الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الفكر الطائفي والتطرف الديني

الطائفية الدينية التي نواجهها اليوم في وطننا العراق تُعبر عن الانتساب الديني الموَجَه، حيث تتبلور عندها وتتطور معها دوماً وحسب الظرف فكرة الإلغاء لكل من يخرج عن نطاق المحور الذي تدور حوله، إنساناً كان ذلك أو فكراً أو ممارسةً. وأصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة تقريباً المُتبعة في هذا الإلغاء الذي يستند على وضع الآخرين في مواقع الضلال التي تُجيز توظيف هذا العنف. وعلى هذا ألأساس أيضاً يتجه الفكر الطائفي وممارساته اليومية لخلق أديان متعددة ضمن الدين الواحد. وهنا تكمن صعوبة التمييز بين هذين العاملين ( التعصب الديني والتطرف المذهبي) المؤثِرَين في القناعة الدينية لدى الكثير من بسطاء الناس الذين ينجرّون نحو الاستقطاب الطائفي ظناً منهم بأن ذلك هو الدين بعينه. وما يسميه البعض شعائر دينية من جلد الذات وشق الرؤوس وغرز الخناجر في البطون والزحف على الوجه وغيرها الكثير من الممارسات الأخرى، ما هو إلا دليل على الخلط بين ما هو ديني وما هو ممارسة تراثية نقلتها وتناقلتها الشعوب المختلفة التي دخلت الإسلام. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نميز بين مجموعتين من الناس الذين يتبنون الفكر الطائفي : المجموعة الأولى التي تضع نفسها في موضع قيادة هذا التوجه وتجعل من الارتباط بالدين وسيلتها التي لا تخلو من العنف للوصول إلى أهداف مخطط لها مسبقاً تعمل على الكسب السياسي والانتفاع الاقتصادي وتبوء المركز الاجتماعي من هذا المنطلق الذي غالباً ما يتم تسويقه إلى البسطاء من الناس على أنه الدين نفسه. أي أنها المجموعة التي تعلم كيف تستغل الدين لبلورة خطاب ديني يؤدي إلى تحقيق ما تريد تحقيقه وبكل الوسائل المتاحة التي يشكل العنف أساسها. أما المجموعة الثانية فهي المجموعة المُنقادة، من دون وعي غالباً، إلى المجموعة الأولى والتي تمثل دور المتلقي والمنفذ، إذ انها تتلقى ما تُشرعِنه المجموعة القائدة وتعمل به من دون أي نقاش لأنها لا تملك مقومات ووسائل النقاش. ولكن كيف يتم ذلك....؟

لمعرفة أسباب هذا الانقياد المصحوب بالخوف أحياناً ينبغي تقصي المصادر التي تقود إلى ذلك. ومن وجهة نظري أرى اننا، كحَمَلة فكر تنويري، ان نجعل مصادر حُجَتِنا لنقد الخطاب الديني هي نفس مصادر ذلك الخطاب ايضاً وليس مصادرنا الفكرية فقط. اي اننا يجب ان نواجه الخطاب الديني بثقافته التي يتبناها والتي هي احادية الجانب على الأغلب الأعم، إذ انه سوف لن يعترف بحججنا الفكرية ما لم نربطها بقاعدته الفكرية والثقافية. لذلك فإن الإطلاع على النص الديني والتراث الديني وكل ما رافقه من ممارسات سوف لن يزيدنا إلا ثباتاً على الأرض التي نتحرك عليها لمواجهة الخطاب الديني المتطرف والانحياز الطائفي البغيض.

ما من شك ان الجهل بالحقائق يوفر المجال الكافي للبعض للخروج على الملأ بأفكار لها فعل السحر خاصة إذا ما تعلق الأمر بالدين، والخطاب الديني الإسلامي يحوي منها الكثير. إلا أن المهم في مثل هذا الأمر يتبلور من خلال التربية الدينية التي يُخطِط لها حَمَلة الفكر الطائفي لكي تكون الأساس الذي يبنون عليه صرح طائفيتهم وتوجهاتهم لإلغاء الآخر.

