الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
السيّد السيستاني يتصالح مع نفسه ويزيح التناقض عن نهجه..

من حالفَهُ الحظّ من السياسيين والتقى المرجع الأعلى السيّد السيستاني ونجله، سيبقى في ذاكرته بعضٌ مما سمعه ولفت نظره من مُداخَلته، وهو يتحدث أو يجيب على تساؤلات ضيوفه. كما سيتذكر أن المرجع قد اعتمد موقفاً مميزاً بالامتناع عن لقاء السياسيين، الحكام منهم بوجه خاص، ربما لم يسبقه إليه أحد من قبل، حين اشتدت المعارضة في مواجهة تدهور الأوضاع على كل صعيد في الولاية الثانية للسيد المالكي، تعبيراً عن احتجاجٍ ضمني، ودعوة للتغيير.

وإذا تجاوزنا المرحلة التأسيسية بعد إزاحة النظام السابق، والعمل على تحديد وجهة بناء الدولة والنظام السياسي الجديد، بما يتطلبه من صياغة دستورٍ ومرحلة انتقالية وتمهيدٍ للاستفتاء على الدستور وإجراء أول انتخابات تشريعية، فإن مداخلات السيّد السيستاني مع ضيوفه كانت تنتهي بالتأكيد على أنه، بدافع من الواجب، يكتفي بـ " نُصح" من يزوره من كبار المسؤولين،نائياً بنفسه عن التدخل في شأن الحكومة وتصاريف الدولة، بعد أن صار للعراق دستور وبرلمان منتخب وحكومة.

وأذكر أنني سمعت هذا بوضوح من السيّد في آخر لقاء لي مع سماحته، وبشيءٍ من التفصيل من نجله أبي الحسن، فرَدّاً على ما يواجه البلاد من أخطار محدقة بوحدتها الوطنية وما يجابهها من فسادٍ مستشرٍ ونهجٍ سياسيٍّ مغامر، مما يتطلب تغييراً لا يقبل التأجيل، اكتفى بالقول: إنّ من واجبي توجيه النصح فقط، وما عدا ذلك فهو واجبٌ عليكم، تعتمدون فيه على الدستور والبرلمان والوسائل الديمقراطية المتاحة لكم.

ولم يخلُ حديثه من قَدْرٍ من الأسف لما تعرضت له المرجعية من انعكاساتٍ سلبية بين بعض الناس، بسبب سعيها للإسهام في تأطير العملية السياسية وتقويمها، في المرحلة التأسيسية التي تميّزت بالفراغ الدستوري، ومخاطر تهدّد بالفوضى والتفكك السياسي. وما كان يهمني من موقفٍ واضحٍ من السيد السيستاني معرفة ما إذا كان حريصاً على مواصلة نهج الفصل بين وظيفة المرجعية "الديني" والشأن السياسي. وهذا الاهتمام من جانبي ارتبط بالإمكانية المتاحة، وسط تصاعد الدعوات من قوى وتنظيمات الإسلام السياسي بتحويل " العراق الجديد" إلى دولة "دينية" وبما إذا ستجد هذه القوى والتنظيمات في المرجعية حاضنة لها في نزوعها هذا. ولم تكن الخشية في تسيّد هذه الدعوات ومن يقوم بتسويقها قاصرة على ما يعنيه ذلك من خطرٍ على مستقبل البلاد "متعددة الاديان والمذاهب والمكونات والقوميات والانتماءات الفكرية" فحسب، بل لعواقبها الكارثية المباشرة في إشعال وتغذية صراعٍ مذهبي دموي. ومع أن ذلك قد حدث وأدى الى ما أدى إليه من فتنة راح ضحيتها الآلاف من أبناء الوطن، فإن حكمة السيد السيستاني شخصياً، ووقوفه بوضوحٍ ضد الاستعلاء المذهبي والفتنة التي تسببها ورفضه انفراد الشيعة والكرد بإقرار الدستور أو عزل المكون السني في الانتخابات التشريعية أو الانفراد في بناء العملية السياسية، كان له الأثر الإيجابي في ضمان عدم الانحدار إلى حرب أهلية مكشوفة، والحيلولة دون القيام بعملياتٍ انتقاميةٍ مبررة "مذهبياً" كما كان يريد البعض من دعاة النبذ الطائفي المقيت.

كانت خطب الجمعة التي عُرفت بأنها تعبّر عن وجهة نظر السيد السيستاني ومُصاغة في مكتبه واطّلاعه على مضامينها العامة، موضع ارتياحٍ واسعٍ في الاوساط السياسية المشاركة في الحكومة والعملية السياسية أو خارجها. والأهمّ من ذلك أنها وجدت صدىً إيجابياً واعتبرت "بلسماً" بين المواطنين العراقيين الذين ازداد شعورهم بالعزلة والضيم والمزغبة من النظام السائد والحكام الذين جاء بهم بأصواته الى السلطة. ولم يكن هذا الشعور بمعزلٍ عن تقديرهم بأن انحيازهم للزعامات السياسية المتنفذه في السلطة، ارتبط، حسب فهمهم للأمور والتوجيهات، بموقف المرجعية منذ إعلان دعمها للقائمة " ٥٥٥ " المعروفة.

