الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الشعار المخاتل: بالروح بالدم نفديك يا عراق ..!

أوشكت الحياة أن تنهي رحلتها، ولم أسمع فيها منذ وعيت تصاريفها غير شعار "افتداء الوطن بالروح والدم"، والتغنّي بـ "أعواد المشانق" وتحدي التعذيب في أقبية الموت المؤكد.! والأمر سواء في ظل الأنظمة الجائرة، الدكتاتورية والمستبدة، أو الوطنية والقومية وتنويعات الإسلام السياسي، المتلفعة بكل تلاوين القمع ومصادرة الإرادة والتشويه الإنساني ..

وخلال التطورات السياسية التي تدفع قطاعات اجتماعية وسياسية إلى التفاؤل بقرب الفرج، يصبح الافتداء واجباً وطنياً وشفاعة بطلب الخلاص، تتجزأ الحرية والديمقراطية فيها لتصبح حقاً مكتسباً للداعين إلى الفداء، وتحريماً لـ"أعداء الشعب".

وحتى في تلك المراحل التي أصبح فيها الشعب شعبين، قسمتهما خيارات الأحزاب ومصالح تنطوي عليها، تمتد أحياناً خارج الحدود وعبر البحار والمحيطات، فإن الافتداء والتضحية حصدا الأرواح وجرّدا الإرادات من القسمين المتعارضين في الشعب الواحد المنقسم على نفسه تحت شعار "بالروح والدم" ، ولم يكن لأحدهما خيار غير الافتداء دون السؤال عن الحصيلة ..

ومع تقادم الزمن وتتالي الأنظمة والحكومات والزعامات، صار "الفداء" وشعارات "الموت" و"الصعود الى المشنقة "و التغني بمجد التضحية بالغالي والنفيس "ثقافة سائدة" تحولت إلى " أيقونة وطنية" يفتخر بها كل بيت عراقي، حيثما كان موقعه: مع النظام والحكومة القائمة أو في مواجهتهما بالوسائل السياسية أو بالكفاح المسلح أو بالصمت الاستنكاري..!

لم يتغير المشهد، فكل مظاهرة تخرج ترفع شعار "بالروح والدم نفديك.." وفي كل مرة يكون الوطن موضوعاً للفداء يُرمز إليه بحزبٍ أو قائدٍ أو زعيمٍ، حتى نال التعب من البعض الذي تاه عليه الهدف، فصار الرمز "أياً كان" !

كنا، ونحن نردد الشعار أو نتابع من يردده بحماسة أو على كراهة منا في البدايات الأولى لوعينا الوطني، نضمر في لا وعينا شعوراً غامضاً، أو يراودنا إحساسٌ مربك باننا ونحن نهتف نُطل على وعدٍ مؤكدٍ بحياةٍ أجمل وتغييرٍ قادمٍ بجنة على الأرض، وفضاءاتٍ للحرية تتسع للناس دون تفريقٍ أو تمييز..

والغريب ان ما كان مضمراً من تمنيات ووعد لم يخضع لمعاينةٍ برغم ما أصِبنا به من كوارث ونوائب وما نجم عنها، جاءت على الضد من أبسط ما كان تمنياً بالخلاص الوطني أو نهاية لعذاباتٍ ومعاناةٍ فردية .

ثم جاء الزمن الذي أصبح فيه شعار "الموت افتداءً" بكل صياغاته التي تُجّرد الحياة من " قدسيتها"، طقساً منفصلاً عن معناه ومدلولاته وأسباب نزوله على الناس وهم يتغنون بالوطن وقيمه ووعوده. ومعه صارت العذابات التي ترافق حياتنا في كل عهد جديد نوعاً من "الاعتياد" وكأنها جزءاً من متطلبات الشعار نفسه، موتاً بطيئاً متدرجاً فداءً للوطن. والوطن نفسه يضيع ويتسرب من بين أيدينا، مع اللحظة الأولى لعودة الوعي الذي غُيّبنا عنه، وتلمس ما نحن فيه وما وصلنا إليه، ليفقد معناه وما ينطوي عليه من قيم نبيلة سامية، وليتحول إلى مرادفٍ للموت والعذاب والكوارث وكل ما لا صلة له بالحياة ومفاهيمها وما تعبر عنه من تجلياتٍ مبهجة جميلة، وما ينبغي أن تكون عليه الجنة على الأرض..!

في كل جمعة أتابع المظاهرات المطالِبة بـ "الحياة"، إذ هذه هي الدلالة الوحيدة للمَطالب التي حرضت العراقيين للخروج والاحتجاج ورفض الرثاثة التي باتت تحيط بهم من كل صوب، وهي المعنى المباشر للإصلاح والتغيير: انتظر شعاراً يرفض الموت تحت أي بابٍ من الأبواب، ويعلن جهاراً التمسك بقدسية الحياة، ويطالب بإعادة معانيها التي استلبتها الأنظمة المستبدة و"الوطنية" أيضاً حين قرنت الوطن بالموت المجاني والافتداء العبثي ..

فكرت، وأنا أتابع تكرار نفس الشعار: "بالروح بالدم نفديك يا عراق": أيكون هذا الشعار وتلويناته من بين الأسباب التي دفعت وتدفع عشرات الآلاف من شبيبتنا الذين أحبطهم الشعار الذي صار "أيقونة" يجري العبث بمعانيها، تارة باسم الوطنية والقومية وأخرى متلفعة بالدين والمذهب، وراء ظاهرة اليأس من الوطن حتى بالمعاني التي ضاعت في زمن الفساد والرثاثة، والبحث عن وطن بديل، لا يشترط الموت للعيش الآمن الكريم فيه؟؟

  كتب بتأريخ :  الجمعة 02-10-2015     عدد القراء :  3186       عدد التعليقات : 0