الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
أبا رافد .. لا شيء يضاهي صداقتك!

أبا رافد .. لماذا قلتَ: وداعاً، مع أنك تعلم، علم اليقين، أننا لم نكمل حديثنا ؟ لماذا أخذتَ النهار ومضيت، وتركتَ عندنا الليالي ؟ لماذا هجرتَ "البلاد" ؟ لماذا رحلت ؟ قل لي: إلى أين تمضي بنا الأيام !؟

كيف لي أن أنسى تلك الغرفة الصغيرة، في الطابق الأول من بيت "طريق الشعب"، مطلة على شارع السعدون ببغداد، وفيها تعلمت منك، إبان السبعينات، دروساً في الصحافة، والثقافة، والأريحية، والسمات الشخصية الجميلة ؟

مازلت أتذكر، جلياً، كيف كنا نتجادل ونختلف وننجز .. كنتُ أصغركم عمراً. كنتَ، أنت، ويوسف الصائغ، في "سكرتارية التحرير"، من جيل الخمسينات، بينما أنا من جيل لاحق، الستينات، وربما السبعينات. فقد كنتُ في أواخر عشريناتي في تلك الأيام .. كانت "الغرفة"، على صغرها، رحبة، إذ استقبلت صادق البلادي لينضم الينا، مضيفاً نكهة جديدة ..

كيف لي أن أنسى أيام "إيلنغ برودواي" غرب لندن، وحاناتها التي شهدت أعذب لقاءاتنا ؟ كيف لي أن أنسى "لندن برنت أند ببلشنغ سنتر"، حيث كنا نلتقي أنت وسعود الناصري وأنا، في مطبعة أبي سلام (يعقوب قوجمان)، وكنتَ تمطر بـ "تدقيقاتك" كلير مشعل وهي "تصفّ"، بحرص معهود، "رسالة العراق" ؟

كنتَ في أوائل أربعيناتك حين احتضنتنا "طريق الشعب". وفي ساعة عودتي من لندن الى بغداد قبل أيام، كنا قد تواعدنا على لقاء قريب، وكان صوتك متشبثاً، وأنت في الثمانين، كشأنك في كل حين، بالحياة .. لكن، الى أين تمضي بنا الأيام!؟

هل تتذكر ما كنا نردده في غرفة "طريق الشعب" قبل أربعين عاماً ؟:

وقفتَ وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائــم

تمر بك الأبطال كلمى هزيمــــــة

ووجـــــــهك وضاح وثغرك باسـم

فيا للمتنبي من عارفٍ بأيامنا !

لماذا تركتنا، وقد كنتَ صاحب "الوجدان" في كل حين ؟ وكيف لي، صديقاً، أن أرثيك كاتباً ومؤلفاً، وصحفياً، ومناضلاً، متألقاً بسيرة حياته، وأمثولته التي قلّ نظيرها ؟

خضتَ غمار حياة مفعمة بالمآثر، وبالسعي، غير هيّاب، الى الحقيقة .. وبقيتَ من بين قلة يجيدون فن المودة والاصغاء والجدل وإثارة الأسئلة ..

ما أسرع ما كنتَ تلبي نداء صداقة في زمن جاحد قلّ فيه من يمدّون يداً ..

فائق بطي ..

سلاماً، وقد أرشدتَ خطواتنا في دروب الآلام..

سلاماً أيها المهتدي بمصباحك يضيء طريقنا.. الهادينا، بأمثولتك، الى اكتشاف الحقيقة ..

سلاماً، مقامك في الذاكرة حيّاً، يا قابضاً على جمر المعاناة، وأنت تنقل إرث التنوير الى متشبثين بالرجاء ..

سلاماً، وارث الينابيع .. مورثها .. وقد انتمينا اليك، مجترحاً خير العمل ..

دائماً سأتوسل بالندى أن يبلل أزهار ضريحك ..

دائماً سأتوسل بيديك أن تمسحا عن جبيني تراب الأحزان ..

هاك، إذن، قميص الروح، موشىً بالجمر وعشب الذاكرة، ترتديه في رحلة الأبد ..

أبا رافد .. سيّد الكلام .. يلزمني جدار أرحب من غيابك حتى تليق بك كلماتي ..

لا شيء يضاهي صداقتك !

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 26-01-2016     عدد القراء :  2799       عدد التعليقات : 0