الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
صباحات فيروزية
بقلم : محمد علوان جبر
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لم أشهد صباحا أجمل من صباحاتك يا بغداد، صباحات يصدح فيها صوت فيروز عبر كل راديوات المدينة، حتى جارتنا السيدة الكبيرة "أم عباس" التي وصلت الى أعتاب الشيخوخة، مذياعها يبث فيروز، بيتنا يصدر منه صوت فيروز.. أمي تعد الفطور، وأنا أستحم، أطلب منها أن ترفع مؤشر الصوت، ترفع المؤشر لأنها تعرف شغفي بفيروز، أحيانا تبقى تبحث في مؤشر الراديو حتى تعثر على فيروز. كان أبي يبحث عن الأخبار دائما.. يبحث في مؤشر الراديو.. يتابع الخيط الأحمر.. وحينما يعجز من البحث يبقي المؤشر على الإذاعة التي تبث أغانٍ لفيروز.

قبل أن أخرج من البيت صباحا متجها إلى عملي، أقرِّب جهاز الراديو، أقرِّبه قليلا من أبي الذي أعرف إنه ما بين النوم واليقظة ينتظر خروجي من البيت، وينتظر أيضا انتهاء فترة ساعة الصباح الفيروزية، لا يغير الموجة حتى تنتهي الساعة، ثم يبدأ رحلة البحث عن الأخبار عبر إذاعة "لندن" التي نعرفها من خلال الرنة الجنائزية لـ "بك بن"، أكبر وأشهر ساعات العالم.. إذا سمعت أمي تلك الرنات تعرف دون أن تسأل أني خرجت من البيت.

قادتني الظروف في سبعينات القرن الماضي لعبور الحدود والاستقرار لأكثر من عام في بيروت.. وصدفة أحسن منها هيئت لي فرصة عمل في الصفحة الأخيرة وقبل الأخيرة لإحدى المجلات التابعة للمقاومة الفلسطينية.. الصفحة قبل الأخيرة كانت مخصصة للحوارات الفنية مع فنانين وكتاب، شعراء وروائيين ومفكرين، عملت في الصفحة الفنية بصفة "صحفي تحت التجربة"، وذلك لصغر سني وتجربتي البسيطة في العمل الصحفي، وبدأ عملي بروتينية كرهتها تماما وكدت أن أترك العمل بسبب الملل، لكني فكرت يومها بما أني صحفي "تحت التجربة" لأفعلها وأقدم ما لم يقدمه الكثير من المحررين الذين عملوا قبلي ومعي في المجلة. جاءت الفرصة على طبق من ذهب بعد أن قرأت إعلانا يشير الى وجود حفلة لفيروز على مسرح "شوشو"، وقبل الموعد بساعات حملت عدتي وهي مجموعة أوراق وضعتها في حافظة زرقاء، وأكثر من قلم، ودون أن أضع خطة أو تحديد موعد كما هو معتاد في هكذا أعمال صحفية، لكني حرصت على أن أرسم في عقلي صورة لي وأنا قبالة فيروز، أسألها وهي تجيبني.. وضعت خارطة طريق لأسئلة تتفق مع ثقافتي وعقليتي في تلك الحقبة من عمري.

