الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
تحوّل البنوك إلى قطّاعٍ طفيلي وبيئة فساد

قد ينتفض المجتمع إذا فوجئ بمُمرّضٍ ينتحل صفة طبيبٍ، وسيُصعق إذا اكتشف أنّ هذا المنتحل النصّاب يمارس جراحة القلب. ولن تكون الصدمة أقلّ وقعاً إذا واجه آذِناً في قصر العدل يرتدي معطف محامٍ أو بذلة قاضٍ ويجلس إلى يمين رئيس المحكمة. في كل ميدان موصوف، يضع المُشرّع شروطاً ومؤهلاتٍ من شأنها حماية "المهنة " من التطفل ويحول دون تسلل المنتحلين، ليدرأ الخطر عن المجتمع أياً كانت درجة هذا الخطر.

لكنّ قطاع المصارف، لغياب محدداتٍ "مهنية " تمنع التسلل إلى هذا الميدان الحيوى الذي تُشكله ، ليحِدّ من الأخطار الوخيمة والفادحة التي قد يتعرض له الاقتصاد الوطني ومصالح المواطنين، إذا ما وجد البعض من الطارئين الطريق إلى مواقع القرار والهيمنة على هذا القطاع الستراتيجي الذي يشكل عصب الحياة في كل مجتمعٍ ودولة.

قانون المصارف الذي ينظم عمل البنوك الأهلية والحكومية يتضمن شروط تعيين أعضاء مجالس الإدارة والمدراء المفوضين، ومنها توفر الخبرة في العمل المصرفي والمالي والاقتصادي والتجاري لأغلب الأعضاء، لكنه يهمل أو يتغاضى عن توصيف الأعضاء المؤسسين للمصرف، إذ يكتفي بأن يتقدم لتأسيس بنكٍ أو مصرفٍ مَن في حوزته رأس المال المطلوب في دفتر شروط التأسيس، ومتطلباتٍ أخرى لا علاقة لها بالأهلية المهنية للمالك أو بالتوصيف الاختصاصي. وبغضّ النظر عن سلامة ما يتضمنه القانون، فإن ضعف الرقابة والتطبيق لبنوده، جعل من الممكن أن يتولى رئاسة مجالس الإدارة في المصارف أو الإشراف الفعلي عليها، أشخاص طارئون على العمل المالي والمصرفي . ويبدو أن القانون لا يشترط السيرة الشخصية أو الخلفية التي تؤهل المالك ليكون صاحب مؤسسة مالية قد تتسبب في إلحاق الأذى بالاقتصاد الوطني ومصالح المواطنين. ومثل هذه السيرة المطلوبة لابد أن تَعْرِض لتطور الخبرة للمتقدم في ميدان العمل المصرفي أو الاقتصادي أو المالي .! وأكاد أجزم أن الشروط لا تتضمن شهادة عليا في الاقتصاد وإدارة العمل المصرفي، وقد لا تشترط أن يعرف القراءة أو الكتابة، والشروط كما يبدو من حال المصارف ليست معنية بتدقيق أصول ومصادر أموال صاحب الطلب .

إن مسوغات القانون والتعليمات المعتمدة عليه، ليست معنية بذلك ، ولا ترى أنّ من اختصاصها التوقف عند تفاصيلٍ رقابية، تجاهلها يؤدي إلى نتائج وخيمة، كما تؤكد فضائح واقع القطاع المصرفي وتحوله إلى بؤرة فسادٍ وتخريبٍ للاقتصاد الوطني. وهذا التجاهل أدى الى امتلاك قبضة من أصحاب أموالٍ مجهولة الهوية، بلا خلفية مهنية لها علاقة بأي نشاطٍ اقتصادي باستثناء نشاط طفيليٍ هامشي، سلطة القرار والعبث بحركة الأموال والتحكم بوجهتها والقدرة على التلاعب بالأسعار وتدفق البضائع.

لم يكن يعني المشرّع، بعد سقوط النظام السابق، إلا التحول مما كان يُسمى بالاقتصاد الاشتراكي إلى الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق، وإطلاق حرية تداول العملات والبضائع، وعدم جواز سيطرة الدولة على التحويل الخارجي .

