو الاقتصادي .

في الحقيقة ان العلاقة بين الدولار الامريكي وبين العملات الوطنية في مختلف دول العالم الرأسمالي تتأثر بمختلف الظروف الاقتصادية – السياسية. عوامل سياسية كثيرة تؤثر على هذه العلاقة . مثالها البارز انخفاض قيمة الروبل الروسي خلال العامين الماضيين بعد نشوء الازمة الروسية – الاوكرانية وانفصال جزيرة القرم كنتيجة اولى وما تلاها من اجراءات عقابية غربية سياسية- اقتصادية ضد روسيا . كما ان تنامي الصادرات الامريكية خلال العام الحالي وانخفاض نسبة الصادرات اليابانية اوجدت ارتفاعا جزيئيا في قيمة الدولار على قيمة الين الياباني.

كذلك فأن الحروب الداخلية والاقليمية أو حتى حالات الاستعداد التسليحي لتلك الحروب تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على العلاقة بين قيمة الدولار الامريكي وقيم العملات الوطنية . مثال ذلك نرى انخفاض قيمة الليرة السورية والجنيه المصري والليرة اللبنانية والعملة التونسية كنتائج ملموسة للواقع الجديد غير المستقر اقتصاديا – استثماريا – سياحياً. كما نلاحظ انخفاض قيمة التومان الايراني بسبب اجراءات العقوبات الاقتصادية الامريكية والدولية.

في بلادنا يحتاج أمر العلاقة بين الدولار والدينار إلى تفسير من نوع آخر حيث الاستثمار والتوفير لا وجود لهما كقوة حقيقية في الاقتصاد العراقي لأن القيمة الحقيقية خارج نطاق الحسابات النفطية،  هو أمر بيد الرأسماليين  العراقيين من الذين ظهروا خلال السنوات اللاحقة لعام 2003 كعناصر رأسمالية ، طفيلية، متوحشة لجمع الارباح بمختلف الوسائل غير المشروعة على حساب مجمل الناتج الوطني، الذي لم تتعدل سماته حتى الان فقد ظل متميزاً بما يلي :

(1)            الحسابات الوطنية الاستثمارية غير ملموسة حتى الآن، مما يجعل ظاهرة الانفاق على استيراد البضائع أمراً مساعداً دائماً لتسريب الدولار النفطي من الداخل الى الخارج، لصالح الطبقة الرأسمالية الطفيلية العراقية.

(2)            الصناعة الوطنية في القطاعين العام والخاص وصلت سريعاً إلى حالة الركود التام وقد توقفت كل تصاميم وتجارب إحيائها. مثال ذلك توقف معامل الاسمنت والدهون والنسيج والبطاريات  وغيرها من عشرات معامل التمويل الذاتي التابعة لوزارة الصناعة .

(3)            ظهور مؤشرات واضحة جداً ومؤثرة سلبياً،  مثل الزيادة الظاهرية في رواتب الموظفين الكبار ومستشاريهم وحماياتهم المسلحة، في مجلس الوزراء والنواب وفي مجلس الدولة، مما ارهق ميزانية الدولة.

(4)            ظل العجز التجاري قائما من دون تغيير، أي أن حركة (الرأسمال الدولي) هي التي تحرك (الرأسمال المحلي).  في هذه الحالة يظل الدينار العراقي تابعا للدولار الامريكي ، كما هو الحال في اليابان وكوريا الجنوبية واندنوسيا وماليزيا وتايلند والفلبين وهونك كونك، رغم وجود معدلات نمو نسبية ايجابية في غالبية اقتصاديات هذه الدول .

(5)            بصورة عامة أن (الكسور الكبيرة) في المجتمع العراقي، الناتجة عن كثير من سياسة المحتلين الامريكان وأخطائهم ومن ثم الناتجة عن الإرهابيين وجرائمهم،  ما زالت غير ملتئمة حتى الان . إضافة إلى أن اجراءات  الحكومات العراقية المتعاقبة لم تستطع ايقاف استمرار (الأزمة العامة) في بلادنا وما يسمى بالإصلاحات الحكومية لا تتقدم الى أمام بل إلى الخلف.  

خلال حروب صدام حسين، الداخلية والخارجية، وصولاً الى قرار الأمم المتحدة والولايات المتحدة الامريكية بفرض حالة (الحصار)، كانت قد اودت بالدينار العراقي الى الحضيض حين بلغت قيمة الدولار الواحد ثلاثة الاف دينار، بعد ان كان الدينار الواحد يعادل ثلاثة دولارات ونصف لمدة تزيد على 60 سنة. أصبح كل شيء في تسعينات القرن الماضي ليس معقولاً .اصبح الشيء المعقول الوحيد هو هروب الناس والأموال إلى خارج الوطن بعد سلسلة متعاقبة من الاجراءات الحكومية على درجة غاية في الخطورة لم تنقذ الشعب العراقي من الجوع والعوز والقهر الاقتصادي و صولاً الى الغزو الامريكي في 9 نيسان 2003 .