هنا يدور الحديث حول السؤال عن الطرق والوسائل التي يمكن بواسطتها مواجهة مثل هذا التثقيف العدائي للآخرين متخذاً من الدين وسيلة لذلك من خلال السلوك الطائفي الساعي إلى إلغاء الآخر. وفيما يتعلق بالفكر الذي نتبناه لمواجهة الفكر الديني المتطرف والذي يشكل مادة الخطاب الديني، فهنا ينبغي التوضيح والتأكيد على رفض واستنكار ما يطرحه الخطاب الديني من عدم الفرز بينه وبين التعاليم التي ينص عليها الدين، معتبِراً نقد الخطاب الديني نقداً للتعاليم الدينية بذاتها، وهذا ما نرفضه بشدة ونرده على قائليه.

الخطاب الديني الذي يتناوله خطابنا النقدي للممارسات الطائفية والتعصب الديني بخطاب تحريضي عنفي معادي، ينبغي ان يواجَه بخطاب ثقافي ينطلق من معطيات الظروف التي يمر بها وطننا الذي ينبغي ان تسهم الثقافة وحَملَتُها فيه، وليس العنف، بغية وضع الأسس الكفيلة للنهوض به وبأهله الذين طال انتظارهم.

إذا اعتبرنا الثقافة على أنها مجموع ما يتمخض عنه الفكر الإنساني في مجالات العلوم والفنون على اختلافها، والتواصل الذي يتم من خلال ذلك عبر الأجيال، فإننا والحالة هذه نقف امام التفتيش عن الإجابة عن السؤال القائل : هل توجد هذه الثقافة اليوم في العراق بحيث تستطيع ان تحاكي الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي السائد على ارض الوطن وتتفاعل معه وتتبنى وتنشر الفكر الذي يجعل وطننا على ذلك المستوى من التقدم والرفاه الاجتماعي الذي نستطيع معه مواكبة الركب العالمي؟ اي بعبارة أخرى هل أننا نستطيع ان نرى اليوم بوضوح تأثير اللوحة الفنية او النحت أو القصيدة الواعية او الفكر الفلسفي المتنور او النتاج العلمي او المسرحية الرائدة على مجريات الحياة اليومية في وطننا؟ نعم...هناك نتاجات ونشاطات جديرة بالتقدير والدعم والمساندة على كافة هذه الأصعدة، إلا انها ما زالت تناضل نضالاً صعباً وعسيراً لتتبوء المركز اللائق بها بين الثقافات الأخرى المضادة التي تعج بها الساحة العراقية اليوم.

حين يجري الحديث عن الشأن العراقي سواءً في هذا المجال الذي نتناوله اليوم والمتعلق بالموقف من الفكر النقدي للخطاب الديني وما يتمخض عنه من ممارسات طائفية وتعصبية، أو في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المرتبطة جميعاً بعضها بالبعض، يجري دائماً طرح السؤال الذي أصبح ملازماً لهذه الأحاديث وهو: ما العمل؟ وهنا لابد لنا من طرح بعض الأفكار على شكل هوامش سريعة قد تساعدنا على الإجابة عن هذا السؤال.

• إن إسترداد او تفعيل أهمية الثقافة في المجتمع ومن ثم بروز المثقف الواعي يستدعي اولاً وقبل كل شيء نشر الوعي التعليمي والمعرفي الهادف إلى النهوض بالمجتمع والسير به إلى التلاحم مع الثقافة البشرية التي فرضتها ظروف الحياة الجديدة بكل شيء.

• لا يمكن هضم وممارسة هذه الثقافة وفهم دور المثقف إذا لم تتوفر الضمانات التي تسمح برعاية وحماية المُنتِج والمتلقي لهذه الثقافة على السواء، إذ ما فائدة الثقافة التي لا تجد صدى لها في المجتمع إما بسبب الخوف أو الانهماك بالسعي وراء الحصول على متطلبات الحياة اليومية.

