الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
نرجسية الخطاب السياسي بين الجهل والصراخ والمزاج

إذا راقب الإنسان التجديدات الهائلة في الخطاب السياسي ، على نطاق العالم المتقدم، خاصة منذ ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وصدور الإعلان العالمي لحقوق الانسان، فأنه يجد تجديدات هائلة، تكنيكية ،ثورية، علمية هائلة ، في وسائل التعبير كافة ، من قبل الفاعلين السياسيين في الحكومة والبرلمان ومن قبل ناقديهم سواء في الاحزاب والتجمعات أو الكتّـاب في مجال النقد الصحفي.

الميزة الأساسية في (الخطاب السياسي المتجدد) هي قدرتها على رفع مستوى (التفاعل) مع المواطن الفرد أو مع (المجاميع) المنضوية تحت ظل تجمعات سياسية حزبية أو كتلوية أو منظمات مدنية، مما يساعد في رفع مستوى رؤية المواطنين في التأثير على انضاج حقائق وأفعال وافكار الغد.

يمكن القول من ناحية أخرى أن الخطاب السياسي يملك قدرة استعمالية هامة في الاتصال بين الفرد والجماعة، بين الدولة والمواطن، بين المواطن و(الآخر)، بين الحكومة والشارع، بشرط أن يكون الخطاب مبنياً على الصدق والشفافية والتفاعل، لتكون نتائج خطاب اليوم نواة لحقائق الغد وخطابه. هذا الشرط الخطابي يشكّل ،عادة، أهمية ارتباط المجتمع السياسي وهو (الاقلية) مع المجتمع المدني وهو (الأكثرية). بالتالي تكون الظواهر السياسية عنصرا ضروريا فاعلا موجها برؤاه جميع العاملين الفاعلين نحو مجتمع افضل.

في ظل هذه الميزة في الخطاب السياسي أحدد ،هنا، نظرتي المتتبعة للخطاب السياسي العراقي، للفترة ما بعد نيسان 2003 ، الذي خُيّل لجميع المتابعين أن يكون وسيلة الدولة الجديدة والمواطن الحر الجديد مما ينعش ويفعّل الديمقراطية، التي كانت حلماً من احلام الشعب العراقي، مبنية ، كما ينبغي، على خطابٍ سياسيٍ جديد النوع، خاصة في زمان صار فيه الكومبيوتر والشاشة الفضائية والموبايل ووسائل الاعلام الذاتية في الانترنت والصحافة متوفرة إلى الحد الاقصى تحت تصرف خطاب كل رجال السياسة في الدولة وخارجها.

مجموعة اسئلة قد تواجهنا:

1 – تُرى.. هل صار الخطاب السياسي العراقي رؤية ناضجة عند رجال السياسة في الدولة والبرلمان والاحزاب..؟

2 - هل صار الخطاب السياسي نظاماً فكرياً جديداً في العلاقة بين السياسي والمواطن..؟

3 - هل توجّه الخطاب السياسي لأن يكون راصداً وداعماً لحقوق المواطنين وحرياتهم..؟

4 - هل استهدف الخطاب السياسي العراقي حسّ الاعتماد على تطوير الثقافة السياسية والعلوم السياسية والفنون السياسية لخلق ذاكرة سياسية قوية وطويلة المدى مساهمة في توقعات الغد السياسي..؟

نلاحظ في عراق ما بعد سقوط الدكتاتورية ومنذ بداية تشكّل العملية السياسية على ضوء الحرية المحدودة والديمقراطية الاولية أن الخطاب السياسي العراقي، بتداوله اليومي في البرلمان والصحافة والفضائيات ، يعاني من حالة فوضوية ، مرضية، قائمة على ظواهر العصبية الفردية والجماعية لا تؤدي ، واقعياً، إلاّ لتدمير الوعي وليس إلى رفع مستواه كما يتوقع أي متابع.

من الواضح أن الخطاب السياسي العراقي يميل في اغلبه الى نوع مثير من أنواع (المحاكمة) وليس (الحوار). يحاول السياسي ان يتضمن خطابه اتهاماً شخصياً معيناً وادانة شخصية . كثيرا ما يُطلق على هذا النوع من الخطابات بأنها (ملفات توثيقية).. أي ان الخطاب السياسي يضع خصمه أو منافسه على سرير في مستشفى الامراض السياسية - السيكولوجية، تحت شكل من اشكال مكافحة الفساد المالي والاداري وضعف الاداء الحكومي والبرلماني. يعتمد المتخاصمون السياسيون الى تبادل الاتهامات التأديبية – التسقيطية بفضح عيوب (الآخر) ونشر غسيله الوسخ في الصحافة الفضائية خصوصا باسم مكافحة الفاسدين او بأسم (الشفافية) ، التي ضاع معناها وغرضها ومبناها في خضم معارك الخطب السياسية المتبادلة بين المتخاصمين المتنافسين على المنافع والامتيازات والمناصب وجني الأموال الخيالية من وراء هذا النوع من المعارك التافهة، القائمة على وسائل تعبير مريضة سيكولوجيا ، مختزنة في لاشعور (الرجل السياسي) الذي لا يحمل أي تجربة سياسية واعية ورصينة. الملاحظ هنا ان كل العواصف الخطابية تذهب بلا معالجة ادارية او قضائية .

