الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
كُتّاب مِن هذا الزَّمان.. لواصق غوغل!

لم تكن السَّرقة الأدبية جديدة، كي نتهم “غوغل” أنه سببها لدى كُتّاب هذا الزَّمان، إنما كانت منذ بدأت الكتابة في القراطيس أو الكاغد، ولعلَّ في الأدب العربي أُستهلت بالشِّعر، ما سُرق مِن المعاني والقوافي والأبيات والقصائد كاملةً، وقد رتب صاحب “الألفاظ الكتابية” الكاتب عبد الرَّحمن بن عيسى الهمذاني(ت 320هـ) درجات هذا الضَّرب مِن السَّرقة بالآتي: «مَنْ أخذ منهم معنى بلفظه فقد سرقه، ومَنْ أخذهُ ببعض لفظه فقد سلخه، ومَنْ أخذه عارياً وكساه مِن عنده لفظاً فهو أحق به ممَنْ أخذه منه» (الألفاظ الكتابية)، لكنَّ لواصق هذا الزَّمان يأخذون النَّص بكسيته، مع التنقيط والتعجيم، اللذين لا يجيدونهما.

غير أن الهمذاني في كتابه المذكور علم الكُتاب المستجدين على الكسل والاتكاء على اقتناص الألفاظ منه، وسهل للسارقين ومنتحلي مهنة الكتابة الأمر. لهذا قال فيه الوزير ابن عباد (ت 385هــ): “لو أدركته لأمرتُ بقطع يده ولسانه، لأنه جمع شذور العربية الجزلة المعروفة في أوراق يسيرة، فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب، ورفع عن المتأدبين تعب الدَّرس والحفظ والمطالعة” (الصَّفدي، الوافي بالوفيات).

لفظاعة سرقة الحروف، حصل أن يُتهم بها اللّغوي ابن دُريد (ت 321هـ) صاحب “الاشتقاق”، اتهمه زميله إبراهيم نفطوية (ت 323هـ)، عبر سجال هجائي بينهما. فقال الأخير فيه: “ابن دريد بقرة/ وفيه لؤم وشره/ قد ادعّى بجهله/ جمع كتاب الجمهرة/ وهو كتاب العين/ ألا أنه قد غيرّه”. فرد ابن دريد بالهجاء: “لو أنزل الوحي على نفطويه/ لكان ذاك الوحي سخطاً عليه/ أحرقه الله بنصف اسمه/ وصير الباقي صراخاً عليه” (الحموي، معجم الأدباء). بمعنى أن اشنع تهمةً توجه للكاتب آنذاك تهمة السَّرقة، وليس مثلها ما يشوه السُّمعة، ولا نظن ابن دريد ارتكبها بهذه السَّذاجة.

كذلك لألمها وثقلها على المسروق، هل أبو الحسن المسعودي (ت 346هـ) مروجه ويختمه بتحذير المنتحلين والمتلاعبين على مختلف أصنافهم قائلاً: “منْ حرف شيئاً مِنْ معناه، أو أزال ركناً مِنْ مبناه، أو طمس واضحةً مِنْ معالمهِ أو لبس شاهدةً مِنْ تراجمه، أو غيره أو بدله، أو انتخبه أو اختصره، أو نسبه إلى غيرنا أو أضافه إلى سوانا، فوافاه مِنْ غضب الله، وسرعة نقمته وفوادح بلاياه، ما يعجز عن صبره، ويحار له فكره، وجعله مثلةً للعالمين وعبرة للمعتبرين وآية للمتوسّمين، وسلبه الله ما أعطاه، وحال بينه وبين ما أنعم به عليه مِنْ قوّة ونعمة مبدع السموات والأرض، مِنْ أي الملل كان والآراء، إنه على كل شيء قدير. وقد جعلت هذا التخويف في أول كتابي هذا وآخره” (مروج الذهب ومعدن الجوهر).