ومن هذا المفهوم جرى استحداث نافذة بيع الدولار إلى المصارف والبنوك الأهلية وشركات الصيرفة في البنك المركزي. وقد يكون هذا شرطاً ملزماً من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

المبرر المساق لاستمرار مزاد العملة هو تأمين الدينار من السوق لتغطية نفقات الدولة، وتغطية استيراد البضائع والمستلزمات الحكومية والحفاظ على سعر الدينار. ومن المزاد يحقق البنك المركزي وارداً ربحياً يعزز به الاحتياطي الستراتيجي. واللافت أن عمليات البيع للمصارف كانت تتم عبر التحقق التلفوني من وجود رصيدٍ كافٍ للزبون المشترك في المزاد يغطي ما يشتريه من دولار .! وكذلك عبر المقاصة البنكية التي تكشف الوثائق أنها انطوت على أكبر عمليات نهبٍ وتهريبٍ واحتيال.

ويورد المتمسكون باستمرار مزاد البنك المركزي "نافذة البيع بلا مزاد "! أن استمراره هو الضمانة للحصول على الدينار العراقي من الأسواق، والحفاظ على قيمة الدينار ومنع انفلات أسعار البضائع والتلاعب بأسعار صرف العملة على هوى المتنفذين في السوق.

إنّ تبرير المزاد، باعتباره أداة تحرير السوق والعملة من هيمنة الدولة، لا يجد له سنداً قوياً، إذا ما عدنا إلى أنظمة ليبرالية شديدة الكراهية لما يسمى بالاقتصاد الاشتراكي. ولنأخذ مثالاً على ذلك لبنان الليبرالي، والسياسة التي ينتهجها مصرف لبنان الذي استطاع بإدارة محافظه حماية الليرة اللبنانية والإبقاء على معادلٍ للصرف لم يتأثر أو يتغير منذ سنوات عدة، دون أن يفتح مزاداً للعملة ..! وقد استطاع القيام بدوره الرقابي والتدخل في السوق، بيعاً أو شراءً في اللحظة المناسبة ، مع إلغاء "الفارق السعري" الذي يعتمده بنكنا المركزي بثبات ولا يستفيد منه سوى المهربين والمزورين ومبيضي أموال السحت الحرام، فلماذا لا يذهب السيد العلاق مع بعض كبار موظفي البنك في زيارة استشارية إلى لبنان ودراسة تجربة مصرفه ومحافظه السيد رياض سلامة الذي يتردد اسمه في المحافل المالية والسياسية بتقدير عال، ويحظى كذلك بثقة الدوائر المالية الدولية ، حتى أن البعض خشي أن يُرشح لرئاسة الجمهورية فيفقد البلد صمام أمانٍ لاقتصاده "الحر" واستقرار سعر الليرة اللبنانية ، دون مزادٍ للعملة..!

وإذا كانت إدارة البنك المركزي تخشى على فقدان هامش الربح الضئيل الذي تحققه في المزاد، لدعم الاحتياطي النقدي، فلماذا لا يمارس إلى جانب مهامه دور مستثمرٍ ضامن في المشاريع التنموية والخدمية الكبرى في البلاد، فيحقق بذلك هدفين في آن واحد: ربحاً وفيراً واستنهاضاً تنموياً للاقتصاد الوطني.

يقول بعض الضليعين بالشأن المالي، إنّ حاجة السوق الفعلية من العملة الصعبة يومياً لا تزيد على الخمسين مليوناً من الدولارات، فلماذا يبيع المركزي أضعاف هذا المبلغ كل يوم....؟ ثم يزداد التساؤل حول الفرق بين ما يبيعه البنك كل يوم ووارد مبيعات النفط ، فهل يأتي الفرق من الاحتياطي الممنوع من الصرف وفقاً للقانون أو النظام الداخلي..؟

بعض البنوك المشتبه بسياسة إدارتها وتصرفها بودائع زبائنها، مثل مصارف الشمال والبلاد والشرق الأوسط والهدى ، تواصل الدخول في المزاد مع أنها لا تستجيب لطلبات زبائها، فكيف لها ذلك؟ ومن أين تحصل هذه المصارف على الدينار لشراء العملة الصعبة..؟

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 10-02-2016     عدد القراء :  2862       عدد التعليقات : 0