مع الأسف الشديد أن اغلب البرلمانيات العراقيات هن من هذا النوع النشيط في اطلاق الصوت الصارخ بدل الحديث الهادئ ، لا يأتي منهن مثل زملائهم البرلمانيون السطحيون غير تجهيل المواطن والمجتمع بصراخٍ سيكولوجي مقهور. الامثلة كثيرة لا حصر لها، خاصة ما نراه ونسمعه من مطارحات بين وزراء وبرلمانيين وقادة احزاب اسلامية وغير اسلامية ورؤساء كتل ، حتى في أوساط مسئولين قضائيين وقانونيين ،أيضاً. نشاهد كل يوم هرولة إلى امام بنظرهم، بينما واقعها يشير إلى أنها هرولة إلى وراء.

لا نجد في الخطاب السياسي الحالي، لا التحليل العميق لمجريات العمل والأداء ، ولا حتى اعتماد التحليل النفسي العلمي. لا نجد غير تكريس الخطاب نحو تسقيط (الآخر). لا نجد فيه نقداً علمياً أصوليا يؤدي إلى رفع مستوى الوعي السياسي الجماهيري. ربما داخل هذه الاجواء التنافسية المعتمة تذهب ادراج الرياح مقولات وافكار وخطط صائبة.

لا يمر يوم على واقع الحياة السياسية الراهنة في بلادنا من دون (رضوض) تصيب جسد الدولة بمؤسساتها كافة بسبب جهالة الكثير من الخطابات السياسية . إلى جانب (الرضوض) و (الصدمات) فأن جراثيم الفساد الاداري والمالي تلعب دورها في نقل أمراض ناتجة عن (الرضوض) إلى وعي الشعب نقلاً سلبياً. هذا النقل يزيد – مثلاً - حالة الوهن العام في الجانب العسكري لمحاربة وجود داعش وإلحاق الهزيمة بها. كما يجعل المؤسسة القضائية غير قادرة على إشاعة حكم القانون ، كما تنمو جراثيم الفساد في كل مكان. اضافة إلى ما يؤديه (التردي) في الخطاب السياسي الناتج عن (الجهل السياسي) إلى اضعاف ليس فقط الوعي الجماهيري، بل تحطم كل دفاعات الشعور الوطني في اجهزة الدولة ، حيث الخطاب السياسي الجاهل يجرف بتياراته الطائفية والحزبية وظائف البنية التحتية . كما يجرف موظفيها إلى قمم الرشاوى وتزوير الوثائق والشهادات والتلاعب بحقوق الانسان العراقي تلاعباً ليس له مثيلا في العالم المتخلف كله.

في الواقع ليس هناك معادلة تفسيرية للخطاب السياسي العراقي الراهن غير وصفه انه بلا منهجية آللهم إلاّ المنهجية الفرويدية، التي صار روادها في العراق هم روادها في العالم ، كما تشير الى ذلك الاستطلاعات والدراسات العالمية .

الصدمة السياسية تستدعي، في العادة، عقلاً علمياً متزناً، لمعالجة آثارها ونتائجها، بينما نرى الصدمات السياسية العراقية تستدعي الجهل لدى غالبية السياسيين العراقيين، الذين لا يتقنون غير بضع (مفردات محدودة) في العلوم السياسية ، يكررونها ، كل يوم، وفي كل مناسبة. مثل هؤلاء لا يواكبون قراءة الدراسات والكتب الضرورية لرفع مستواهم الثقافي والعلمي وكل ما يتعلق بشؤون ادارة الدولة ،مما يخلصهم من الفوبيا المرضية ، من الجهل في العقلية السياسية والتخلص من مرض النرجسية .

أبهرتني يوم امس مشاهدة لقاء تلفزيوني على شاشة (قناة المدى) بين مندوبة برنامج (في بيت السفير) مع السفيرة السويدية ببغداد. وجدت ان المتحاورتين، المندوبة والسفيرة، كانتا على مستوى عالٍ وراقٍ من الحوار والتعبير عن العلاقات بين البلدين. كانت المندوبة من جهتها على رؤية واسعة عن الحياة في السويد. كما كانت السفيرة ،أيضاً، بمستوى كميٍ ونوعيٍ من المعلومات عن العراق حيث أكدت أن وظيفتها الدبلوماسية تحتم عليها الالمام بكل التفاصيل عن الحياة العراقية قائلة انها قرأت قبل استلام وظيفتها عددا من الكتب والتقارير بأقلام باحثين عالميين عن كل ما يتعلق بالعراق، تاريخياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً. غير أننا نجد الغالبية العظمى من السياسيين العراقيين لا شأن لهم بالقراءة والثقافة والعلوم ، لا علاقة لهم بقراءة الكتب والتقارير ومصادر المعلوماتية، سواء باختصاصهم أو في غيره. حتى نرى اغلبية نواب البرلمان العراقي لا يفهمون معنى استخدام (نقطة نظام) وهو المعنى الوفير في إدارة الاجتماعات العامة بلا فوضى، الذي يفهمه ويعرفه طلاب الروضة والمدارس الابتدائية في المملكة الهولندية مثلاً.

الخطاب السياسي العراقي تائه لا يملك فاعلاً تطبيقيا ولا يشكّل أي أهمية في الظواهر السياسية. في نهاية الأمر تظل الرؤية السياسية بمستوى أولي وسطحي إذا ظلّت ثقافة قادة الاحزاب، الحاكمة أو غير الحاكمة، أو إذا ظل قادة الدولة والبرلمان أدنى حتى من مطارحات الانترنت اليومية.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 16 – 5 – 2016

  كتب بتأريخ :  الجمعة 20-05-2016     عدد القراء :  3033       عدد التعليقات : 0