الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
البينة على من ادعى مبدأ منطقي معروف
بقلم : الدكتور ثائر البياتي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

الذي دعاني لكتابة هذا المقال، مشاهدتي لمناظرة مثيرة دارت باللغة الأنكليزية بين البروفسور ريجارد دوكنز، المعروف عالمياً في مواقفه الإلحادية والبروفسور طارق رمضان، المفكر الإسلامي السويسري، المختص في موضوع الفلسفة، من أكثر القيادات الإسلامية المؤثرة في اوربا. وهو حفيد السيد حسن البنا، مؤسس جماعة الأخوان المسلمين  ومرشدها الأول في مصر. دارت المناظرة حول السؤال: هل لا زال للدين أهمية في القرن الواحد والعشرين؟  ونشرت  في صفحات الأنترنيت في 22 تموز، 2016.  ما اثارني في المناظرة، العبارة الختامية للبروفسور طارق الذي قال فيها:  أن دوكنز نفسه لا يتمكن من “إثبات عدم وجود خالق للكون”. والعبارة المذكورة قد أُقحمتْ في المناظرة، فالبروفسور دوكنز في سياق كلامه، لم يدعِ عدم وجود خالق، لكي يبرهن صحة دعوته.  زادت الحاجة للكتابة عن المناظرة  كونها غير مترجمة الى اللغة العربية، فقررت ترجمتها وتلخيصها والتعليق عليها، عسى ان تعم الفائدة على اكبر عدد من القراء.

      يمكنكم مشاهدة المناظرة كاملة باللغة الإنكليزية على الرابط الأليكتروني التالي:

Prof. Tariq Ramadan & Prof Richard Dawkins debate

 

Prof. Tariq Ramadan & Prof Richard Dawkins debate  

في البدء اود ان أبين للقارئ الكريم ان الدكتور ريمون نجيب شكوري، في مؤلفه الأخير "صحوتي الفكرية” خص فصلاً لموضوع:   “البينة على من ادعى” إضافة الى مواضيع اخرى ذات علاقة، منها حجج وجود الله ومغالطات منطقية. والكتاب نـُشر حديثاً، ويمكن إقتناءه من الموقع الأليكتروني لأمزون:

http://www.amazon.com

تحت عنوان:

My Intellectual awakening

By: Dr. Raymond N. Shekoury

      في مستهل كلامه، أكد البروفسور دوكنز انه سيناقش موضوع الدين كباحث علمي،  مهتماً بقضايا علمية اصبحت واضحة للجميع يدعم بها استنتاجه في نهاية المناظرة الذي  جاء فيه : ان الدين يفقد مكانته يوماً بعد آخر ولا مكان له في القرن الواحد والعشرين.

أفتـَتـَحَ دوكنز المناظرة بذكر النص التالي من الكتاب المقدس:

السَّماواتُ تُحـَدثُ بمجدِ  اللهِ، والفلكُ يُخبرُ بعملِ يديهِ. ثم قال: هو ذلك الإله الذي تـُحدثُ السماواتُ بمجده، كنتُ ربما أعتقد به لو عشتُ قبل حقبة دارون، وهو الإله الذي إعتقدتُ به فعلاً، عندما كنتُ صبياً، أفكرُ كطفلٍ، ولكني عندما  كبرتُ واصبحتُ رجلاً،  وضعتُ الأفكار الطفولية والصبيانية جانباً، فاصبحَ الإلهُ الذي لو اعتقدتُ به، هو خالق مليارات المجرات ومليارات النجوم ومليارات الكواكب، إله الفيزياء والرياضيات وكل العلوم الأخرى،  ذلك الإله ينبغي ان تـُقدمَ له كل العبادات.

ليس من المعقول ان ذلك الإله العظيم، المشغول بشؤون الكون الشاسع، ان يشغل باله بصلوات الناس ودعواتهم وخطاياهم،  خاصة خطايا أحد مخلوقاته، الإنسان، الذي يعيش على كوكب الأرض، التي هي كحبة رملٍ بين مليارات الكواكب، في احد مجراته التي هي بين مليارات المجرات.