كنت تابعت العديد مِن السَّرقات لكتب كاملة ومقالات، ارتكبها مَن صدرت لهم عدة مؤلفات وأحدهم عُدت كتبه نحو مئة وخمسين كتاباً، مع جوائز وأنواط، ارتكبوها بلا حياء ولا وخز ضمائر. هذا قبل أن يظهر “غوغل” التي اُحتفل بالذكرى السابعة عشر بإطلاق موقعه، وهنا بدأت السَّرقات بلا مشقة، وصارت الكتابة مهنةً لمَن لا مهنة له، أو أنها تُكمل الجاه الوظيفي أو الاجتماعي، فمعلوم أن الوظيفة أو المنصب لا يُخلِّد صاحبه مثل الكتاب أو اللوحة الفنية أو القصيدة.

ظهر ما يُسمى بفن “الكوبي بيست” (نسخ و لصق)، للأسف سرى هذا خارج حتى أعراف السَّرقة الأدبية، سرقة كُتب أو قصائد أو مقالات. فعندما ظهرت داعش مثلاً أسرع “الناسخون – اللاصقون” وأصدروا كتباً ورقية عن داعش، وكأنهم كانوا بين صفوفها، وهي مقالات شتى وآراء بثت على الإنترنيت، وكذلك ظهر التأليف في السلفية الجهادية، والمذاهب والفِرق والأديان.

ما أن تظهر قضية ما ويُكتب عنها إلا وتجدها في عشرات المواقع والصحف مستنسخة، ولكن بأسماء أُخر. آخر ما عثرت عليه منشوراً، لآخر سطى على كتاب الباحث السُّعودي ناصر الحُزيمي “حرق الكتب في التراث العربي”، فجعله مقالاً “حرق الكُتب في التراث العربي الإسلامي”، وفضحته على صفحات الصحف، وأدعى أنه اقتبس لكنه لم يذكر للرجل اسماً، ولم يبق معلومة وشرح لم يلصقها في مقالته تلك.

وبفضل “غوغل” وجدتُ بحثاً على حلقات في صحيفة “التآخي” لسان حال الحزب الدِّيمقراطي الكردستاني، (نُشر 9 و12 أغسطس/آب 2015)، وتحت عنوان “كُرد أم عرب أم مكون خاص”، ولأنها صحيفة لها تاريخ، فقد تأسست العام 1967، واستكتبت آنذاك وما بعدها أجود الأقلام العراقية الكُردية والعربية، وكشفت عن مواهب ارتقت إلى مستوى حَسن من الكتابة والثقافة، خاطبت رئيس تحريرها الصحافي والكاتب أحمد الفيلي قبل أن أكشف الموضوع في مكان آخر، فجاء الرَّد شافياً والاعتذار وافياً، بأنهم وضعوا هذا الاسم في القائمة السَّوداء”، وأنه ورطهم مِن قَبل بسرقة. فمعلوم مَن يسطو على سطر لا يعف عن كتاب، ولو “سود وجهه بالمداد”.

وجدتُ اسم المنتحل على صفحات الفيسبوك فكتبتُ له رسالة، وكان الجواب الأول أنه من حقه أن يقتبس مايريد من الصفحات، ولما صورتُ ما كنت نشرته عن “الشَّبك” كاملاً وارسلته إليه، تنازل وقال: “لستُ ضليعاً بل جديداً في البحث”! مع أنه نسخ الفصل كاملاً، من كتابي الأديان والمذاهب، الذي قام البعض بنشر الفصل باسمي، وبلا رخصة. بعدها قال: وجدته في الإنترنيت فأخذته، فهذا “غوغل” سهل للمنتحل الانتحال ثم سهل فضحه. مع أن الرَّجل، حسب ما يتضح من صوره، يعمل في مجال الإعلام وله علاقة بجامعة بغداد، ويتحدث للفضائيات!

شخص آخر يدعي أنه باحث، ويُلقي المحاضرات في المحافل العربية، قطع فصلاً كاملاً من كتاب الباحث العراقي ميخائيل عواد (ت 1992) “صور مشرقة من حضارة بغداد في العصر العباسي”، فصل “في بغداد استنبطت الكتابة البارزة للعميان”، نشره تحت عنوان “الآمدي مستنبط الكتابة البارزة للعميان”، ونعترف له بابتكار العنوان، هكذا يتم الضحك عل القراء واستغفالهم!

