الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
من تسبب بسيول الدماء والخراب والبؤس بالعراق؟

شعب العراق، بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، يعيش الأزمات المتشابكة والمستعصية، يعيش المآسي الدامية والكوارث المدمرة والمستمرة، يعيش الإرهاب والفساد والبؤس والحرمان، يعيش النزوح والهجرة والسبي والاغتصاب وبيع النساء في سوق النخاسة، يعيش الحرب الدامية على جبهات القتال، ويعيش صراع الفاسدين والمنحرفين عن أهداف الشعب وإرادته ومصالحه على السلطة والمال والنفوذ، ويعيش ضياع القيم والمعايير الإنسانية لدى النخب الحاكمة الإسلامية منها والقومية، فمن تسبب بكل ذلك؟ وكيف الخروج منه؟

الإجابة عن السؤال الأول تستوجب ربط الماضي البعيد والقريب بالحاضر الجاري، والرؤية العقلانية للعلاقة بين العوامل الدولية والإقليمية والمحلية المتفاعلة معاً كعملية متشابكة ومعقدة ومستمرة على أرض العراق. فلا يمكن اختصار ما يجري لعامل دولي واحد هو الاستعمار أو الاستغلال أو التدخل الأجنبي، على أهمية ومسؤولية هذا العامل، ولا بالعامل الإقليمي وحده، أو بالعامل الداخلي فقط، فخيوط الترابط الجدلي قائمة بين جميع هذه العوامل، رغم الأهمية الكبيرة لفعل العوامل الداخلية. فتركة التاريخ الإسلامي منذ البدايات، منذ الفتوحات الاستعمارية الأولى للعرب المسلمين وفرض الدين بالقوة على اتباع الديانات الأخرى وممارسة الاستغلال واحتقار الآخرين من أتباع القوميات والديانات الأخرى، تحت واجهة مهلهلة "كنتم خير أمة أخرجت للناس!", ومارست العنف وغياب العدل والانصاف، والذي استمر يتفاقم في الدولة العثمانية وفي الصراع مع الدولة الفارسية للهيمنة على العراق وخوض نزاعهما فيه وعلى حساب حياة الشعب وعيشه وكرس الأجواء العدائية والأحقادبين أتباع المذاهب في الإسلام. تركة السلطنة العثمانية ثقيلة، فكراً وممارسة، كانت وستبقى عواقبها السلبية الكثيرة، وخاصة النفسية والتقاليد السلبية الموروثة في الإدارة والمجتمع والتعامل بين الناس، فاعلة ومؤثرة على الفرد العراقي ومؤسساته وعلى المجتمع.