أيـُعقـَلُ ان ذلك الإله:

•       يـَشغلَ باله بمـَنْ يـُضاجعُ مَنْ مـِنْ مخلوقاته في الفراش ؟

•       يُحـَّملُ البشرية كلها، الخطيئة الأصلية، وهي الخطيئة التي يصعب محوها، خطيئة آدم  الذي طـُرِدَ من الجنة بسببها؟ آدم،  ذلك الكائن الذي لا وجود حقيقي له.

•       يـَرسلُ إبنه، المسيح،  كي يضحي بهِ، فـَيـُصلبَ، وَتـَسيلَ دِمائه، من أجلِ خلاص ِالبشرية، من الخطيئة الأصلية؟  تلك الخطيئة التي لم يرتكبوها أساساً.

ان الإله الذي تُحـَدثُ السماواتُ بمجده، إله الكون، حدد َالثوابت الكونية ورتبها وَهـَّيءَ الظروف الملائمة وأحكمها بما جعلَ ان تنبثق الحياة الأولى من المادة الأساسية، وجعل عملية التطور ان تستمر، فظهرتْ حيوانات جديدة، وبأشكال مختلفة، بسيطة ومعقدة، وكان وجودنا نتيجة ذلك التطور وثماره،  ولو فكرنا في وجونا بإمعان، وتفحصنا عيوننا مثلاً، كيف تؤدي وظائفها وأغراضها بدقة كبيرة؟ كنا عاجزين عن فهم اسرارها وخفاياها لوقت طويل، ولكن بفعل البحوث والدراسات العلمية المستمرة، فهمنا ما كنا نجهله، وعرفنا ما لم نعرفه.  ولو راجعنا التاريخ وكيف كان الناس يفكرون قبل قرنين من الزمن،  خاصة قبل الحقبة السابقة لنظرية دارون، لوجدنا أنهم، حتى أفضل الفلاسفة منهم،  كانوا يتصورون لابد من وجودِ مصممٍ للكون والكائنات

، صممَ وجودنا المعقد. وَمـَنْ يكون ذلك المصمم، فلابد إنه أعقد من تصميمه، وبنفس المنطق، ان ذلك المصمم بحاجة الى مصممٍ آخر أكثر تعقيداً، وهكذا دواليك. ففكرة المصمم وما تـَصـَوَرهُ الناس قبل نظرية دارون لا تفسر أي شيء.

ولكن نظرية دارون في التطور وميكانيكية البقاء للأصلح وعملية التغيير المستمر في عالم الأحياء وعلى مدى ملايين السنين،  تـُفسرُ لنا بطريقة معقولة،  كيف آلت الأحياء من بسيطة الى معقدة؟  وكيف انبثقت حيوانات مختلفة الأشكال وانقرضت حيوانات لم تتمكن من التآلف مع الظروف المستجدة؟ ان التطورات العلمية المختلفة ودراسة علم المتحجرات والجينات والجيولوجيا توثق وتدعم يوماً بعد يومٍ صحة نظرية التطور في النشوء والإرتقاء. ورغم ان معارفنا العلمية توسعتْ وتعمقت ْ ولكنها تبقى غير متكاملة، ما يجعلنا ان نـَقرَّ إنه هناك فجوات في معارفنا هنا وهناك، كما هي الحالة في جهلنا عن اصل الحياة وأصل الكون، غير ان هذه الفجوات في تقلص مستمر بأستمرار البحوث والأكتشافات العلمية. ان الفكر الديني يعتبر فجوات معارفنا العلمية عيوباً، وجهلنا في بعض الأمور نواقص، وحلاً للمشكلة، وغلقاً للتساؤلات،  يفترض وجود  اليد الإلهية في تلك الفجوات.  بعكس المنهج العلمي في تفسير الظواهر وفهمها بشكل منطقي وعقلاني، لا علاقة للغيبيات فيها. لكل  تلك الأسباب،  نقول لا مكان للدين والتفسيرات الدينية في القرن الواحد والعشرين.

