الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
هل تتجه مرجعية السيستاني نحو العلمانية؟

مرجعية السيستاني، كما هو معروف، تنتمي إلى المرجعية المحافظة، غير المُتسيِّسة وغير المُسيِّسة للدين، والتي يمكن اعتبارها امتدادا لمرجعية الخوئي من هذه الناحية. لكنها بعد 2003 تورطت، أو وُرِّطت، في اقتحامها للشأن السياسي، أو في إقحام قوى الإسلامي السياسي الشيعية لها في السياسة. وحصل نوع من تحالف بين أحزاب الإسلام السياسي الشيعية والمرجعية المحافظة غير السياسية، وكان تحالفا مبنيا على متطلبات الضرورة، حسب تشخيص مرجعية السيستاني، وذلك بما تمليه عليها، حسب تقديرها آنذاك، مصلحة الدين والمذهب، أي مصلحة الإسلام والتشيع، أو مصلحة المسلمين عموما، والشيعة خصوصا في العراق. وأول من ركب موجة المتاجرة النفاقية بالمرجعية من القوى الشيعسلاموية هو المجلس الأعلى، لاسيما بعد مقتل محمد باقر الحكيم، الذي كان يفهم نفسه مرجعا سياسيا، ويقبل بالسيستاني مرجعا دينيا، وتولى أخيه عبد العزيز الحكيم لرئاسة المجلس، فهرول وراءه لاهثا خائفا حزب الدعوة وبقية القوى الشيعسلاموية، خوفا وتقية، خاصة بالنسبة لحزب الدعوة، خشية اتهامه بمناوءة المرجعية، كما قيل عن كاتب هذه السطور يوم كنت معهم، وأحرج بي حزب الدعوة، بسبب تنظيري ضد دعوى أن للمرجعية موقعا ولائيا في الشأن السياسي، ونفيت بأدلة شرعية وجود فتوى سياسية ملزمة دينيا؛ وذلك كما كان حزب الدعوة خائفا في إيران من تهمة مناوءته لولاية الفقيه، مما كان يبتزه به المجلس الأعلى، والذي كان يصوّر للإيرانيين، أن تقليد وسط واسع من أفراد الحزب للخوئي، دليل على مخالفة الحزب لولاية الفقيه، لعدم اعتماد الخوئي لهذا المبدأ من جهة، ولاتباع أكثر الإيرانيين غير المؤيدين للثورة آنذاك لمرجعية الخوئي بدلا من مرجعية الخميني.

