الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
إنتاج الفساد

وجود الفساد في اي منطقة بالعالم لابد من أسباب تدفع لظهور مثل هذا الوباء الخطير الذي ينتشر بسرعة في مفاصل الدولة ان لم يلقي العلاج الشافي ، وإذا كانت ظاهرة الفساد تؤسس من خلال خرق نصوص الدستور وعدم الالتزام بالقوانين وتحديها بفعل يشكل سلوك اجرامي او بامتناع عن اداء عمل يجرمه القانون ، فأن انعكاس تلك الظواهر يظهر في السعي لتحقيق المصالح الشخصية أو السياسية أو الاجتماعية على حساب مصلحة المجموع ، كما يتجلى في سوء استخدام الوظيفة العامة وتطويعها ، والتي يحولها الفرد من وظيفة تتعلق بالخدمة العامة الى مغنم ومصدر للكسب غير المشروع ، كما تظهر ايضا في تصنيف المواطنة على اساس الدين أو الطائفة أو العقيدة أو المناطقية أو القومية خلافا لمبدأ المساواة الذي نص عليه الدستور في باب الحريات والحقوق المدنية والسياسية . وفي جميع الاحوال فأن الفساد أحدى الظواهر التي تضر بالمصلحة العامة وتؤسس منظومة هجينة ومريضة للسلوك الاجتماعي ، سواء كان مظهرها الرشوة أوالأختلاس أو الحصول على المنافع الشخصية أو البيروقراطية والتمسك بالروتين واعتماد المحسوبية أو سوء استخدام المنصب وتطويع الوظيفة العامة لمصالح خاصة .

ولعل من بين أهم أسباب الفساد ضعف شخصية الدولة ونظام الحكم ، وانعدام التطبيق القانوني السليم والعادل للقانون ، والتناقض الواضح في تطبيق النصوص الدستورية ، وعدم وجود تمثيل حقيقي للشعب يمكن معه تشخيص حالات الخلل والفساد ، وضعف الاداء لمؤسسات المجتمع المدني ، وبالتالي ضعف بنية الأحزاب والتجمعات السياسية من ان تجد الدواء والعلاج الواقي للحد من تلك الظاهرة وبالتالي القضاء عليها كليا . كما أن انعكاس الموروث السلبي الذي خلفه نظام الحكم السابق من تقاليد وقيم رديئة وهجينة انتشرت في المجتمع العراقي ، تحت تأثير الحصار الجائر على الشعب ، وتحت تأثير الكبت وسياسة الرعب والخوف والحروب وظهور الوازع الديني المزيف للفرد ، والذي اصبح سلوكا عاما يتمسك به الفرد بعد سقوط النظام الصدامي .

ومن يدقق في نصوص قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل يدرك تلك المعالجات القانونية للفساد ، كما يلمس ذلك التشديد الذي تفرضه النصوص ، والذي سيكون رادعا ملموسا لإيقاف انتشار تلك الظواهر في حال التطبيق السليم والمجرد ، فهو يعالج جريمة الرشوة سواء بقبض الأموال أو الإخلال بالعمل الوظيفي أو الامتناع عن عمل ما ، ويعاقب كل من قبل وعدا أو منفعة لنفسه أو لغيره ، مثلما عاقبت المادة كل من عرض الرشوة أو اعطى الوعد ، وشددت المواد العقابية كل موظف أنتفع مباشرة أو بشكل غير مباشر من التعهدات والمقاولات والأشغال ، وكما نعرف فأن عبارة ( الموظف ) عامة ومطلقة ، والمطلق يجري على إطلاقه كما يقول اهل القانون ، لذا فأن النص يشمل رئيس الجمهورية ونوابه ورئيس الوزراء ونوابه والوزير ومن هم ادنى منه وجميع من يعمل ضمن اطار الدولة القانوني ، كما يشمل كل مكلف بالخدمة العامة .

