الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
كيف يمكن إجلاء المحظور وقراءة وقائع ما انتهت إليه الاعتصامات وما يليها..؟

انتهى اعتصام الجمهور الصدري والمدني، ورُفعت خيمة السيد مقتدى الصدر من أمام إحدى بوابات المنطقة الخضراء المحصّنة شكلاً، و"بالغة الهشاشة" بكل المعاني، في واقع الحال، وكما أكد سير الاحتجاجات والاعتصامات. والمستفيد الأول من هذه النهاية، خلافاً لسيناريوهات تداولتها كواليس العبادي وقوى التحالف الوطني، هم العسكريون، جنرالات وضباط صف وجنوداً، تقاسموا في ما بينهم ما خلّفه السيد في خيمته، تبركاً و"تميمة" يعتقدون أنها تقيهم من الفقر، وتدفع عنهم أسباب القهر والإذلال والإرهاب، وتبث في عزيمتهم شيئاً من جسارة الصدر وإقدامه على إماطة اللثام عن حقيقة حكام العراق الجديد الذين تبيّن أنهم ليسوا سوى "نمور من ورق" خلافاً لزمجرتهم التي يظهرون بها من على شاشات التلفزيون ..!

وما تبيّن في التحول الصدري من التظاهر في ساحة التحرير الى الاعتصام أمام بوابات الخضراء، ذلك التنظيم والانضباط وسرعة ضبط إيقاع المعتصمين، وتأمين خطوط مواصلاتهم وإمداداتهم الغذائية والصحية وغير ذلك من اللوجستيات.

وهذا يُذكّر بما عُرف عن الشيوعيين في زمن عِزّهم، أيام العمل السري والتعبئة الجماهيرية. والمفارقة، أنه نفس الجمهور المتظاهر والمعتصم الآتي من أحزمة الفقر في بغداد، والمناطق والأحياء المهمّشة في المحافظات، الكثرة منهم فقراء مدينة "الثورة - الصدر"!

في لقاءين مع السيد الصدر، في أربيل عشية التداول في سحب الثقة المُجهَضة من "المغدور" السيد نوري المالكي، والثانية في النجف بحثاً عن أسباب المواصلة، قلت له هامساً: أجدني بإحساسي الداخلي متعاطفاً مع جمهور تياركم وقاعدة حركتكم، وهو جمهورٌ كُتب عليه التهميش، حتى في هذا العراق. وقلت أيضاً: أنت تعرف، سماحة السيد، ان هؤلاء هم القاعدة التي بنى عليها الحزب الشيوعي أيام مجده، وقد يتحسر الشيوعيون عليها لانحسارها عنهم، لأسبابٍ موضوعية، وفيها أيضاً بعضُ شاردةٍ ذاتية... هذا يعني أنهم يبحثون عن حياة أفضل، وهي مسؤولية على عاتقكم بإجراء تحوّلٍ "سياسي - اجتماعي" في حركتكم لتصبح أكثر انسجاماً مع تطلعات وطِماح هؤلاء المهمومين في كل عصر. قال بأريحية لا تعبّر عنها إطلالاته من على شاشات التلفزة: يعني هاي شيوعية؟ .. لا حبيبي !...

في السنوات الأخيرة، زاد الحديث في التيار الصدري عن "المدنية" و"الديمقراطية" وخلافهما مما التقطها العلمانيون كتعبير عن تحولٍ في مسار الحركة، كرس مفهومها في أذهان أوساط منهم، الإعلان عن حماية المتظاهرين المدنيين من "الميليشيات الوقحة" ثم المطالبة بحكومة تكنوقراط مستقلة، وتشكيل لجنة قيل إنها مستقلة لتتعمد بالانضمام الأخير الى التظاهر والاعتصام بطابعهما السلمي المدني .

وخلافاً لهذه المظاهر الخارجية، المهمة من دون شك، يفتقر واقع التيار فكرياً وسياسياً الى نوعٍ أكثر دلالة على الخروج من المعطف الديني والعباءة المذهبية.