• إذاً ممارسة هذا النوع من الثقافة وجعلها جزءا من الغذاء اليومي لكل فرد في المجتمع سيشكل القاعدة التي يمكن بناء الفكر الواعي الحديث عليها، الفكر الذي يرفض التطرف ويعيش مع الآخر من منطلق الحوار والقناعة والالتزام ، ومثل هذا المحيط يمكن أن يتوفر بشكل جيد من خلال تبني النهج العلماني الديمقراطي في بناء الدولة الحديثة.

• الخطاب الديني الفاشل سوف لا يرضى بالموقع الذي يصل إليه بعد انتشار الوعي المعرفي الذي سيحوله إلى خطاب هامشي، بعكس الخطاب الديني الهادف الذي لا يجد صعوبة البتة في التعامل مع المنهج العلمي الذي يستند بوجوده واستمرار يته على احترام وحماية الدين، كل دين. وذلك احد المقومات الأساسية للدولة العلمانية. لذلك لابد لنا من بلورة موقف ايجابي من الخطاب الديني الهادف، من دون ان يمس ذلك بمقوماتنا الفكرية.

• ولتوجيه التصدي الناجح للخطاب الديني المشوش لابد من التصدي لأهم أطروحات هذا الخطاب المتعلقة بالدين والدولة وطبيعة العلاقة الجدلية بينهما وضرورة تنظيم هذه العلاقة على اسس علمية حديثة يمكنها محاكاة التطور الذي تمر به البشرية جمعاء.

• التصدي لمفردات الخطاب الديني المشوش اليومية والمتعلقة بالحياة العامة، وليس بالممارسات الدينية فقط. فلا يمكن السكوت مثلاً عن تحريم الخطاب الديني الانتفاع من التطور التقني والعلمي والاجتماعي الذي وصلت إليه الحضارة الإنسانية اليوم في كافة مجالات الحياة. فعلى سبيل المثال تسعى الإنسانية اليوم إلى تحقيق المساواة التامة بين البشر بغض النظر عن الجنس واللون والقومية. هذه المبادئ أصبحت من بديهيات الحياة اليومية في عالم اليوم بالرغم من كل الخروق التي تتعرض لها هذه المبادئ الإنسانية. وحينما يدعو الفكر التنويري مثلاً إلى تطبيق هذا المبدأ الإنساني فإنه يستطيع، في هذه الحالة، ان يواجه التعصب الديني الرافض، بنفس منطقه الديني الداعي إلى جعل الناس شعوباً وقبائل تتعرف على بعضها البعض، كما جاء في النص القرآني.

• تفعيل دور المتلقي نفسه لمواجهة الخطاب الديني الطائفي المشوش وعدم ترك ذلك للنخبة. وهذا يتطلب ما ذكرناه آنفاً من التأكيد على نشر الوعي المعرفي الهادف بين أفراد المجتمع وعدم تركهم فريسة لتضليل المُضَللين.

• من خلال تفعيل كل ذلك أعلاه على الواقع العملي لابد من التعامل مع الخطاب الديني الواعي كبديل عن الخطاب الديني المُضَلِل، وهو موجود فعلاً. إن ذلك يعني وجوب احترام الشعور الديني لدى المؤمنين حقاً وتوفير كل ما من شأنه تمتعهم بالحرية التامة لعكس هذا الإيمان على حياتهم الخاصة، وذلك لن يتم من دون التوجيه الديني الهادف الذي يصب في صلب التعاليم الدينية التي جعلت من أهدافها الانتقال من الأسوأ إلى الأحسن، لا كما يفسرها الخطاب الديني المشوش والتي جعلها سلاسل تعيق المجتمع عن أي تحرك جديد ليظل يراوح على أفكار ومفاهيم القرون الأولى من عمر البشرية فتمنعه بذلك عن اللحاق بالركب البشري الذي يواصل المسيرة من دون الالتفات إلى المتخلفين عنه.