بعد تهديم وتخريب 12 سنة و ضرب البنى التحتية العراقية وضياع مليارات الدولارات من الخزانة العراقية لم تنفع معها جميع مساعي الحكومات التي تشكلت على وفق خطى ورؤى  المحتلين الامريكان، وبعيد انتخابات برلمانية، كانت الحكومات العراقية المتعاقبة ،كلها ، تخطط لاستراتيجية تطوير الروح الرأسمالية في البنى التجارية ، لدعم تنمية الاستيراد التجاري والاستهلاك الفردي، مما أدى الى بقاء قيمة 1160 دينار لكل دولار واحد وهو نوع من التقييم اصبح مصدراً هاماً في السياسة الاستثمارية وفي السياسة التصديرية والاستيرادية.

لم تأخذ الحكومات المتعاقبة على دست الحكم خلال الـ 12 سنة الماضية احتمالات او توقعات اهتزاز القيمة بين الدولار والدينار،  وقد حصل مثل هذا التحول خلال شهر حزيران 2015  بطغيان تحولٍ بنيويٍ في هذه القيمة حين ارتفع بصورة ناعمة سعر الدولار من 1170 دينار الى 1400 دينار ثم عاد بصورة ناعمة الى ما يقارب 1200 دينار . لم يدرس أحد ،حتى الآن ، حجم الخسائر الرأسمالية بالنسبة للدولة العراقية ،ولم يُدرس حجم الفوائد المالية بالنسبة للرأسماليين العراقيين ومدى الآثار السلبية اللاحقة بالأصول العراقية المقيّمة بالدينار. كما لم تتضمن اشارات البنك المركزي ووزارة المالية الى تأثير هذه (الاهتزاز التحذيري) على النمو الاقتصادي وعلى الانكماش اللولبي المحتمل على اقتصاد العراق، المبني ماليا على اساس قاعدة الدولار الامريكي وليس على اساس الدينار العراقي .

الحقيقة التي اريد التنبيه اليها تتلخص بأن (الاهتزاز الحزيراني) في قيمة الدينار مقابل قيمة الدولار هو جرس انذار أولي لاحتمالات كثيرة قد تنتج عن الوضع الاقتصادي الحالي، وعن الوضع السياسي الحالي، وعن الوضع العسكري الحالي. من غير شك أن تهريب الدولار الى سوريا وايران كان وسيلة من وسائل أعوان الحكومة المالكية السابقة لمعاونة الدولتين المحاصرتين (ايران وسوريا). كما أن استمرار بيع كميات كبيرة من الدولار الامريكي سيؤدي الى تقليص الاحتياطي العراقي مما يؤدي إلى اضعاف العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي.

الكل يعرف أن مجابهات كبرى تقف امام الدولة العراقية منذ حزيران 2014 اثر احتلال تنظيم الدولة الاسلامية محافظة الموصل ومن ثم محافظة صلاح الدين وفي ما بعد محافظة الانبار. ربما الوضع الحالي برمته يؤدي إلى مزيد من المديونية العراقية الخارجية ، كنتيجة أولى من نتائج انخفاض اسعار النفط في السوق العالمية وكنتيجة من نتائج حاجة الدولة العراقية الى قروض السلاح والعتاد، الذي تحتاجه قواتها المسلحة - حين تقدح زنادها الحربي لتحرير محافظتي نينوى والانبار من ايدي قوات داعش المسلحة في معارك حربية - من الصعب التكهن بمدتها الزمنية أو مداها الجغرافي رغم القدرة على التكهن باحتمال المزيد من تهريب المال العام والخاص حين يتسابق الرأسماليون العراقيون الطفيليون المذعورون خاصة وان ابواب الفساد مفتوحة امام الفاسدين على وسعها منذ 12 سنة ، مما ينذر باحتمال وقوع اهتزاز غير مدروس ، غير متوقع،  لقيمة الدينار العراقي أمام الدولار الامريكي في حالة اي تراجع أو تردد  للدعم الامريكي المفترض عندما تخوض القوات المسلحة العراقية حربها المرتقبة ضد المحتلين الدواعش ، خاصة وأن العراق يعاني الآن مشكلة جديدة تتعلق بثلاثة ملايين نازح من مدنهم وقراهم، الحالمين باسترجاع بيوتهم وممتلكاتهم ، بعد انتصار العراق في حربه على داعش ، التي ستكون كلفتها الحقيقية تريليونات غير محسوبة من الدنانير ، بينما الموارد المالية نفسها تعاني من سرعة انحسارها ، خصوصا في ظل الركود الاقتصادي، الناتج عن ركود تام في الاقتصاد الصناعي والزراعي، مما يتحدان سلبياً  ضد الميزان التجاري وتراجعه لصالح المديونية الخارجية .