سارت مرجعية السيستاني في ورطة هذا التحالف مع قوى الإسلام السياسي الشيعية، فاحتضنت ورعت ودعمت «الائتلاف العراقي الموحد» بالرقم الانتخابي 169 في كانون الثاني 2005، ثم دعمت نفس الائتلاف في كانون الأول 2005 بالرقم الانتخابي «555»، الذي تاجر آنذاك عمار الحكيم بدعوى مباركة السماء للقائمة، بسبب قدسية الثلاث خمسات، خمسة أصول الدين عند الشيعة، وخمسة أهل الكساء «الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»، وخمسة الصلوات اليومية المفروضة. مع فارق الدرجة أو مدى المباشرة في دعم المرجعية لنفس القائمة بين المرة الأولى والمرة الثانية. ففي الوقت الذي كان الدعم والرعاية صريحة ومباشرة، كان الدعم في المرة الثانية ضمنيا وغير مباشر، إذ دعت المرجعية إلى انتخاب القائمة التي تتصف بمجموعة صافات، وتحقق مجموعة شروط وضعتها للناخب، كانت بالنتيجة لا تنطبق إلا على «الائتلاف العراقي الموحد» رقم 555. ولكن في انتخابات مجالس المحافظات عام 2009 نأت المرجعية بنفسها خطوة إضافية عن السماح بإقحامها بشكل مباشر ومكشوف في العملية الانتخابية، فكان التصريح المشهور عنها بأنها «تقف على مسافة واحدة من جميع القوائم». وصدفة كان لي في وقتها لقاء في برنامج على قناة الحرة - عراق، فسئلت عن رأيي في هذا الموقف الجديد للمرجعية، فأثنيت عليه، لكن مع إشارتي إلى الحالتيين السابقتين لدعمها المباشر والصريح ثم الضمني وغير المباشر، معتبرا موقفها الجديد آنذاك خطوة متقدمة، متمنيا أن يكون تصريحها في المرة القادمة، أن الانتخابات ليست شأنها. هذا لم يحصل طبعا بهذا الشكل الواضح، لكن حصل شيء بهذا الاتجاه، عندما أغلقت المرجعية بابها في السنوات الأخيرة من الولاية الثانية الكارثية للمالكي أمام استقبال السياسيين. ثم قامت بدور مشكور في الإسهام في عدم السماح للمالكي بدورة ثالثة، لما كان ذلك يختزنه من خطورة تأسيس لديكتاتورية جديدة، ولكن كانت ستكون ديكتاتورية في الجوهر، وبآليات ديمقراطية في الشكل، وهذا ما أسميته آنذاك بـ«الديمُكتاتورية»، ناحتا المصطلح من المفردتين المتضادتين «الديمقراطية» و«الديكتاتورية»، كما نحتّ «الشيعسلاموية» من «الإسلاموية» و«الشيعوية». وراحت المرجعية تتقدم خطوة أخرى نحو العلمانية عام 2015، عندما وقفت بكل ثقلها مؤيدة للحراك الشعبي ذي الطابع المدني، أو الأدق تعبيرا، العلماني، أي المعتمد لمبدأ المواطنة والرافض لتسييس الدين وتسييس الانتماء الطائفي، أو ما عرف بالطائفية السياسية، التي أنتجت المحاصصة، بين سياسيي الطوائف والأعراق، لاسيما بين الشيعة والسنة طائفيا، والعرب والكرد عرقيا، وهذه المحاصصة أنتجت التستر المتبادل، وبالتالي تعميق وتوسيع وتأبيد الفساد المالي والإداري، وسرقة المال العام، من دون أدنى قدر من الحياء، ولا اكتفاء من نهم الثروة الحرام، هذا الفساد الذي لم يكن أقل فتكا بالعراق من داعش. نعم المرجعية أصبحت في وضع حرج، عندما رأت أن القوى التي رأت فيهم ضمانة لمصلحة الدين والمذهب، لتدينها، ولا نقول لإسلاميتها، لأن المرجعية كانت تعول على تدين الإسلاميين، لا على إسلاميتهم السياسية، باعتبار أن قائمتهم هي «قائمة المتوضئين» حسب تعبير السياسي الفلتة خضير الخزاعي، ثم لشيعيتهم، فسرقوا العراق ونهبوه وفرهدوه باسم الدين والمذهب، باسم الإسلام والتشيع والمرجعية والشعائر والمقدسات والعتبات، وبالتالي سمحوا ببعض السُّرّاق السنة، وأكثر من ذلك لكثير من السراق الكرد، لأخذ حصصهم، كي يجري التستر المتبادل. وعندها بدأت المرجعية تحث الخطى أكثر في الابتعاد عن الإسلام السياسي الشيعي، وعن قواه السياسية الفاسدة.

وجاء قرار المرجعية الذي أعلن من أحد ممثليها من منبر صلاة الجمعة في كربلاء يوم الجمعة الأخيرة، ألا هو أحمد الصافي، التخلي عن الخطبة السياسية، وإن كانت لم تجعله تخليا نهائيا، بل ربما خطوة نحو التخلي النهائي، لأنها أبقت الباب مفتوحا للتدخل أو إبداء الموقف، عند الضرورة، وحسنا فعلت.

إني وكواحد من أبرز المعارضين لتدخل المرجعية في الشأن السياسي، والذي أي هذا الموقف الرافض كان منذ 2003، بل قبل ذلك، مما جعلهم يضعونني في خانة المناوءة للمرجعية، رغم إسلاميتي، المقترنة بديمقراطيتي، آنذاك، لا أنكر أبدا رغم موقفي هذا، المواقف المشكورة في السنوات الأخيرة، منذ بدأت المرجعية بمسيرة التصحيح لدورها السياسي، لتنتهي ربما في الوقت الذي ستراه مناسبا إلى إعلان الفصل بين الدين والسياسة، كخطوة نحو إبعاد كل العمائم عن الشأن السياسي. ولا أقول إنها خططت لهذه المراحل منذ البداية، بل أؤكد إنها تورطت أو وُرِّطَت، ووعت الورطة في وقت لاحق، وبدأت ملامح الوعي عندها تنمو في أن الدولة المدنية، التي أسميها بالعلمانية هي الأصلح، كما عبرت عام 2006 إذ قلت في حديث لإحدى الصحف إن «العلمانية هي الأصلح لقضايا الدين وقضايا الوطن»، وأقول هذا أبدا ليس من موقع قصد الانتقاص من المرجعية، لاسيما مرجعية السيستاني، لأني أرى استفادة المرجعية من التجربة أسهم في تطوير نظريتها السياسية ليس بالأمر المعيب، بل هو شيء ممدوح، وسيكون أكثر ممدوحية لو أوضحت ذلك للناس، بأن مواقفها وآراءها السياسية كانت بمثابة النصائح التي تنطلق من تشخيصها للمصلحة، ولا تمثل تشريعا إلهيا واجب الطاعة ومحرم نقده أو مخالفته، فهي ليست الناطق الرسمي باسم الله، ولا يجوز أن تكون أو تكون أي مرجعية دينية أخرى بديلا عن الدستور، وعن السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعن إرادة الشعب الحرة، عندها سيزداد تألقها وبريقها على لوحة التاريخ.