• لا يمكن تحقيق ذلك كله من دون وجود دولة قادرة على رعاية هذا التوجه ومؤهلة لمواصلة مسيرة الفكر الإنساني المتجدد، لا مجال فيها للمتقاعسين والطفيليين والمتطرفين واللصوص. دولة تعمل بجد وحق على إعلاء شأن الوطن أولاً وآخراً وتحقيق سعادة أهله بتوفير أجواء حياة القرن الحادي والعشرين لهم في الوقت الحاضر. من هنا نستطيع ان نتحرى العلاقة الجدلية بين السلطة السياسية وبين الثقافة ودور الثقافة والمثقف في المجتمع. وطالما يتعلق الأمر بموقف المثقف العراقي والدور الذي ينبغي له ان يلعبه في بناء أسس هذه الدولة، فإن واجبه الأساسي هنا يتمحور في تثبيت أسس الدولة المؤهلة للقيام بذلك، وهذه الدولة لا يمكن أن تكون إلا علمانية ديمقراطية.

وهنا قد يصطدم الوعي الثقافي العلماني بسعي الخطاب الديني الطائفي المشوش ليربط أي دعوة للعَلمانية وأفكارها بالإلحاد والردة والخروج عن الدين وبكل المصطلحات الأخرى التي يحاول فيها تهميش هذا الفكر وخلق الكراهية ضده والاشمئزاز منه ومن خلال الأكاذيب التي ينشرها عن الفكر العَلماني الذي يمثل فكراً فلسفياً يدعو أساساً إلى احترام الدين كقناعة فردية. لذلك فإن نقد الخطاب الديني الذي طالما ينشره الطائفيون والمتعصبون هؤلاء والذي يصور العلمانية ويفسرها كخروج عن الدين والتنكر له، يجب ان تُخصص له دراسة منفردة تبحث في حيثياته واسسه العلمية التي يستند إليها.

إن المنطلق الأساسي الذي ينبغي للفكر النقدي التنويري الذي نمارسه في مواجهة الخطاب الديني الطائفي والمتطرف هو التأكيد على ظاهرة الدين على انها ظاهرة اجتماعية لا يمكن نكرانها او تجاهلها في مجتمعنا. وبما ان الفكر الديني هو جزء من الثقافة التي يتبناها المجتمع فإنه والحالة هذه لا يمكن أن يكون إلا متنوعاً بتنوع المجتمع ومكوناته وثقافاته.

تُشير بعض المدارس الإسلامية، كالحنفية مثلاً، والتي سُميت بعدئذ بمدرسة العقل لا النقل، إلى توظيف العقل في اي تصرف او قرار أو فتوى دينية، حيث ان ذلك من مقتضيات الإرادة والاختيار الحر الذي أكدت عليه الكثير من الآيات القرآنية. فتوظيف العقل للعمل من اجل الوصول إلى حرية الاختيار هي سمة يجب ان تلازم الإنسان في حياته بشكل عام وليس في ممارساته الدينية فقط. ونظراً لاختلاف الأمم والشعوب في درجة استيعابها المعرفي وإمكانيات هذا التوظيف للعقل، لذلك فلابد من وجود الاختلاف في المستويات وما ينتج عن ذلك من اختلاف في القناعات وفي التصرفات المترتبة على هذه القناعات. وحينما نعكس ذلك على العامل الديني فسنراه بأنه لا يختلف عن العوامل الأخرى. لقد أكدت على ذلك كثير من التعاليم الإسلامية باعتبار الاختلاف هو إرادة إلهية، حيث جاء النص القرآني قائلاً " ولو شاء ربُك لآمن مَن في الأرض كلُهم جميعاً أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين " (يونس 99) أو " إنا جعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا " ( الحجرات 13).

هذا يعني أن الإرادة الإلهية التي يعترف بها المؤمنون، قررت ان يختلف الناس في تبنيهم لأية فكرة دينية، بل وجرى التأكيد على هذا الاختلاف بأن حذر الله في القرآن حامل رسالته النبي محمد من إجباره الآخرين على اتخاذ موقف إيماني معين، بل يترك لهم الخيار " فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر " (الكهف29 )

ولم يتعامل النص القرآني مع الاختلاف في الدين فقط، بل تناول التباين والاختلاف بشكل عام وجعله إرادة إلهية ترافق وجود الإنسان أينما كان هذا الوجود. وقد عبر النص القرآني عن ذلك من خلال : " ومن آياته خلقُ السمواتِ والأرضِ واختلافُ السنَتِكُم والوانِكُم وإن في ذلك لآيات للعالِمين " (الروم 22 )

