الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مصالحة وطنية على طريقة \"حوار الطرشان\"!

 لم ينقطع الحديث عن المصالحة الوطنية منذ انتهاء حقبة الاستبداد البعثي – الصدامي، وكادت متوالياتها المفهومية، لكثـرة تردادها والتحولات التي جرت عليها، ان تتحول الى الغاز وطلاسم ، يستعصي على القيادات السياسية فك شفراتها والتعرف على مدلولاتها وخفاياها. ولم يعد المواطن العادي معنياً بهذه " المصالحة" بعد ان فقدت أي معنى لها وتجردت من مدلولاتها، وهو يتلمس الترابط الوثيق بين حُمّى البحث في المصالحة، وازدياد تمزق النسيج الاجتماعي ، على ما هو عليه من تمزق وانهيار بُنى شُبه الدولة المتصدعة واستيلاء قطعان داعش على مصائر ساكني ثلث مساحة العراق .

حين شرعت قوىً في العملية السياسية بإثارة المصالحة كقضية اشكالية، وتبنتها ممثلية الامم المتحدة في العراق، وروجت لها السفارة الاميركية وسفارات وممثليات أخرى ببغداد، ظلت المصالحة مجرد شعارٍ لا مضامين واضحة لها ولا إجاباتٍ شافية على التساؤلات التي تريد الاهتداء الى القوى المعنية بها .

وبقيت التساؤلات هي هي، والاجابات تمتماتٍ كأنها أحجية غامضة، أو تمائم سحرية يتستر بها بعض دعاتها من شر الشيطان الرجيم، متجنباً الاقتراب مما ينبغي التصريح به عمن يريد المصالحة معهم .!

ورغم الاهمية الاستثنائية لهذا الهدف الوطني العُقَدي ، والاشكالية التي تلازم العملية السياسية ، فانها لم تأخذ مساحة من الاهتمام في الدعوات لاصلاح المنظومة السياسية القائمة واعادة النظر بمفاهيمها.

لقد كان واضحاً عند سقوط الدكتاتورية وانهيار المنظومة السياسية التي ارتبطت بها، ومعها تفكك الدولة والجيش والقوات المسلحة والامنية، أن المصالحة المقصودة تعني حزب البعث الحاكم بالتحديد وانصار نظامه. ولم تكن في المجتمع اية قوى يستهدفها خطاب المصالحة. لكن أحداً لم يتجرأ على الوصول الى هذه المساحة المحرمة، بل أن خطاب المصالحة، حتى بالنسبة لحاملي رايتها والمتحمسين لخطابها، كان يترافق مع مديات تطبيق قانون اجتثاث البعث وحظر حزب البعث، كما جرى التأكيد عليه في الدستور، سوى أن ذلك كان يرتبط بمسعىً لاعادة النظر في مفهوم الاجتثاث وقوننته وجعله قصاصاً يختص به القضاء، وتغيير مسماه ليتطابق مع هذا المفهوم . ورغم ذلك فإن الدعوات والندوات والمؤتمرات للمصالحة لم تتوقف، لكنها استمرت ايضاً دون تشخيصٍ أو تسميات. وبقيت من حيث طابعها بعيدة عما يراد من تصفية الآثار التي ترتبت على تبعيث المجتمع بكل وسائل الاكراه والتهديد والترغيب والمصلحة، وتجنيد الناس افراداً وجماعات في هيئات ومؤسسات الحزب الحاكم والدولة، دون قناعة منهم أو إيمان بما كان يُروّج له من قيم رثة ومبادئ تنطوي على الكراهية العرقية والعنصرية والقومية الشوفينية وتقاطعٍ مع المُثل الانسانية. وتطلع الناس، خصوصاً اولئك الذين سُلبت ارادتهم وأُرغموا على القبول بالانتماء للبعث أو الانحياز له رغم عدم قناعتهم أو ضعف تحبيذهم له، لتحقيق المصالحة وهم استقبلوا التغيير دون مقاومة أو بقاءٍ على ولاءٍ محسومٍ للبعث أو النظام الساقط، وكان ذلك واضحاً لمن تابع التطورات التي رافقت السقوط والانهيار المدوي . وبهذا المعنى فإن المصالحة التي ظلت طموحاً للعراقيين، وهي ما تزال ، تتجسد في " المصالحة المجتمعية " ،التي من شأنها انجاز مصالحة وطنية شاملة تعيد العافية والتماسك الوطني، وترمم ما اصابهما من تصدعٍ وتفكك.

وأخذاً بما قالته القوى المتحمسة للمصالحة، فانها لم تكن تشمل قادة النظام السابق والبعث وادواتهما في الاجهزة القمعية، ممن تلطخت أياديهم بدماء العراقيين وظلوا على ولائهم وانتمائهم للمنظومة الايديولوجية للبعث والنظام الاستبدادي، وغير مستعدين للانخراط في العملية الديمقراطية في العراق الجديد، أو اولئك الذين اختاروا حمل السلاح كخيارٍ لاستعادة سلطتهم المنهارة. لكن ما تُرجم في الواقع منذ أطلقت أولى دعوات المصالحة، جاء خلافاً لكل ما سبق من مفهومٍ وتفسير للمصالحة. فقد تمثلت بواكيرها العملية بـ " اتفاقاتٍ فوقية " معزولة، انخرطت بموجبها شخصياتٌ قُدمت كتعبيرٍ عن المصالحة، تحمل هواجس الاوساط والقوى المطلوب المصالحة معها ، مع استمرار الدعوة للمصالحة ..!