وساد الشعور في الاوساط السياسية والشعبية، أن المواقف الصريحة التي كانت ترد في خطب الجمعة هي الملاذ الأخير لخلاصها من طغمة جائرة حاكمة عاثت فساداً ونهباً وتجاوزاً على المحرّمات، وأدى نهجها المغامر الطائش الى تفكيك ما تبقى من شبه الدولة، وتمكين عصابة تكفيرية إرهابية معزولة مثل داعش من السيطرة على ثلث مساحة العراق، وإفراغ خزينة الدولة، وتعطيل الآليات الضعيفة أصلاً للديمقراطية التوافقية.

واكتسبت خطب الجمعة، بما أعلنته من انحيازٍ صريحٍ للدولة المدنية، زخماً غير معهودٍ جرى التعبير عنه في حركات الاحتجاج والمظاهرات الشعبية التي انطلقت في مختلف محافظات البلاد. وزاد من هذا الزخم فضح ظاهرة الفساد والنهب والاتهام الصريح للطغمة الحاكمة بالتورط في ذلك وفي ما يواجه العراق من تهديدٍ وتدهور وفوضى.

وإذا كان هذا هو الجانب الإيجابي لخطب الجمعة وتوجيهات المرجعية من خلالها، فلابد ان السيد السيستاني ومكتبه قد لاحظا جانباً آخر فيها تمثّل في احتمال انعكاس ذلك على مكانته وحضوره وهيبته بين جمهرة المريدين والمؤمنين، خصوصاً بعد أن اتسعت الفجوة بين الدعوات للإصلاح والتغيير، والرخاوة في التعامل مع حواملها، وضعف التجاوب مع ما ينبغي التأكيد عليه من تدابير إصلاحية أساسية تمسّ جوهر العملية السياسية، بعد أن صارت عبئاً وعائقاً أمام تغيير جذري يقود الى اجتثاث أسباب الفساد وإقصاء الفاسدين الذين يشكّلون الطغمة المهيمنة على الشأن السياسي في البلاد.

وهذا التناقض، لا ينعكس على مآل الأوضاع المتفسّخة الراهنة، وهو مهم دون شك، لكن من شأنه، وهذا أمر خطيرٌ من وجهة دينية، إضعاف مكانة المرجعية في المجتمع ودورها التوجيهي الناصح.

ويظلّ بعد هذا أمر بالغ الأهمية الاستثنائية، وهو مفهوم هذا الدور وموقعه في الحياة العامة، وفي الشأن السياسي بوجه أخص. فالأنظار باتت تتوجّه كل أسبوع الى توجيهات المرجعية وخطبة الجمعة وما يرد فيها من آراء ومقترحاتٍ ودعوة لاتخاذ تدابير سياسية وخدمية، حتى باتت الخطب تتضمن تفاصيل لها علاقة بكل شأنٍ من شؤون الدولة الداخلية والخارجية، مما وضع المرجعية بشكل مباشر، دون إرادتها، في إطار "الحاكمية" أو " الحكومة الخفيّة". وهنا برز تناقضٌ بين نهج المرجعية الرافض لولاية الفقيه وممارسة عملية لوظيفتها، وهذا ما أكدت على أنها تنأى بنفسها عنه.

لكنني سأذهب أبعد من ذلك في قراءة افتراضية لخلفية تراجع المرجعية عن اعتماد خطبها الأسبوعية " السياسية"، مع إدراكها أنها ليست في وارد التحول الى ولاية سياسية. وأكاد أتحسس مواقع الحرج في موقفها من " احتمال" و"إمكانية" تكريس هذه الممارسة، وإيجاد تكييفٍ قانوني لها في المستقبل كـ "أبويّة سياسيّة " اعتماداً على هذه السابقة في خطب الجمعة، خاصة أنّ قوى لا يستهان بها لا تخفي وجهتها في تهيئة بيئة شرعيّة لإقامة دولة دينية.

وبغض النظر عما إذا كان هذا المفهوم والتحفظ في أساس التوقف عن خطب الجمعة السياسية، فإن القرار بحدّ ذاته يُحسب لصالح المرجعية وفطنتها وانتباهتها، بما يوحي به من رفض التدخّل في السياسة، أو تراجعٍ عن نهجها في الانحياز إلى بناء الدولة المدنية الديمقراطية.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 09-02-2016     عدد القراء :  3432       عدد التعليقات : 0