الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
«فلسفتنا».. ردودٌ لا فلسفة

في مقال سابق ذكرت محاسن «محمد باقر الصدر» (أعدم 1980)، وطلبت من حزب «الدعوة الإسلامية» ترك هذا الرجل وشأنه، فلم يعد هناك ارتباط لهذا الحزب (بعد 2003) بسلوكه، وآتي في هذا المقال إلى كتاب الصدر «فلسفتنا»، وكنت قد قرأته (1975) ورجعت إليه بعد حين، فوجدته أبسط مما يعول عليه كنقض لفلسفة، أو تأسيس فلسفة تسمى «فلسفتنا»، وقد سماها بـ«الإلهية»، وظني يبقى راسخاً: لو قُدِّر لمؤلفه أن يعود للحياة لأعاد النظر فيه، فعندما كتب «فلسفتنا» (1959-1960) كان في العشرينيات من عمره، مأخوذاً بردة فعل.

يقول طالب الرِّفاعي (أحد مؤسسي «الدعوة» 1959) في قصة الكتاب، وقد ذهب إلى الصدر غاضباً: «الدنيا مقلوبة، والماركسية دخلت في كل زاوية من زاويا النجف، وأنت جالس هنا لا تعلم، ولا تنوي عمل شيء ما؟! قلت: تفضل اقرأ، فالشعارات، في المواكب والأضرحة، كلُّها تأييد لما جاء في هذا الكراس (المادية الديالكتيكية)» (أمالي طالب الرِّفاعي). ويردف قائلاً: «أخذ يتصفح ويقرأ في الكراس، ثم التفت إلى قائلاً: ماذا علي عمله؟ قلت: رد عليه.. فقال: ليست لدي مصادر! فقلت: سأملأ لك هذا السرداب بالمصادر الشيوعية، فاستجاب وقال: ابدأ، وإن شاء الله سأبدأ أنا بالرد».

ذهب الرفاعي إلى المكتبة التي اشترى منها كراس الديالكتيكية، فتجاوب معه صاحب المكتبة ظاناً أنه معجب بهذا الفكر، فأخذ يحمل الكتب إلى الصدر، حتى وفر له المصادر من تلك المكتبة، ومِن مكتبات أُخر، يشتريها من جيبه الخاص، فمما ذكره من عناوين: كتاب «رأس المال» لكارل ماركس، وكتاب «أنتي دوهرنك»، وكتب أُخر حسب عبارته «ما أدري شيسمونه»، وكلها كانت باللغة العربية (نفسه).

بلا شك، كان للكتاب أثره على القوى المضادة للفكر الماركسي، فقد هيأ لها مادة تستطيع بها أن تتبنى موقفاً، ويغلب على الظن أنه كان له الأثر الأكبر على الفقهاء، بإصدار فتوى تكفير (أعطيت لأحد المستفتين 1960)، وفتاوى القتل التي طلبتها سلطة (1963) القومية، عندما همت بتطبيق الشريعة بأتباع الحزب الشيوعي العراقي، وكادت تتسبب بقتل أكثر مِن عشرة آلاف عراقي، وقد أتيت بقصتها مفصلة وبشهودها في «الأديان والمذاهب بالعراق ماضيها وحاضرها» (2016)، كذلك أثر في المتدينين على العموم، من الذين انتموا إلى الحزب الشيوعي.

إلا أن غير المطلع على المؤلفات الفلسفية، التي أراد الصدر الرد عليها أو تفنيدها، يرى في «فلسفتنا» كتاباً لكل مكان وزمان، وليس جملة مقابلها جملة، أو «شعار مقابل شعار»، فالكلام العام الذي يتحدثون به عن فلسفة وفكر الصدر لا يُعد مشروعاً لتفنيد الفلسفات الغربية، والسبب أن نقض أي فلسفة أو علم يحتاج إلى قراءته بلغته، ومعلوم أن الصدر لم يكن يجيد لغة أخرى، ولم يقرأ غير المترجم إلى العربية، والترجمة فيها ما فيها من البعد عن الأصل. هذا ينطبق أيضاً على الماركسي الذي يدعي أنه فند الفلسفة الرأسمالية، أو الغربي الذي يدعي أنه فند «مقدمة ابن خلدون» مثلاً، وهما لم يقرءا العملين بلغتيهما الأصليتين. مع التمييز بين الرد والنقض بمشروع. فمن العجب أن سمعت محاضرة لأحدهم مرة يقول فيها بهدم الصدر لِما أتى به مناطقة الغرب كافة، ونحن لا نستكثر على الصدر ذلك، لكن بأي لغة قرأها كي يستطيع هدمها كافة؟

لا ينقص هذا مِن جهود الصدر ومنزلته الفكرية، وتوقده العقلي المبكر، إلا أنني لم أجد في «فلسفتنا» مشروع فلسفة أو نقضاً فلسفياً، حتى البعثيين أنفسهم لم يميزوا بين أحوال (1959) وأحوال منتصف السبعينيات، عندما هرع مدير الأمن العام فاضل البراك (أعدم 1993) إلى الصدر وطلب منه أن يتكفلوا بنشر «فلسفتنا»، لمواجهة الحزب الشيوعي العراقي الذي كان في جبهة (1973-1979) معهم، وقد رفض الرجل، لأنهم طلبوا منه إجراء تغييرات، ثم وافق، وصدر عن دار «الميناء». هذا ما ذكره أقرب الناس مِن الصدر في تلك الأيام (النُّعماني، «الشهيد الصدر.. سنوات المحنة»).

كتبت هذا، لأن أمين حزب «الدعوة» وأعضاء في قيادته، إذا تحدثوا عن «فلسفتنا»، في خطبهم، وفي هذه الأيام بالذات، تحدثوا عن بنيان فلسفي، لا مجرد رد، يأخذ في العديد مِن نصوصه موقف العناد بجملة مقابل جملة. فحسب قصة تأليف الكتاب لم يكن الصَّدر آنذاك يريد الانشغال عن الفقه، وله في علم الأُصول مأثرة. قادت المبالغة برئيس مجلس جامعة ببغداد، أن يقول واثقاً من أكاديميته: «لم أدع يوماً أنني حاصل على شهادة جامعية عليا، فالشهادة التي حصلت عليها بالتتلمذ على يد الشهيد الصدر». هكذا تقود المبالغة إلى إلغاء التقاليد الأكاديمية.

  كتب بتأريخ :  الخميس 28-04-2016     عدد القراء :  4056       عدد التعليقات : 1

 
   
 

محمد حسن

أن كان النقد هكذا فعلى النقد السلام