الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
اقتحام السماء .. تأملات في الحراك الشعبي (1)

من السخط .. الى الاحتجاج .. والأمل !

إذن، فقد أدى ذلك التراكم الكمي للسخط، عبر سنوات من المعاناة الشاملة المريرة، وقد أعقبت عقوداً من الاستبداد والحروب والانحطاط الروحي، الى تحول نوعي في المقاومة ..

أدت شرارة السخط الى أن يندلع لهيب الاحتجاج، فينعش الأمل الذي ظل متقداً مثل جمرة تحت رماد العراق ..

الرايات تخفق .. والأصوات تصدح .. وجذوة الرافدين تنهض من جديد .. فيا لهذه البلاد التي تضيء كل حين، تعانق محبيها، وهي ترشدهم الى تلك الضفاف ..

كأن نصب الحرية يقود "مقتحمي السماء" الى الأمل الذي يجول في كل أنحاء العراق شبحاً ترتعد أمام نهضته فرائص اللائذين بالنظام القديم ..

كأن البلاد تغني مصائرها بلا منشدين .. وترتّل أيامها في خطوات أهل الحق السائرين ..

كأن الرجاء يحرر الأسرى من راهن الانحدار والظلام ..

كأن الضفاف تقترب الينا ونحن نغذ المسير، كتفاً الى كتف، صوب غاياتنا الساميات ..

هذا، إذن، هو تمرين الكفاح الذي لن يكون الأخير !

***

الحراك الشعبي، الذي لايزال متواصلاً منذ ما يقرب من ستة أشهر بزخم لم يتراجع نوعاً ولم يفتر حماساً، هو سيرورة مفتوحة الآفاق، من المبكر، وربما غير الواقعي، الجزم بما ستؤول اليه مصائره ومحصلة انجازاته المباشرة وغير المباشرة، وتحديد استنتاجات نهائية بشأن عواقبه الاجتماعية والثقافية.

غير أن سمات الحراك الشعبي، الذي يمكن النظر اليه باعتباره أهم ممارسة كفاحية منذ سقوط الدكتاتورية عام 2003، تقدم مؤشرات واضحة ودلالات عميقة على تحول نوعي، وإن كان محدوداً، في الوعي السياسي للمجتمع، وخصوصاً في أوساط الشباب، وهم الأغلب والأنشط فيه، واتساع نسبي لمساهمة النساء، وسط استعداد شعبي أشمل للمشاركة في الاحتجاج الذي تنوعت قواه الاجتماعية والسياسية، وشعاراته الثورية الواقعية.

ولا ريب أن الهدف الرئيس للحراك مرتبط بالوعي التنويري، وإشاعة ثقافة الاحتجاج والمطالبة بالحقوق، وتوسيع مشاركة القوى الاجتماعية الحية من أجل تحقيق الهدف الأسمى المنشود، متمثلاً في بناء دولة مدنية بعيداً عن منهجية المحاصصات الطائفية والاثنية.

ومن المؤكد أن الحراك لم ينبثق من عدم، وإنما جاء حصيلة لتعمق الأزمة الاجتماعية بتجلياتها المتنوعة على خلفية صراع المصالح من أجل السلطة والثروة والنفوذ، الذي اعتمد منهجية المحاصصات لادارة الحكم، وهي منهجية ولّادة للأزمات الدورية لا لحلها. ومن الطبيعي أنه ما أن يتغير التوازن الاجتماعي والسياسي تنفجر الأزمة لهذا السبب أو ذاك.

وهذا هو الأساس الموضوعي للحراك الشعبي، الذي حدد، من بين تطورات أخرى، الملامح الأساسية للوحة السياسية الراهنة في البلاد. والحراك ليس وليد الصدفة المتلازمة مع العفوية، ذلك أن العوامل الموضوعية هي التي خلقت وعمقت الأزمة الناجمة عن فشل نظام المحاصصة، وسوء الادارة، ونمط التفكير المتخلف، والتدخلات الاقليمية والدولية ... كل هذا دفع الناس الى مزيد من القناعة بأن طريقة الحكم القائمة عاجزة عن حل معضلات البلاد وإنقاذها من الانحدار المأساوي المروع.

وأثمر هذا الأساس الموضوعي تحركات شملت البلاد، وخلق موجات من الاحتجاج تصاعدت في الحراك العمالي عام 2014. وجاءت الاحتجاجات في أعقاب الهبة الجماهيرية عام 2011، وتظاهرات عام 2013، وما حصل في نيسان وأيار الماضيين من احتجاج عمال شركات التمويل الذاتي.

ثم اندلع الاحتجاج الراهن، الذي حظي بتأييد المرجعية الدينية وقوى سياسية واجتماعية، بعد أن بانت عورة غياب الخدمات وخصوصاً في الكهرباء. وابتدأت حركات لم يكن بالضرورة مخطط لها، وانما جاءت ردود فعل عفوية ضد الحكومة وسياساتها وسوء ادارتها على المستويين الاتحادي والمحلي، والفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة. وحصل ما حصل في البصرة، وهو ما أسهم في إشعال شرارة الاحتجاجات في بغداد والمحافظات.