وأستاذ سوري في جامعة ورئيس أكثر من قسم فيها، انتحل كتاب عبد الرزاق الحسني “اليزيدون في ماضيهم وحاضرهم” نصاً، وأن عدد صفحات كتابيَّ المسروق والسَّارق (158 و158). وكاتب وصحافي له أكثر من عشرة كتب، انتحل كتاب المتسشرقة البريطانية ليدي داوور (ت 1972) “الصابئة المندائيون”، وللأمانة أنه اجتهد أيضاً في عنوان كتابه وجعله “المندائيون الصابئة”، فتخيل جرأة الاستغفال! هذا والقائمة تطول، وكل هؤلاء وآخرين تم كشفهم قبل “غوغل” و”بمساعدته” في ما بعد.

يردُ علينا مَن يرد أنه ما قيمة سرقة “الحروف” كتاباً أو مقالاً، وعلى وجه الخصوص في ظرف العراق الرَّاهن، تجاه شراهة الفساد المالي والإداري فيه؟ وكأن الكتاب أو المقال ليس له مالكاً، ولا تُعد الحروف مِن الحقوق. فعندما كتبتُ، العام 2006، مقالاً تحت عنوان “يا كاكا مسعود أيجوز توزير سارق الحروف”؟ امتنع سكرتير رئيس إقليم كردستان أو مدير مكتبه مِن تقديم عدد الجريدة في ذلك اليوم له، ولم يعرض المقال على رئيسه، مع أنه بمثابة رسالة إليه، وكان عذره: “ما قيمة سرقة الكتابة والسرقة في المال طاغية”! فالسكرتير ارتكب بدوره مفسدة أيضاً، أو ساعد على وجودها، فسارق الحرف لا يعف عن المال.

على أية حال، مِن ضيق لكثرة السَّرقات، والنُّساخ اللاصقين، ومنهم مِن الفئة المتدينة، ومِن داخل الإسلام السِّياسي، ولعلهم أقل مِن غيرهم، أرسلت استفتاءً إلى مراجع الدين ومؤسساته، ومن بينهم جامع الأزهر ومكتب علي خامنئي، فجاءت الأجوبة بين تحريم وكراهة وتحوط، فالفقه لم ينظر في هذه القضية مِن قَبل، لذا وجدوها مستجدة، مع أنها بقِدم الكتابة نفسها، وقد نشرت كل ذلك في كتاب “بعد إذن الفقيه” فصل: “لصوصية الكتابة.. الفقهاء والسَّرقة الأدبية”.

لقد سهل موقع أو مسبار “غوغل” على الباحثين العثور على المظآن، ويتوقف عليهم حسب درجة العفة في الكتابة، أن يأخذوا المعلومة جاهزة وينسبوها لأنفسهم، أو أن يدققوها ويقابلوها ويشيروا بالفضل لصاحبها. لكن “غوغل” في الوقت نفسه سهل السَّرقة “كوبي بيست”، وبواسطته تكاثر الكُتاب والباحثون، مع اعترافنا بفضله أيضاً بسهولة كشف السارقين، مِن غير المحترفين، أما المحترفون فيحاولون طلاء الألفاظ والمعاني لإخفاء السَّرقة، وتلك لا تُخفى عند التدقيق.

أختم ببيت نُسب لعدة شعراء، لعله يجد صداه لدى “لواصق غوغل”: “تعس الزَّمان لقد أتى بعجابِ/ ومحا رسوم الظَّرف والآداب/ وأتى بكُتَّابٍ لو انبسطت يدي/ فيهم رددتهم إلى الكُتابٍ “(الأصفهاني، محاضرات الأدباء. والوطواط، غرر الخصائص الواضحة وعرر النقائض الفاضحة).

  كتب بتأريخ :  السبت 03-10-2015     عدد القراء :  3969       عدد التعليقات : 0