ليس من شك أن الحرب، كل حرب، تكون مؤلمة في العادة، حتى في حال انتصارها على اعداء الوطن ،فهي مؤلمة للسكان وهي مؤلمة للاقتصاد، ونتائجها تميل الى الركود والانكماش الاقتصادي.  انني إذ أنبه ، هنا ، الى هذه الجوانب السلبية فأنما أريد مواصلة (قرع الاجراس) امام الحكومة وامام المسئولين الاقتصاديين والماليين ،كافة، بأن يخضعوا ،منذ الان وقبل الحرب على داعش، الى حسابات دقيقة كل احتمالات الاموال، المدفوعة والمتدفقة، وأن تكون وفق تقديرات وتنظيمات مالية ،حسنة التخطيط والتدقيق، وأن تكون تحت اشراف ورقابة حازمة وصارمة. كل الحروب في العالم علمتْ الشعوب والحكومات بوجود حقائب تمتلأ وحقائب تفرغ ، سندات مالية ترتفع وسندات مالية تنخفض، عملات وطنية تنخفض قيمتها وعملات اخرى ترتفع قيمتها.

اهم ميزة تتميز بها الحكومة اثناء الحروب مهما كانت داخلية او خارجية هي الميزة الادارية الملتزمة بالحكمة ، وبالقدرة على تقييم كل خطوة من الاجراءات المالية والاقتصادية، سواء في المدى الحربي المنظور او في المدى غير المنظور بعد انتهاء الحرب وتحرير الاراضي، التي يجب ان لا تكون عنصراً من عناصر تهديد مكانة وسعر الدينار مقابل مكانة وسعر الدولار الامريكي واليورو والجنيه الاسترليني. إن الضرورات المالية المستقبلية تحتم على الحكومة أن لا يغيب عن بالها ضرورة مواصلة الاصلاحات الهيكلية الاقتصادية بجدية في المحافظات، التي لا تخوض حربا مباشرة مع الدواعش، لأن الجدارة الاقتصادية مطلوبة في حالة الحرب ايضاً. لا شك ان الجدارة الاقتصادية بحاجة الى قيادة اقتصادية علمية ذات ميزات مستندة الى تجارب ذات ميزات مؤسساتية وتكنولوجية وعلمية ، فمثل هذه القيادة المميزة وحدها القادرة في الظروف الصعبة وضع سياسة اقتصادية  عقلانية لتأمين ميزانية قادرة على تلبية الحاجات الملحة، و توفير جزء من السيولة المالية ،وتحقيق التوازن الداخلي والخارجي بين العملة الوطنية والعملة الخارجية. هذا وحده القادر على وقف الاحتمالات السلبية في ظل الحالات الحربية والانفتاح التجاري مع دول الجوار وهما عاملين خطرين من عوامل انخفاض قيمة العملة الوطنية،  وهو الانخفاض الذي لا يمكن لأية حكومة وقفه بالأمنيات المجردة او بالعواطف المجردة أو بالشعارات المجردة.

المسألة ، هنا ، لا تتعلق بالتفاؤل والتشاؤم ،بل أن الفرصة الحقيقية تتعلق بإمكانيات معالجة الخلل في قيمة الدينار العراقي ، ورفعها يتطلب وجود قيادة اقتصادية فعالة قادرة على تجنب الاخطار الجدية التي تلوح في الافاق القادمة، من خلال وضع سياسة جديدة تنسجم مع الوضع الراهن ومواجهة الحرب الداخلية واشباع حاجة السكان في آنٍ معاً . كما المطلوب من كل الكفاءات الاقتصادية العراقية داخل العراق وخارجه أمثال السادة:  مهدي الحافظ ،جعفر عبد الغني، صبري زاير، محمد علي زيني، كاظم حبيب، سنان الشبيبي ، مظهر محمد صالح ،  فاضل عباس مهدي ، كامل العضاض ، صالح ياسر، محمد سعيد العضب ، طارق الهيمص، علي ميرزا ،كاظم شبر، عصام الجلبي، باسل البستاني  وكثير غيرهم ، التعاون الجاد و التام في مساعدة الحكومة والمؤسسات العراقية لحماية اقتصادنا وعملتنا الوطنية من الانهيار.

  كتب بتأريخ :  الخميس 02-07-2015     عدد القراء :  3303       عدد التعليقات : 0