ويقيناً أن المعتصمين جادون في إنهاء سطوة الطبقة الحاكمة الفاسدة، ويدفعهم الإحساس بالنقمة وانعدام الأفق الى "رفضها" وإزاحتها ، والتطلع الى خيارٍ آخر خارج ما يرونه "تنازعاً حزبياً بلفافة طائفية ". وهذا الخيار جاء في الشكل، دون أن يهدم أسوار "المعبد" المتمثل في جوهر المنظومة السياسية المحاصصية الحاكمة، كاملة المسؤولية عن الانحطاط والتدهور والخراب التي أصابت البلاد وانتهاك حرمات المواطنين .

اختزال الإصلاح ، بتغيير "كابينة وزارية" في بيئة فساد، وقوى تتحصن في هيكل جهاز الدولة المتفسخة، وتتربع على قمة السلطة التشريعية والتنفيذية التي تُسيّرها الأحزاب والكتل البرلمانية المنتخبة على أساس الولاءات الطائفية، وتتمدد بنفوذها في السلطة القضائية، لا يمكن أن تسمّى بأي شكل كان "إصلاحاً"، ولا خرقاً للسياقات الطائفية بزعم تجاوز الكتل عند اختيار "المستقلين" رغم ان الاختيار بغالبيته تم عبر "المعارف الشخصية" ومواقع التواصل الاجتماعي! وشارك فيه مستشارون، بسريّة وكتمانٍ تامين، يشكل بحد ذاته تعريضاً بمصداقيته ومن وراءه. .

واحد من الاعتراضات على وزراء المحاصصة ، هو استقواؤهم بأحزابهم وتعذر مساءلتهم وملاحقة فضائح فسادهم. والملفت أن الشارع المخدوع بالإصلاح السيّار الذي اقحمنا فيه رئيس مجلس الوزراء، يتوهم بأن الفساد ومظاهره حكر على المتلفعين بخيرات المحاصصة، وأن "المستقلين"منزّهون عنه وليسوا على توافقٍ مع مغانمه. والواهمون بأن التغيير الوزاري إنما تشكل عشية الإجهاز على المحاصصة والفساد، يتناسون أن النفوذ والقوة والسلطة والمال تظل تحت عباءة الكتل وقادتها. وإذا كان الوزير المحاصصي موالياً لحزبه محمياً بميليشياته، فأي حولٍ للوزير المستقل،إن لم يحالفه الحظ بالتسلل الى عباءة أكثر وسعاً من غيرها،فيتجرأ على ملاحقة فاسدٍ في وزارته أو من خارجها، يحمل فرماناً من قوة باطشة؟ وكيف يتصدى، إن كان مثالاً للنزاهة ونظافة اليد، لجماعة من الفاسدين يقفون على باب وزارته بمسلحيهم أو عشيرتهم؟

إنها خديعة لا تقاوم محاججة موضوعية خارج تهويمات الأمل الكاذب الذي ليس بإمكانه سوى تسويق بديلٍ فوقي هش، يُجهض مشروع إصلاحٍ ممكنٍ، ولو بالتدريج ، ويفكك منظومة الفساد والمحاصصة الطائفية. ومثل هذا الإصلاح لا يكتب له النجاح إلا من خلال استنهاضٍ جماهيري واعٍ بالعمل الدؤوب بين الناس في مراتع الأمية ووضع الخطط لمكافحتها ، واستهداف مكامن الجهل والتخلف للارتقاء بضحاياها . ولن يكون ذلك ممكناً من دون شحذ همم أوساط الطلبة والشبيبة، وتعبئتها للقيام بتلك المهمات النبيلة. وليس ذلك لوحده كافياً، إذا لم تجر تصفية ظاهرة البطالة وتنشيط سوق العمل وتحريك عجلة الاقتصاد، وتقليص الفوارق بين فئات المجتمع وطبقاته، وهي مهام حيوية ملحة لمعافاة المجتمع الذي لن يتعافى دون مصالحة شاملة.

وبنظرة متفحصة لمجرى التطور للحراك الاحتجاجي المطلبي ، وما تمخض عنه، منذ أن أطلق العبادي مشروعه الإصلاحي حتى انفضاض اعتصام السيد الصدر،

يمكن الخروج باستنتاجاتٍ تجد مدلولاتها في المظاهر التالية :

- انكسار أُطر توظيف الدين والطائفة والمذهب في فرض الإرادة السياسية، وإفلاس منظومة المحاصصة الطائفية وآلياتها، من داخل المنظومة وأدواتها ورموزها، تحت ثقل الفشل في إدارة الدولة واستشراء الفساد ونهب ثروات البلاد ، بين قادتها والموالين لها والمحسوبين عليها .