وباتت جلية، منذ البداية، حقيقة أن لا امكانية لاصلاح الأوضاع وتغييرها من دون حركة جماهيرية واسعة، ضاغطة على السلطة، لمراجعة مسار العملية السياسية، وإصلاحها، بتكريس الديمقراطية ومؤسساتها، وتأمين التنمية المستدامة. وبالتالي فلا مناص من تحفيز وتطوير النشاط المطلبي الاحتجاجي الجماهيري لانتزاع الحقوق، وليس انتظار مكارم وهبات تقدمها الحكومة.

وقد فاجأت الهبة، التي كانت في بدايتها عفوية، مختلف الأوساط الاجتماعية والسياسية، الأمر الذي كشف غفلة في معرفة تفاعل وتأثير عوامل الأزمة، وتنامي السخط، واتخاذه طابعاً احتجاجياً. وشكل تراكم المعاناة مقدمة لتحول نوعي في طبيعة وأسلوب الاحتجاج الشعبي.

غير أن مفهوم العفوية لا ينبغي أن يلغي وينفي التراكمات التي حصلت في سياق الاستعداد لممارسة الضغوط على السلطة وإدانتها ومطالبتها باجراء اصلاح حقيقي لأوضاع البلد.

ومن المؤكد أن الاصلاح الحقيقي يستهدف إقامة دولة المؤسسات والقانون، وليس الاكتفاء باصلاحات فوقية أو ترقيعية لامتصاص نقمة، وإجراءات عجولة تفتقر الى السقوف الزمنية، مثلما تفتقر الى آلية تنفيذ عملية. ومن الطبيعي أنه لا يمكن لدولة المؤسسات أن تقام ما لم تشرع قوانين تستجيب لضرورات إخراج البلاد من أزمتها العميقة وتلبي حاجات التنمية الشاملة الراهنة الملحة.

وجلي أن الاصلاحات لم تتحقق حتى الآن لعدم توفر مستلزمات تحقيقها، وعدم وجود بيئة تشريعية تدعمها. وهناك غياب للارادة السياسية، وضعف خبرة لدى من يضطلعون بتلك الاصلاحات، ناهيكم عن عدم انسجامهم في العمل. إن عدم تحقق أي من الاصلاحات الحقيقية يهدد بعواقب محتملة وخيمة اذا ما استمر الوضع على هذا النحو، في ظل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية تعصف بالبلاد.

وفي غضون ذلك تشتد مقاومة القوى المعرقلة للاصلاح، بينما يستمر ضعف القوى التي يفترض أن تنهض بمهمة الاصلاح، وترددها وميلها الى الالتفاف والمماطلة، وفشلها في إقامة جبهة واسعة تدعم الاصلاح، فضلاً عن عجز السلطتين التشريعية والقضائية عن الدعم الحقيقي للاصلاح. هذا ناهيكم عن استفحال الفساد الشامل، وتردي الوضع الأمني، وتفاقم المصاعب الاقتصادية والمالية، وغياب الخدمات الأساسية، وتدهور الحياة المعيشية للمواطنين، واستمرار المعاناة المأساوية لملايين النازحين. وهو ما يسهم، من بين حقائق أخرى، في الأزمة الاجتماعية والسياسية التي يعمقها ويفاقمها نهج المحاصصات المقيت.

أما الحراك الشعبي، الذي يتسم بآفاقه المفتوحة، فمن المؤمل أن يستمر طالما لم تتحقق أهدافه ومطالبه الرئيسة، ولم يحدث تغير ملموس في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وبناء الدولة، ومكافحة الفساد، وتحسن الوضع المعاشي للمواطنين.

على أننا، الآن، في مرحلة تبلور التظاهر كشكل رئيس للاحتجاج والمطالبة بالاصلاح. غير أن التظاهرات ليست سوى شكل واحد راهن من الحراك الشعبي، الذي يمكن له، بل ربما ينبغي، أن يمارس أشكالاً أخرى مثل الاعتصامات، والمؤتمرات الشعبية، والمذكرات المطلبية، والندوات السياسية، والاتصالات بالمرجعيات الدينية وبممثلي القوى السياسية والاجتماعية ... وما الى ذلك من أشكال تنبثق في سياق عملية السخط. ففي هذه البلاد إرث في الاحتجاج مضيء وملهم، لابد من العودة الى ينابيعه والاستفادة من خبرته في تنويع أساليب الكفاح.