فحينما يكون هذا الاختلاف من آيات الله إلى البشر، أي من إرادته التي ينبغي للبشر العالِمين بها أن يفهموها ويفقهوها، فإن هذا يعني أن المؤمن بهذه الآيات عليه ان لا يتصرف بخلاف هذه الإرادة الإلهية وان يحترم التغيير ولا يعمل على تغيير ما أراده الله بالقوة وذلك من خلال إجبار الآخرين على تبني دين معين أو سيطرة لسان معين، هذا إذا ما فهمنا تحت مصطلح اللسان ما نعنيه اليوم بالقومية بشكل عام، أو خضوع مجموعة من البشر بسبب لون البشرة إلى مجموعة أخرى. إن كل ذلك يُعد حسب التعاليم القرآنية اعلاه مخالفاً للإرادة الإلهية ويسير بالإتجاه المعاكس للمشيئة الإلهية التي يؤمن بها المتدين المنحاز، وبالتالي يعتبر خروجاً عن التعاليم الدينية والإبتعاد عن دين السماء الذي يتبناه هذا المتدين.

إن كل ذلك يشير إلى وجود حقيقة ثابتة لا يمكن تغييرها ألا وهي حقيقة ووجوب التعددية في الحياة المقترنة بحرية الموقف : " قل كلٌ يعمل على شاكلته فربُكم أعلمُ بمن هو أهدى سبيلا " الإسراء84 أو " لكلٍ جعلنا شِرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " (المائدة 48 )

إن كل ذلك يؤكد على وجوب الاعتراف دينياً بوجود الآخر واحترام هذا الوجود وعدم جواز التوجه لتغييره بالإكراه، بل محاولة الدخول معه بالحوار والنقاش بالتي هي أحسن لا بالعنف والسلاح والقتل والتهديد، وذلك بغض النظر عن تقييمنا السلبي أو ألإيجابي لهذا الآخر، وهذا هو جوهر وأساس الفكر الديمقراطي العلماني والدولة المنبثقة عنه في العصر الحديث.

من الطبيعي أن يكون هناك من المتعصبين دينياً او طائفياً مَن يرفض الفكر التنويري المؤمن بالتعددية. وكثيراً ما يستند هذا الرفض لدى ما نسميه اليوم بالحركات والتوجهات الدينية السلفية إلى بعض المعطيات الفقهية واهمها في هذا المجال يتمحور حول نظرية الناسخ والمنسوخ، حيث يلغي المؤمنون بالنسخ كل ما له علاقة بالتعددية او حرية الإختيار بحجة نسخ هذه النصوص بنصوص اخرى غيرها. إن هذا الموضوع هو موضوع خلاف جذري بين فقهاء المسلمين انفسهم. فمنهم من يعترف بوجود النسخ باشكاله المختلفة( نسخ النص، نسخ الفعل...الخ، *) ومنهم لا يعترف بوجود النسخ اصلاً(**). هذا بالإضافة الى ما يكتبه الآخرون من المؤيدين للنسخ والمعارضين له، ولا بأس في اهتمامنا بهذا الموضوع كجزء من ثقافتنا في مواجهة الخطاب الديني بكل توجهاته.

كيف يمكننا التعامل مع هذا الواقع؟

إن البرامج التعليمية المدروسة بشكل علمي حديث والمعمول بها في كافة المراحل التربوية والدراسية يمكن أن تكون المدخل الأساسي لحل هذه الأزمة. من الطبيعي ان هذه المهمة صعبة جداً ولا يمكن تحقيقها في فترة زمنية قصيرة وبالتالي فلا يمكننا إنتظار الحلول السريعة لمثل هذا التعقيد الذي نراه اليوم في مختلف مفاصل مجتمعنا. كما أن درجة تطور المجتمع تلعب دورا أساسياً في تقبل العملية التعليمية الجديدة التي تُهيئ لهذا التطور. وهكذا نرى مدى الترابط بين الإثنين بحيث لا يمكننا الإهتمام بجانب دون الآخر إلا أن البدء بالتعليم المُبَرمَج برمَجة علمية سواء من خلال المناهج الدراسية أو التربية العائلية أو ضمن المؤسسات الدينية سيكون المدخل الجيد لمعالجة هذه الأزمة.