- إظهار العجز الكامل للدولة وأجهزتها، العسكرية والأمنية منها قبل غيرها، والتي ظهر انها لا تجيد سوى تقبيل أيدي الأقوى.

- إضفاء الشرعية على "القوة" كحَكم يكسر كل سياقٍ غيره، ويشكل سابقة يُغري باللجوء اليه في فرض الأمر الواقع، وفقاً لمصالح المتخاصمين . ويصبح ذلك ممكناً ، يضفي عليه الشرعية وجود عشرات التنظيمات المسلحة والميليشيات المتمكنة، مالاً وسلاحاً وقوى بشرية، متغلغلة في جسد اللادولة وأجهزتها العسكرية والأمنية المبنية على المحاصصة و"الدمج" .!

- تعطيل الدستور وتشويه قواعد العمل الديمقراطي، وإنهاء قاعدة المشاركة بين المكونات، وخصوصاً بين المركز والإقليم، حيث توجب الدولة الاتحادية أن يتمثل الإقليم في السلطات الثلاث بإرادته . وقد تعرضت هذه المشاركة التي شكلت أساس النظام الاتحادي، منذ تقدمت الدبابات الى مشارف حدود الإقليم وحجب حصته من الموازنة عام ٢٠١٤ ، الى المزيد من التصدع وتعميق الشكوك المتبادلة بين الطرفين ، مما أضعف إلى أبعد حدٍ الأسس التي بنيت عليها الشراكة، لتنتهي الى علاقة مقايضة بين طرفين تجاريين "بائع براميل نفط وشارٍ لها"، وتقويضا للقواعد الدستورية التي تنظم العلاقة بين مركز الاتحاد والقومية الثانية في العراقٍ الاتحادي الديمقراطي الواحد، وهي علاقة تختلف جذرياً عن منظومة المحاصصة الطائفية .

- تكريس ظاهرة الانفراد بالسلطة تحت لافتة "كسر إرادة الكتل"، والالتفاف على الدستور، رغم عوراته، من دون الاعتماد على تعبئة القوى المعنية بالإصلاح وإشراكها علناً في بلورة الصيغ والتوجهات والأساليب، وتحويلهاالى منصة للإصلاح والتغيير. والنزوع الى بديلٍ مشكوك بسويّته اتخذ صيغة لجان وهيئات سرية تعمل في العتمة وتتشكل من موالين وامتداداتٍ تفتقر الى الأهلية، وتطاولها الشكوك.

- اعتماد رئيس مجلس الوزراء على "الكلام المجرد" المطلق على عواهنه حول الإصلاح والحُزم الإصلاحية والتأكيدات المتواصلة على "مواصلة مكافحة الفساد" ومحاولة كسب التعاطف في هذا السياق بالإشارة الى تعرضه الى تهديد يستهدف حياته لفرط "عزمه وجديته" ! لنكتشف بعد ضياع الوقت أنّ ذلك لم يكن غير كلامٍ "وصياحٍ في الوادي" !

- وستكشف الأيام الآتية، أنّ الحصيلة النهائية ستتمثل في تراجع العبادي عن "مظروفه المغلق" الذي أودعه كابينته "التكنوقراطية"، والعودة الى الكتل لإجراء تغيير جزئي، إن لم يكن الوقت قد فات، وبات السيد العبادي يعمل في الوقت بدل الضائع، بعد اتساع دائرة المشاورات لإقصائه عن المشهد .. .. وهكذا نكون على عتبة مرحلة جديدة نبكي على أطلال خيار في الإصلاح لم تكن سوى خديعة، وفي أحسن الأحوال "هواء في شبك"، مادام "معجونها" لم يختلف عن معاجين سبقتها، "معجون المحبة" و"معجون الأُخوّة والمصالحة".

- وستكون الكلمة الأخيرة لمن بيده الحلّ والربط ، وهو آتٍ لا ريب في ذلك ..!

  كتب بتأريخ :  الأحد 03-04-2016     عدد القراء :  3141       عدد التعليقات : 0