من هي تلك الشخصيات وما هو طابعها التمثيلي وما هي القاعدة الاجتماعية التي تعبر عن تطلعاتها وتجسد مصالحها وتوجهاتها السياسية .؟ يظل السؤال دون جواب . فاذا كانت هذه الشخصيات وما مثلتها الكتلة او الكتل المتشكلة منها في الانتخابات التي جرت في البلاد ومشاركتها في الحكومات والهيئات المتعاقبة التي تشكلت لا تعبر عن المعنى الجوهري للمصالحة، فمن هي القوى التي استعارت أو اغتصبت الشخصيات المذكورة والكتل المتشكلة منها تمثيل تلك القوى " خفية " لسببٍ غير معروفٍ أو لرغبة "مضمرة" بإخفاء هويتها .؟

وخشية من التباس، لا بد من الاشارة الى الخلط المتعمد الذي سيق بعد سقوط الدكتاتورية بين المكون السني والبعث ونظامه، وهو خلط لم تنقطع آثاره حتى الآن، وكان الهدف من ذلك تحميل المكون تبعات آثام النظام وكبائره ودق إسفين قاتلٍ بين المكونات العراقية وبشكل خاص بين الشيعة والسنة، والدفع باتجاه اشعال فتنة طائفية لا تنطفئ نيرانها . ويبدو أن هذا الخلط المتعمد انسحب على مفهوم المصالحة نفسه : فهل المقصود مصالحة مذهبية بين الشيعة والسنة؟ واذا كان كذلك فمن هي المرجعية المعنية بتحقيقها؟ ومن هى القوى التمثيلية في الحياة السياسية التي يمكن ان تكون محاوراً عنها مسموع الكلمة .؟ وفي مثل هذه الحالة التي تضفي تعقيداً ملموساً على مفهوم المصالحة، تستلزم فيما تتطلبه اعادة النظر في الدعوة نفسها، لكي تتغير من المصالحة الوطنية الى المصالحة الطائفية. وبهذا المعنى فإن التعبير عنها بامتياز سينعكس في المنظومة السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية، سوى انها تحتاج الى اعادة التوازن وتضبيط تطبيقاته في الحياة السياسية والتكافؤ في التمثيل وفقاً للحجوم السكانية وما يرتبط بها .! وقد يُقال ان المصالحة المطلوبة هي سياسية، أي مع قوىً واحزاب واطراف سياسية. واذا كان كذلك فمن هي تلك القوى والاحزاب والاطراف ..؟ ودون ادنى شك فإن أول مؤشرٍ تدلل عليه ما أثير دائماً حول تغيير او الغاء اجتثاث البعث ولاحقاً انهاء هيئةالمساءلة، فإن البعث يكون هو المقصود اولاً بالمصالحة. ومن حق أي شاء ان يقول بذلك ، فنحن في بلد يتاح فيه قدر من الحريات لا يحرم الرأي المخالف، لكن السؤال يظل: هل المطالبون بالمصالحة يقصدون بها البعث، بعد أن جرت مصالحات لم تتوقف مع مسلحين لم تُعرف عنهم سيرة او تاريخ وطني ، بث الاحتفاء بانضمامهم الى العملية السياسية من وسائل اعلام السلطة و"قبض" المنضوون الى رحاب المصالحة ومنافعها ، ملايين من الدولارات البنكنوتية لم يعلن عن ارقامها من اموال مهدورة .!

لا أحد سيقترب من هذه الاسئلة لأنها في غاية الاحراج. والحراجة الأكبر ستتمثل، اذا كان المقصود بالمصالحة تدقيق وتصحيح المحاصصة الطائفية ليستقيم المفهوم ويقارب بين مصالح الطائفتين الشيعية والسنية، فهل سيكون " داعش" مستقبلاً ضيفاً على مؤتمرٍ قادم للمصالحة باعتباره القوة المسلحة الباطشة التي تدّعي بهتاناً تمثيل السنة؟ وبالمقابل أليس ضرورياً تمثيل كل الميليشيات الشيعية فيه، ليكتمل صنع "معجون المحبة" والاحتفاء به؟ تساؤلات استعادتها الى الذاكرة، الدعوات التي انطلقت في الدوحة وشاركت فيها بشكل مباشر أو بالنميمة قوى تحتل مواقع مسؤولة في الدولة ، ولا تسفر عن نواياها المضمرة ، وكأنها وهي تفعل ذلك ، تتبنى على كراهة منها " التقية الشيعية " ..!

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 15-09-2015     عدد القراء :  2934       عدد التعليقات : 0