لقد راهنت القوى المعرقلة للاصلاح على جزع المتظاهرين، غير أن التظاهرات تمكنت، في تجربتها القصيرة، من تجاوز الكثير من الصعوبات، ومعالجة الكثير من الصعوبات غير السليمة، الملولة، قصيرة النظر. فهي لم تتخاذل أو تتوقف لمجرد إصدار قرارات اصلاح، وإنما تحلت بالصبر وطول النفس والواقعية لغرض المطاولة، وبانتظار مزيد من حزم الاصلاح، والأهم تحويل هذه الحزم الى وقائع ملموسة.

هكذا فشلت الطروحات التي راهنت على جزع المتظاهرين وضعف همتهم ارتباطاً بامتداد فترة التظاهر. وتتواصل التظاهرات عل الرغم من الاجراءات الأمنية المشددة، والاعلام المضاد المشكك بامكانية المتظاهرين على الاستمرار. ومازالت الأسباب التي أدت الى الحراك قائمة، ولا يغير المد والجزر، المتوقع والطبيعي، من الأمر كثيراً. ومن الطبيعي أن تظاهرات الجمعة ينبغي أن لا تظل يتيمة، وإنما عليها أن تتكامل مع روافد أخرى، هي أشكال كفاحية مجربة.

هناك، بالطبع، تساؤلات كثيرة حول امكانية إجراء الاصلاح وأفق هذه المسألة، من بينها: أيمكن إجراء اصلاح حقيقي في ظل نظام المحاصصة الطائفية والاثنية ؟ أيمكن لقوى تدعو إلى الاصلاح، وهي جزء من نظام المحاصصة، أن تفلح، فعلاً، في إجراء الاصلاح ؟ أيمكن إجراء اصلاحات في ظل غياب بيئة تشريعية تدعمها ؟ أيمكن إجراء اصلاح في ظل غياب إرادة سياسية ؟ أيحقق الاصلاح طاقم حكومي يفتقر الى الايمان الحقيقي بعملية الاصلاح، ناهيكم عن افتقاره الى المؤهلات السياسية والمهنية ؟ وهل حكومة بلاد عائمة على النفط، تلهث وراء صندوق النقد الدولي، مستجدية القروض، بينما يبحث ألوف وألوف في مزابل "كعبة المجد والخلود"، وسائر مزابل البلاد التي تغذي فساداً قل نظيره .. أحكومة مثل هذه ينتظر منها إنجاز إصلاح حقيقي !؟ أليست مثاراً للارتياب إن لم نقل لمشاعر وحقائق أخرى !؟ لكن ألا يشير المنطق الى أن إجراءات الاصلاح يمكن أن تؤدي، بتراكمها، الى تقريب نهاية نظام المحاصصة ؟

هذه الأسئلة الحارقة، وسواها، هو ما نسعى الى إضاءته والاجابة على ما يمكن منها في سياق حلقات مقبلة قريبة، نتناول فيها موضوعات هامة بينها: مقدمات وأسباب الحراك الشعبي، سمات التظاهرات ومنجزاتها، المواقف المختلفة من الحراك، قضايا سياسية وفكرية في الحراك بينها موضوعة العفوية والتنظيم والميول العدمية والانعزالية، ودلالات الحراك، والاصلاح ومستلزماته والقوى المعرقلة له، ودور المثقفين في الحراك، وأخيراً وليس آخراً، آفاق الحراك الشعبي.

ومن الطبيعي القول إن استنتاجات هذه المقالات ليست نهائية، ولا يمكن أن تكون، ارتباطاً بحقيقة عدم سكون الأوضاع، وظهور حقائق وتجليات وممارسات جديدة تتطلب، على الدوام، مزيداً من التأمل والتحليل في سياق منهجية إعادة النظر والتقييم.

وأخيراً فانه يتعين علي الاعتراف بفضل العديد من المعنيين بالحراك الشعبي من رفاقي وأصدقائي، قادة سياسيين، وباحثين أكاديميين، ونشطاء مدنيين، في ما يتعلق ببلورة وتدقيق أفكاري وتحليلاتي بشأن الحراك الشعبي، وقد شهدت ساحة التحرير ببغداد أصواتنا، وهي تعلو هاتفة مع المحتجين من أجل الاصلاح والدولة المدنية في هذا التمرين الكفاحي البليغ.

***

نحن المتطلعين الى الضفاف .. الناظرين الى النجوم .. نرفع راياتنا عائدين الى الينابيع .. ينبغي لنا أن نحلم ..

قبل ما يقرب من قرن ونصف اقتحم محتجو باريس سماءها التي اشتعلت بهتافات حفّاري قبر الرأسمالية .. واليوم يعيد التاريخ نفسه، في بغداد، وفي سائر مدن بلاد الرافدين، حيث تقتحم نساء ثائرات ورجال جسورون سماء العراق، محوّلين السخط الى احتجاج .. وأمل ..

هبّوا ضحايا الاضطهاد ... !

  كتب بتأريخ :  الخميس 28-01-2016     عدد القراء :  2889       عدد التعليقات : 0