لكني هنا أحب أن أشير إلى حقيقة، ولو حسب تشخيصي، هي أنه عندما كان تدخل المرجعية في الشأن السياسي غير مطلوب، أو لنقل بشكل أكثر دقة، عندما كان المطلوب عدم تدخل المرجعية في الشأن السياسي، تدخلت، واتخذت قرارا نيابة عن الدولة والشعب، بوجوب إجراء الانتخابات في كانون الثاني 2005، وعينت ممثلا لها في لجنة كتابة الدستور، وجعله رئيسا لأهم أبواب الدستور، ألا هو الباب الأول المعني بالمبادئ الأساسية، وكان ينسق أكثر ما ينسق مع المجلس الأعلى ممثلا برئيسه عبد العزيز الحكيم ورئيس لجنة كتابة الدستور همام حمودي، من أجل ضخ أكثر ما يمكن من مضامين إسلامية وشيعية في الدستور، مما عارضته كمقرر للجنة الأولى بكل ما أوتيت من حجة، وكذلك عندما دعمت المرجعية بما لا يقبل الشك القائمة الانتخابية الشيعسلاموية الموسومة بـ«الائتلاف العراقي الموحد»، وعينت لجنة لفلترة أسماء المرشحين عليها، والتي، أي هذه اللجنة، وضعت شرط خضوع المرشح لتوجيهات المرجعية، وعملت على شطب اسم من رأته مناوئا للمرجعية، كما حصل معي، ثم أعيد اسمي بعد قصة ذكرت تفاصيلها في الجزء الثاني من كتابي «ربع قرن مع الإسلام السياسي». واليوم عندما أصبح دور المرجعية يمثل حاجة كبيرة من أجل إصلاح العملية السياسية، تلمّح المرجعية إلى تخليها عن الشأن السياسي. أو ربما إنها كتفسير آخر أرادت بإعلان موقفها الأخير الجمعة الفائتة، أن تعبر عن يأسها من العملية السياسية، خاصة بعدما أصبحت كلمتها غير مسموعة من الذين تاجروا بالمرجعية وصعدوا على أكتافها وبشهادتها لهم بشرعيتهم، وبعدما يئست من قدرة العبادي على الإصلاح، رغم كل الدعم الذي منحته إياه، علاوة على دعم الحراك الشعبي. هؤلاء السياسيون هم أنفسهم الذين فرحوا واستبشروا بدعم المرجعية لهم آنذاك، يوم احتاجوا إلى دعمها، ومنحها إياهم التزكية والشرعية، هم أنفسهم اليوم فرحون بتوقف المرجعية عن تناول الشأن السياسي، بعدما أصبحت خطابات صلاة الجمعة تمارس النقد اللاذع للسياسيين المتسترين تحت عباءة المرجعية، وتطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد والمفسدين، طالبة من رئيس الوزراء الضرب بيد من حديد، والبدء بالرؤوس الكبيرة، فوصلت المرجعية كما الجماهير لاسيما جماهير الحراك الشعبي، ألا شيء يُتأمَّل من العبادي، فأرادت المرجعية إما أن تحفظ ماء وجهها، أو تعلن بهذا الموقف بطريقة أخرى بإدانتها للقوى السياسية المتنفذة. أم هي خطوة تتقدم بها المرجعية نحو إعلان المطالبة بالدولة العلمانية.

وأتمنى أن تنجز مرجعية السيستاني هذه المهمة التاريخية، أي الإعلان عن أصلحية، وأنفعية، وأوطنية، وأولوية الدولة العلمانية، التي تفصل بين الدين والسياسة، تنزيها منها للدين كمنظومة أخلاقية، على الأقل عند المؤمنين بذلك، وتنزيها للسياسة، بوصفها رسالة إنسانية وطنية أخلاقية سامية، كما يراد لها، وليست كما تمارس كوسيلة للتسلط والإثراء اللامشروع، والمحرم دينيا، وأخلاقيا، ووطنيا، بل الذي هو من كبائر المحرمات والخطايا على الصعد الثلاثة. لأنها، ولما تتمتع به من موقع مؤثر واحترام قلما تمتعت به مرجعية أخرى، لا بد أن تقوم بهذه المهمة التاريخية، قبل أن يغيب السيستاني عن الدنيا، ويترك الساحة لمراجع أو أشباه مراجع، يفتقدون إلى الوعي السياسي، أو البعيدين عن الصفات التي تؤهلهم للضلوع بهذا الدور الخطير، كالاعتدال والانفتاح والمعاصرة، أو تمنح الفرصة لمرجعية خامنئي لإخضاع العراق كليا لاستعمار ولاية الفقيه الإيرانية.

فهل سيفعلها؟

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 10-02-2016     عدد القراء :  3495       عدد التعليقات : 0