أما البروفسور طارق فبدوره، لم يرد على كثير من طروحات البروفسور دوكينز، بل بدأ قائلاً: انا متعجب ان اسمع من شخص علمي كلاماً غير علمي، فمسألة، ان لا مكان للدين في القرن الواحد والعشرين، مسألة غير معقولة وغير مقبولة، فالدين حاجة مهمة للإنسان مثلما  العلم والفلسفة. فرغم ان العلوم والتكنولوجيا تطورت وازدهرت، لكن هناك أسئلة كثيرة محيرة،  بقت تشغل بال البشرية، كالسؤال: ما الغاية من حياتنا؟ وما الغاية من وجودنا؟ هي اسئلة خارج مجال البحث العلمي، تقع في مجال البحث الفلسفي والديني. ان حرصنا الشديد لتلبية الحاجات البشرية في القرن الواحد والعشرين ورغبتنا في مناقشة قضايا أخلاقية تهم الإنسانية، تدفعنا للتباحث والتشاور، لا للتباعد  والتنافر،  فكيف يمكننا القول  بأن رجال العلم لا يحتاجون الى رجال الدين؟  كما وان كثيراً من تلك الأسئلة المحيرة، لها أكثر من جواب واحد، وأسئلة أخرى ليس لها أي جواب،  وحتى ان بروفسور دوكنز نفسه،  لا يتمكن من ان يبرهن انه لا يوجد خالق.  فدعونا نتحاور ونتناقش معاً لنفهم ما هو دورنا في الحياة والوجود.  انتهت خلاصة المناظرة.

التعليق

ان البروفسور دوكنز لم يدعِ، في سياق كلامه،  “عدم وجود خالق”  كي يـُطلب منه إثبات ذلك، بل ان المؤمنين هم الذين يدعون وجود خالق،  فعليهم يقع عبء البرهان، تبعاً للمبدأ المنطقي، البينة على من ادعى، الذي خصه الدكتور ريمون بفصل في كتابه المذكور " صحوتي الفكرية"، ساذكر خلاصة ذلك الفصل.

      ان مبدأ البينة على من ادعى، مبدأ منطقي معروف يـُستخدم في أوساط كثيرة، كالمحاكم القضائية  والمناقشات العلمية والمناظرات الفلسفية المختلفة. والبينة تعني الحجة الواضحة والدليل والبرهان.

      ولتوضيح المبدأ قدم الدكتور ريمون في كتابه مثالاً، سأذكره مع تغيرات طفيفة. لو إدعى شخص أمين وصادق،  يعيش في قرية تقع أسفل قمة جبل ايفريست، ان هناك عملاقاً طوله عشرة امتار، عمره ألف عام،  يمتلك قابليات خارقة،  يعيش في قمة جبل أيفريست. فهل ينبغي على أهل القرية تصديق هذا الخبر المذهل من دون تمحيص وتدقيق؟

 الجواب حتماً سيكون كلا.

      وللتحقق من صحة الخبر، يتحتم على عقلاء أهل القرية، ان يهيئوا بعثة إستكشافية، افرادها من خبراء ثقاة، متزودين بكاميرات  تصوير ومعدات تنقيب  تساعدهم  على إستطلاع خفايا قمة جبل ايفريست، في البحث عن العملاق الخارق الذي يتكلم عنه أمين القرية وصادقها، ولا شك ان افراد البعثة على استعداد كامل  لأخذ صور  وتسجيل أفلام وثائقية    للعملاق او اثره، لتصبح مستمسكات إثبات وجود ذلك العملاق. ولكن اذا ما تكررت البعثات التنقيبية، ولم تجد أي اثر لهذا العملاق، وفشلتْ في مهمتها ولمرات متكررة  ولسنين طويلة. فهل ينبغي بعد كل ذلك على أهل القرية الأستمرار في تصديق دعوة  المدعي  بوجود العملاق؟

الجواب  العقلاني، بالتأكيد كلا.