كما عاقب القانون من يسخر عمال او موظفين لمصلحته الشخصية ، وعاقب القانون ايضا من قيد اسماء اشخاص وهميين أو غير حقيقيين على اساس قيامهم بمهام الحماية او الحراسة واستولى على اجورهم او قسم منها ، وتعرض القانون لجرائم الاختلاس المالي وغيرها ، غير ان النصوص القانونية عاقبت أيضا الموظف العمومي الذي يمتنع عن تنفيذ قرارات المحاكم سواء في قضايا اطلاق سراح المتهمين ممن تقرر المحكمة اطلاق سراحهم أو تنفيذ الأحكام الباتة الصادرة عن المحاكم المدنية أو الجزائية أو المماطلة في تنفيذها .

وإذا كان النظام البائد يستند على بحر من الفساد ، إلا انه يخفي هذا البحر بغشاوة العنف والقسوة والطغيان وتكميم الأفواه والخوف، كما انه يستند على شخصية الفرد الدكتاتور الحاكم ، الا ان نظام الحكم الجديد نقل معه فايروس منظومة الفساد بعد عام 2003 وهو عاري فأنكشف كل الفساد الذي تمت ممارسته الى العلن ، فظهرت لنا عمليات سرقة المال العام ، كما ظهرت لنا عمليات تهريب الأموال الى خارج العراق ، وظهرت لنا بشكل لافت عمليات استغلال المناصب والوظائف العامة ، وعمليات الاختلاس التي تشترك بها مجموعة من الموظفين الصغار والكبار ، بالإضافة الى اعتماد العمليات المسلحة في قضايا السرقة واقتحام المصارف الحكومية ، وتلازم كل تلك الظواهر ظاهرة افلات الجناة من العقاب ، وعدم اعادتهم للأموال المسروقة والمنهوبة بأي شكل من الأشكال ، وبروز ظاهرة إسدال الستار وغلق القضايا التحقيقية نهائيا وعدم ملاحقة الجناة ، وبرزت ظاهرة التعتيم على القضايا الجنائية وخلق التبريرات وظاهرة تسهيل هروب المتهمين والجناة .

ان انتشار ظاهرة الفساد كان متلازما مع ظاهرة البطالة والتضخم الحاصل في السوق العراقية، وبقاء العراق تحت رحمة القروض والمساعدات الدولية بالرغم من ضخامة الايرادات المالية التي لم يتبق لها اثر ملموس على المجتمع العراقي وعلى الارض العراقية ، فقد برزت ظاهرة التفاوت الفاحش بين دخول العراقيين ، كما تدنى مستوى التعليم الى حدود لم يصلها العراق سابقا ، وكذلك تدنى المستوى الصحي .

كما ساهمت العمليات الإرهابية التي تركزت على العراق بعد التغيير في بروز الظاهرة الطائفية التي تم تكريسها عمليا من قبل سلطات الاحتلال لتنتج اثرها السلبي في المجتمع العراقي لتديم ظاهرة الفساد ، مما ولد معه ظاهرة عدم الثقة وعدم اللامبالاة عند المواطن العراقي بالسلطة كجزء من نظام الحكم ، وبالأحزاب العراقية ، وبالشخصيات السياسية ، وبالتالي عدم الثقة بالقانون ايضا .

ولعل تهالك اعضاء مجلس النواب على ان تكون لهم رواتب تقاعدية بأي شكل من الأشكال ، وبالرغم من المطالبات الشعبية الكاسحة التي رفضت تلك الرواتب ، والتي ساندتها المحكمة الاتحادية العليا والتي قراراتها ملزمة وواجبة الأتباع بموجب الدستور ، دليلا اكيدا على انتاج الفساد بشكل مستمر في العراق ، ولم تجد هذه الظاهرة معالجات جادة وحقيقية ، ولم تلق الردع بالمستوى الذي يمكن معه ايقافها .

