الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
شهداء باريس .. الرقم سمكة
بقلم : جعفر المظفر
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

   جعفر المظفر

   طريقة تضامننا مع ضحايا الإرهاب في الغرب, كأن نستبدل صورنا بعلم الحزن الفرنسي, يجب أن لا تثير حفيظة أحد, خاصة إذا كانت الإثارة تجري وفق قاعدة دمهم لا يفرق عن دمنا. الإعتزاز إنسانيا بجميع ضحايا الإرهاب مهما كان لونهم وعرقهم ودياناتهم يجب ان لا يغيب عنا حقيقة أن الخسائر هي في حقيقتها ليست رقمية لأنها تجر معها مجموعة من الخسائر المركبة التي تفوق أرقامها البشرية المجردة بدرجات كبيرة.

   هدف الإرهاب مع الغرب لا يتعلق بقتل الأفراد وإنما هو يتجاوز ذلك إلى إستهداف طبيعة المجتمعات هناك وطريقة عيشها وتتخطى أضراره كثيرا الأضرار التي تتأسس على المقارنات الرقمية.

   في يوم واحد يُقتل ألف في العراق وكذلك في سوريا, لكن الأمر لا يثير الضجة التي يثيرها مقتل عشرة أو عشرين فرنسيا. تجاوزنا لما تؤسس له الإقترابات الرقمية ينطلق من حقيقة أن الأضرار التي تسببها خسارة العشرين في فرنسا يفوق حتما ما تتسبب بها في العراق وفي سوريا. فالحياة في هاتين الدولتين الأخيرتين هي أصلا معطلة, أما مايثيره القتل فيهما فيجري التعامل معه على طريقة المبلل لا يخاف من المطر.

   في فرنسا مثلا يكون أثر العمليات الإرهابية واضحا على صعيد حساب التراجعات التي تؤدي إليها إجتماعيا وثقافيا وحضاريا, ولا نذكر هنا الخسائر التي تحدث على صعيد أمني وإقتصادي وسياحي.

   في مجتمعاتنا, ضحايانا لا يتجاوزون حدود الرقم الحسابي لأن حياتنا منذ قرون طويلة سائرة بقدرة قادر, أما في مجتمعاتهم فإن خسارة العشرين دم ربما تصيب الدولة والمجتمع وطريقة الحياة والسلوك بخسائر فادحة.

   حذاري إذن من بناء نظريات سياسية وإجتماعية على لغة الأرقام وحدها, فالرقم تماما مثل السمكة, يموت مثلها إذا خرج من مائِهِ.

   إجتماعيا, حضاريا, ثقافيا, سلوكيا, ما وصل إليه المجتمع الفرنسي هو نتاج تطور سياقي, مركب ومتفاعل, يمتد على أكثر من عدة قرون, وربما يُؤرخ له ببداية الثورة الفرنسية عام 1789 حين إستوحت تلك الثورة أفكارا ليبرالية وراديكالية غيرت بشكل عميق مسار التاريخ الحديث, أوروبيا على الأقل. هذا التطور يمتد بلا شك إلى ما قبل ذلك التاريخ متواصلا ومتداخلا مع متغيرات فكرية وثقافية عمت القارة الأوروبية برمتها. أما نحن فما لدينا يعبر أيضا من ناحيته عن محصلة لتاريخ متواصل من الغياب عن الإنسانية.

   لقد كانت هناك محاولات إستدراكية (نصف ثورية) في بلداننا العربية لم يكتب لها التوفيق لأسباب متعددة, أما ما لدينا الآن فهو أيضا من ناحيته يمثل خلاصة لسياقات تاريخية مرت بها مجتمعاتنا, ولكن على طريقة إلى الوراء در.

   والآن إضرب رقم العشرين ضحية فرنسية بأربعة قرون تطور وقارنها بحاصل ضرب الألف ضحية عراقي أو سوري بأربعة قرون تخلف, وأنا على ثقة بأنك ستحصل على نتائج متعاكسة مع ما يحمله الرقم المجرد.

   نعم .. الدم هو واحد, وكذلك الإعتزاز به, لكننا نتحدث هنا كيانات وحضارات وثقافات, عن مجتمعات ودول.

   نتحدث عن مجتمعاتهم التي تسير إلى الأمام وتُقتلُ من الخلف, وعن مجتمعاتنا التي تسير إلى الخلف وتُقتلُ من الأمام

  كتب بتأريخ :  الخميس 19-11-2015     عدد القراء :  2262       عدد التعليقات : 0