      ولكن بعد فشل التنقيبات في إكتشاف العملاق وفشل المدعي من تقديم أي دليل معقول لصحة دعوته،  يتقدم المدعي  بفكرة بهلوانية، متحدياً أهل القرية، بقوله: اذا لم تصدقوني، هاتوا ببرهانكم على عدم وجود ذلك العملاق في قمة الجبل. هذه العبارة تقع ضمن مغالطات منطقية لمبدأ “البينة على من إدعى” فأهل القرية أساساً لم يخطر ببالهم  فكرة العملاق، ولم يـَدّعوا بوجوده او عدم وجوده، فكيف يـُطلبْ منهم برهاناً  في إثبات أي من الحالات؟   فالمدعي يحيلُ عبء البرهان الى جهة غير صحيحة،  كما فعل تماماً البرفسور طارق في نهاية المناظرة عندما أحالَ عبء برهان وجود الخالق الى البروفسور دوكنز.

فالبروفسور طارق، أما وقع في مطب هذه المغالطة المنطقية، وهذا غير مرجح  بأعتباره مختصٌ في الفلسفة، او ان غايته دغدغة مشاعر المؤمنين وأحباط عزيمة غير المؤمنين.

وأخيراً أجد التعارض والخلاف، لا التوافق والتقارب بين الدين من جانب والعلم والفلسفة من جانب آخر، وليس كما عبر عنهُ وتأملهُ البروفسور طارق. فالدين يتعارض مع العلم والفلسفة في أمور اساسية كثيرة، منها إدعاءه بإمتلاك حقائق نهائية وقطعية، تستند على غيبيات وقوى خارقة،  في تفسر ظواهر الحياة والطبيعة، بخلاف العلم الذي يفسر الظواهر بشكل عقلاني منطقي، خالي من الغيبيات،  بدءً من ملاحظات اولية ووضع فرضيات وصياغة نظريات قابلة للأختبارات والتجارب، لا تدعي المعرفة القطعية والنهائية في تفسير الظواهر، بل ان تفسيراتها نسبية، تتناسب مع فرضياتها. اما تعارض الدين والفلسفة فواضح ، إذ ان الفلسفة، حب المعرفة،  تسلك المنهج المنطقي في دراسة واختبار أفكار تخص معضلات اساسية في الحياة، تتعلق بالمادة والوجود، والقيم والفكر، تعتمد بطرح مقدمات وتستخدم محاورات منطقية عقلية للوصول الى استنتاجات ونتائج تخدم الفكر البشري، غير المعتقدات الدينية التي تفرض على  عقول الناس بوسائل الترغيب والترهيب وتغرس في عقول الأطفال منذ الصغر. ومن خلاصة المناظرة،  أجد ان الله الذي تُحـَدثُ السماواتُ بمجده، وذكره البروفسور دوكنز مراراً في المناظرة، لا علاقة له بإله الأديان، خاصة الأديان التوحيدية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام. فإله الأديان يـَحبُ ويكره وَيفرحُ ويغضب  ويكافئ ويعاقب، وما الى ذلك من صفات إنسانية أسقطها البشر على افتراضهم لوجود الله،  ما  يؤكد مع كل التطورات العلمية الهائلة،  أنه لم يعد هناك مكاناً او حاجة للدين في القرن الواحد والعشرين، لا بل هناك ضرورة ملحة في اعادة النظر في موروثاتنا الدينية، فأحداث التاريخ الطويل للدين، والأحداث المأساوية الجارية حالياً في شرق الأرض وغربها تشهد على بؤس الأفكار الدينية، وتبين فساد عقول كثير من الناس بسببها، ما يسبب القيام بأبشع الجرائم بحق البشرية والحضارة الإنسانية.

  كتب بتأريخ :  السبت 22-10-2016     عدد القراء :  2679       عدد التعليقات : 0