التعليم يجب أن يتم بشكل يضمن وصول الفكر النقدي إلى المتلقي. التعليم الذي نسعى إليه يجب أن يكون تعليماً نقدياً، وهذا لا يتم إلا من خلال وضع الفلسفة كمادة اساسية في كافة المراحل الدراسية. إن هذا النوع من التعليم سيقود بالضرورة إلى سلوك المنهج التحليلي باكتساب العلم والمعرفة، المنهج التحليلي الذي يتلقى العلم من خلال كيف....ولماذا.... ومتى... وكثير من كلمات الإستفهام الأخرى، وليس من خلال التلقين. هذا النوع من إكتساب العلم يثير لدى المتلقي سلوك منهج المقارنة، هذا المنهج الذي سينجم عنه طرح عدة حقائق، لا حقيقة واحدة، كمواد للمقارنة. إن سلوك منهج المقارنة هذا يؤدي بالضرورة إلى التعامل مع الحقائق المتعددة المطروحة للنقاش، وهذا يعني اللجوء إلى المحاورة مع متلقي هذه الحقائق (الفرضيات) المختلفة وبالتالي قبول الآخر والتعامل معه. أي:

التعليم النقدي من خلال الفلسفة < يؤدي إلى سلوك المنهج التحليلي من خلال كيف و لماذا ــــــــــــــــ<هذه الأسئلة تؤدي إلى التعامل مع فرضيات عديدة ـــــــــــــــ< سلوك منهج المقارنة بين هذه الفرضيات ـــــــــــــــــ< عدم وجود فرضية أو حقيقة واحدة ـــــــــــ<التعامل مع هذه الحقائق أو الفرضيات من خلال التعامل مع متلقيها ــــــــــــ< القبول بالآخر والتعامل معه.

وعلى هذا الأساس فإنني ارى ان الواجب الوطني يدعونا جميعاً إلى طرح مسألة إعادة النظر في المناهج التعليمية في كافة مراحلها موضع التفعيل العملي. ووضع برامج جديدة تنسجم وما نصبو إليه من تقدم وما نسعى إليه من حضارة في هذا الوقت الذي تتزاحم فيه الأمم على تحقيق اكثر ما يمكن تحقيقه من وسائل العيش الرغيد في عالم يسوده السلام وتنتشر فيه المحبة بين الشعوب على إختلافها.

إن تحقيق هذا المستوى من التعليم في كافة المراحل الدراسية التي يمر بها الفرد في مجتمعنا ستفتح أمام متلقي هذا التعليم آفاقاً واسعة يستطيع من خلالها تدَبُر حركة التاريخ الذي يعيشه مع الآخرين وسيساعده على التعامل مع واقعه هذا بما يحقق السعادة والخير له وللآخرين. إن أحد هذه الآفاق سيكون بالتأكيد مناقشة العلاقة بين مؤسستي الدين والدولة، ما لكلٍ من هذه المؤسسات وما عليها. أي أنه سيتعامل مع حدّي المعادلة الأنفة الذكر وسيصل في المستوى الفكري الذي سيتوصل إليه من خلال التعليم النقدي، إلى حل رموز هذه المعادلة والتغلب على كل ما من شأنه إعاقة التطور الإجتماعي والتقدم العلمي في وطننا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن: تأليف الإمام ابي جعفر احمد بن محمد، الناشر مطبعة الأنوار المحمدية بالقاهرة

(**) كتاب لا نسخ في القرآن... لماذا...؟: تأليف عبد المتعال الجبري، الناشر مكتبة وهبة بالقاهرة.

«مقتطفات»

  كتب بتأريخ :  السبت 06-02-2016     عدد القراء :  3594       عدد التعليقات : 0