لم تزل الوظيفة العامة في العراق في حال اساءة استعمالها مصدرا من مصادر الانتفاع والإثراء دون سبب قانوني ، ولم تزل جرائم تسهيل العقود والمقاولات دون رقيب او متابع أو رادع ، ولم تزل المحسوبية والطائفية تشكل الخط الأول في العمل الوظيفي ، ولم تزل المصالح الشخصية تطغي على مصلحة العراق في الكثير من المفاصل ، ولم تزل الحكومة تحسب انها تقدم للناس مكارم وليس خدمات من مهماتها الاساسية وهي ملزمة بتقديمها ، ولم تزل الناس تعيش تحت خط الفقر وتحت سلطة البطاقة التموينية المبتورة ، ولم تزل الناس تشرب مياه ملوثة وتنتظر الكهرباء قبل ان تنقضي اعمارها في الظلام ، ولم تزل الصناعة العراقية تحتضر لتلحق بها الزراعة ، ولم تزل الخدمات منعدمة والشوارع تمتلئ بالحفر والطرق مخربة ، وبغداد تتراجع من عاصمة جميلة الى قرية بائسة وخربة ، ولم تزل الشوارع تمتلئ بالمتسولين ، ولم تزل الشهادات المزورة تحتل الوظائف والمناصب الحكومية ، ولم تزل الطاقات والكفاءات رهينة الخارج ، ولم يزل العراق دون قانون للأحزاب ودون قانون للنفط ، لم يزل العراق دون مدن اسكان للفقراء وذوي الدخل المحدود ، ولم تزل مدارسنا الطينية كما شيدها اهل سومر وبابل ، ولم يزل الفساد يأكل من كتف العراق وينخر في اقتصاده ، ولم يزل العراق تحت ظاهرة المفاجآت التي لاتنسجم مع استقرار الحياة ، ولم يزل الناس في العراق في واد والحكومة في واد بعيد ، ولم يزل من يتمسك بالسلطة وكرسي المنصب ولو ذهب العراق الى ابعد من هذا الفساد ، وتردى وضع الناس ، لم يزل العراق ينتج آلاف الاطنان من النفط ويستورد مشتقاته من الدول الأخرى ، ولم يزل العراق يستجدي المساعدات من دول الغرب ويمنح الدول التي تكره شعبه وتضمر له العداء نفطا مجانيا حتى تكون ممرات ومعابر لشخوصه السياسية ، لم يزل العراق يجتث دون ضوابط قانونية من يريد اجتثاثه ، ويعفي من يريد غيره ، لم يزل العراق تحت رحمة المحاصصة الطائفية في كل مرافق الحياة ، ولم يزل طاردا لكل الطاقات والشخصيات السياسية الوطنية .

لم يزل العراق منتجا للفساد ويضاهي تلك الدول التي تراجع امامها فأحتل مراكزها ، وإذا كان الأمر يتطلب دائما وجود مؤسسات يديرها أشخاص يتحلون بمستويات من النزاهة ونظام إشراف مستقل ، ودون ذلك فسنستمر في انتاج الفساد للفترة القادمة .

وثمة تجارب مرت بها قبل العراق دول ومجتمعات نخرتها ظاهرة الفساد ، تمكنت من ازالتها تدريجيا ، وحرقت مراحل الزمن لتلحق بالعالم ، وبدأت في البناء السليم ، لأنها تعافت من امراضها ، ولأنها تخلصت من ارثها السقيم ، ولأنها عمدت الى تطبيق الدستور بشكل سليم وطبقت مبادئ الحقوق والحريات كما وردت ، ولأنها طبقت القوانين بشكل يتساوى فيه الجميع ، ولأنها وجدت من يفضل بناء البلد ومصالحه على المصلحة الشخصية ، ولأنها وجدت رجالا ونساء فهموا الوظيفة العامة بأنها ( خدمة ) وإنهم مؤهلون لتأدية هذه الخدمة لصالح شعبهم .

  كتب بتأريخ :  الجمعة 28-08-2015     عدد القراء :  4188       عدد التعليقات : 0