دخلت القاعة الخارجية، وقرب قاطع التذاكر قدمت نفسي أني صحفي فني. أشار لي ناحية باب مغلق، طرقته بأدب، وجدت سيدة جميلة تدخن وهي تضع ساقا على ساق، ورجل يجلس على الكرسي المقابل لها، قدمتُ نفسي على أني صحفي فني، وقبل أن أذكر اسم المجلة التي أعمل فيها نهضت من مكانها ومدت يدها لتصافحني بحرارة، حتى بان بياض مخلوط بسمرة تحت أبطها.. قالت "السيدة تنتظرك"، ثم أضافت:" لماذا تأخرت؟، حينها فهمت أنهم ينتظرون صحفيا آخر وهو الذي تأخر، رددت مع نفسي "انه القدر ساق هذه الصدفة أمامي"، سرت وكأني أنا المعني بالموعد مع السيدة التي تركت سيكارتها وانبعث عطرا لازلت أتذكره، رغم مضي كل هذه الأعوام، ازداد اضطرابي وانشغلت برائحة عطر المرأة المدخنة. طرقت الباب بهدوء سمعت كلمة "تفضل"، ناعمة، رقيقة، موسيقية.. فتحت الباب وجدت نفسي وجها لوجه مع فيروز.. أجل فيروزتي.. فيروز التي كانت أمي تجهد نفسها حتى تلتقط الموجة التي تبث أغانيها.. فيروز التي كان مذياع جارتنا "أم عباس" يصدح بأغانيها:"يا كرم العلالي عنقودك لينا.. يا حلو يا غالي شبحبك أنا"، هكذا سمعتها ترددها بهمس وهي جالسة باسترخاء.. أشارت بيدها ناحية كرسي قبالتها فيما استمرت الدندنة "قلي شوبيكي وسمعني حكي..."، توقفت وهي تدير أجمل عينين خلقهما الله على الأرض.. نفقا رماديا رصاصيا ملونا لم تفلح الألوان كلها في إخفاء بريقهما، ربما فهمت الأمر بسرعة، قالت وهي تقدم لي ورقة ملونة: اترك أسئلتك لأن موعد الحفلة سيبدأ بعد قليل. أمسكت الورقة ويدي ترتجف.. اجلس هنا وأنا سأعود اليك بعد دقائق.. صاحت بالسيدة "ضيفي الأستاذ"، طلبتُ ماء، فقط لأزيل جفاف حنجرتي.. وباسترخاء مصطنع كتبت أسئلة لا أتذكر منها كلمة واحدة، وانتظرت حتى أطلت مرة أخرى ولكن بفستان حوَّل الأرض والسماء إلى أخضر وفستقي، مددت لها بالورقة.. قالت لي "ياه خطك جميل مثل حظك"، كأنها أجابت على الكثير من الأحداث التي كنت أظنها تبدو "معجزات"، ثم أضافت:"الاحتفالية تستمر الى الاسبوع القادم.. مر على المدام ستجد الإجابات"، سألتني أين كاميرتك؟.. لم أفكر بموضوع الكاميرا إطلاقا.. سأجلبها غدا. قالت "ولا يهمك، ستجد مجموعة من الصور الجديدة لدى المدام". خرجت بعد مصافحتها، وأنا ألوم نفسي، كيف لم تخطر في ذهني الكاميرا؟، عزوت الأمر لأني صحفي تحت التجربة.

بعد أقل من أسبوع مررت على المسرح واستلمت مجموعة من الأوراق مكتوبة بخط غير واضح.. ربما كتبت على عجالة، أزالت المدام "ذات السيكارة" انبهاري بالخط المتعرج، قالت:"كانت تتحدث بسرعة ولم أستطع أن أجاريها فكنت أكتب بسرعة وأتمنى أن يكون خطي واضحا".. إذن هو ليس خط فيروز، سألت أين فيروز، قالت أنها سافرت وتركت لكَ هذه الصور، كنت قد استعرت كاميرا من أحد الأصدقاء، حينها أصبت بخيبة بعد أن وعدت رئيس التحرير بمفاجئة لا يتوقعها، ولكن رغم مرارة خسارتي بفرصة صورة تجمعني مع فيروز، فقد حملت الأوراق وكتبت ديباجة ضمنتها الإمانية السحرية في صوت يدخل القلب والروح ويتغلغل عميقا حيث أماكن تحيل كل موجودات العالم إلى نغم يتمايل.. استعنت بالكثير من الأصدقاء في فك شفرة الخط الأنثوي المتعرج.. وقدمت الموضوع مع الصور الى رئيس التحرير.. انتظرت لأكثر من أسبوع حتى نشر الموضوع... والمفاجئة التي جعلتني العن كل شيء ان الموضوع نشر تحت اسم "أسرة التحرير تحاور فيروز"، لم يكتب اسمي الذي تمنيته أن يكون قريبا من صور فيروز.. يومها غضبت ولم أقبل تبرير سياق المجلة، "اننا أسرة واحدة"، تركت العمل في المجلة لأكثر من شهر حتى أعادتني الضائقة المالية إليها لأعمل فيها فترة قصيرة قبل أن أترك العمل فيها والعودة إلى الوطن.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 25-11-2015     عدد القراء :  2547       عدد التعليقات : 0