كما إن دور الاحتلال البريطاني وعنجهيته، رغم كونه كان السبب في ولوج العراق لأول مرة في العصر الجديد للحضارة البشرية الغربية الحديثة، إذ فتح، وبالرغم منه، النوافذ والأبواب لدخل الهواء النقي لرئات العراقيات والعراقيين، ودوره في اعتماد أسس خاطئة في تشكيل الدولة العراقية، وفي تشويه الدستور وتزييف الانتخابات والسياسيات اليومية، وفرض حكومات غير مقبولة من الشعب، وفرض الإرادة الإمبريالية ضد مصالح الشعب للحفاظ على وجوده وتنفيذ معاهداته المخلة بسيادة العراق مع العراق وتكريس سيطرته. وقد تسبب كل ذلك في وقوع انتفاضة تموز 1958 العسكرية والشعبية، التي عجزت عن وضع العراق على طريق الحياة المدنية الدستورية والحياة الديمقراطية، كما عجز قادتها عن تحقيق المضمون الفعلي لثورة أرادها الشعب لتساهم في تغيير بنية الاقتصاد والمجتمع وتنقله ثورياً إلى مستوى آخر في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في مختلف المجالات. فكانت الردة، وكان السقوط، في أحضان القوى القومية والبعثية الشوفينية والاستبدادية، التي لم تعرف سوى الحديد والنار والأنفال وحروب الإبادة الداخلية والحروب الخارجية والقتل والتغيير الديموغرافي والتعريب القسري في التعامل مع الشعب وقومياته العديدة وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية الديمقراطية والتقدمية، ومع قواه الوطنية كافة، والتي استمر حكمها ما يقرب من 38 عاماً، فعصفت بالعراق رياحهم المسمومة وجرادهم الأصفر وجدب الحياة ونشر والموت والخراب والبؤس والفاقة الفكرية والسياسية. وكان المدخل لحروب عديدة، ومنها الحرب الخليجية الثالثة، التي أنهت النظام البعثي والفاشي الدموي الشرير، الجحيم القومي اليميني المتطرف، الذي ترك إرثاً مرعباً من الكراهية و الأحقاد وأجواء الانتقام في العلاقات المشوهة والمزيفة والبعيدة عن كل القيم الإنسانية الرفيعة والمعايير الحديثة في العلاقة ما بين البشر ومع الآخر، لتقيم على أنقاضه جحيماً آخر، من نوع آخر، جحيم نظامٍ سياسيٍ طائفيٍ مقيت ومحاصصة طائفية مذلة، سواء أكان تحت الاحتلال الأمريكي المباشر، أم تحت السيطرة الإيرانية "المباشرة" والفعلية، وتحت أعباء الصراع الإيراني السعودي والتركي على أرض العراق مستخدمين القوى والأحزاب الإسلامية السياسية والقومية اليمينية المحلية في إدامة و تشديد هذا الصراع والنزاع الدموي المميت لا بإيران أو السعودية او تركيا، بل بالعراق وضد شعبه بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، ودور هذا الصراع وقواه الداخلية في ما يحصل لأتباع الديانات الأخرى من مسيحيين وإيزيديين ومندائيين وشبك وتركمان وغيرهم، أو ما حصل ويحصل حتى الآن لأبناء وبنات الشعب العراقي في المحافظات الغربية وفي محافظة نينوى من أتباع المذهب السني.

لقد كان حكام العراق وما زالوا، الذين شاركوا في الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط الدكتاتورية الفاشية لحزب البعث، أدوات طيعة فاعلة لصالح قوى الصراع الإقليمي وخيوطه التي تمتد إلى أطراف الصراع الدولي، وبالضد من إرادة ومصالح وحياة وكرامة وعيش ومستقبل الإنسان العراقي. ولم يكونوا في جلهم، سبب كل ذلك فقط، بل كانوا في جلهم وفي الوقت ذاته قاعدة للفساد والإرهاب الذي برز بوضوح في المليشيات الطائفية السياسية المسلحة وفي التنظيمات الإرهابية المسلحة الأخرى، والتي حصد الشعب العراقي بسببها الموت والفقر والخراب والحرمان.

إن ما يجري بالعراق اليوم هو تفاعل بين جريرة الماضي البعيد والقريب وسوءات الحاضر المشوه، إنه جريرة الأحزاب الإسلامية السياسية والأحزاب القومية اليمينية، كما إنه جريرة القوى الإقليمية والدولية التي تساند ذلك وتدعمه ولعبت دورها في إقامة مثل هذا النظام المشوه والمناهض لمصالح الشعب.

إن انتفاضة الشعب السلمية والديمقراطية، المتجسدة في الحراك المدني الشعبي، تجابه بأذان صماء من جانب النخب الحاكمة، أو من حركة تريد الالتفاف على مطالب الشعب في تحقيق الإصلاح الجذري، أي في التغيير الجذري لنظام الحكم الطائفي والمحاصصة الطائفية المذلة للشعب والمواطن، ولهوية المواطنة الحرة والمتساوية، وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية والنظام السياسي المدني الديمقراطي العلماني. إنه الصراع بين أنصار الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وأنصار الدولة الدينية الثيوقراطية الطائفية المتخلفة، بين أنصار المستقبل المشرق، وأنصار الماضي بجوانبه المظلمة والمعتمة والمدمرة. إنه الصراع من أجل الحياة والتقدم ضد قوى الموت والتخلف، ضد الردة الفكرية والاجتماعية التي تضافرت عوامل كثيرة لنشوئها، والتي يعيش الشعب تحت وطأتها حالياً. إن مستقبل العراق لن يكون لقوى الموت والخراب، بل لقوى السلم والحياة الدستورية الديمقراطية، للمجتمع المدني الديمقراطي الحديث.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 18-04-2016     عدد القراء :  3204       عدد التعليقات : 0