الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
المسيحيون العراقيون، متى يعودون؟

لابد أن تثير احتفالات المسيحيين العراقيين بأعياد الميلاد في بغداد وقرى ومناطق محررة من نينوى، على تواضعها، وقلتها، مشاعر متناقضة كثيرة تتراوح بين الفرح الغامر بعودة الروح إلى الوجود المسيحي العراقي، وبين الحزن على ما أصابهم من ظلم وتهميش وتهجير.

فإن فئة قليلة من الأجيال العراقية الجديدة تعرف الحقيقة. وهي أن العراق، قبل الفتح الإسلامي، كان وطن هؤلاء المسيحيين، دون شريك. وكان للكنيسة المسيحية إقليمان، إقليم بابل، أو أبرشية سالق أي (سلوقية)، وإقليم تكريت والبلدان الإثني عشر التابعة لها، ومنها سنجار ومعلثا وبانو هذرا في شمال العراق.

فمنذ القرن الثالث الميلادي بدأ انتشار المسيحية في العراق، شمالا وجنوبا. وكانت اللغة السريانية هي السائدة لغاية القرن السابع، حين دخلت اللغة الفارسية مع سلطة الاحتلال الفارسي.

وقد جلبت الحروب الفارسية والرومانية التي دارت رحاها على الأرض العراقية أقواما عديدة تمكنت من الاستيطان ومزاحمة السكان الأصليين، ثم جاء الفتح الإسلامي حاملا معه قبائل عربية مهاجرة، وأخرى مسلمة غير عربية، فتوطنت في مناطق العراق المختلفة، الأمر الذي قلص الوجود المسيحي إلى حد كبير.

ويؤكد التاريخ أن المسيحيين كانوا أصحاب حضارة وعلوم وفنون وآداب سبقوا بها الأمم الأخرى، وعلموا الشعوب المجاورة الكثير من العلوم والفنون والآداب، وكانت ثقافتهم تتميز بالتسامح والحرية والمحبة والسلام.

والغريب أن التاريخ يعيد نفسه على المسيحيين العراقيين. ففي القرن السابع الميلادي كان الغزو الفارسي لبلادهم، وقسوة جنوده، وتعصبُهم لديانتهم المجوسية ثم الزرادشتية، وتقاليدهم، ومحاولتهم القضاء على سلطة الكنيسة، وعلى دورها القيادي السياسي والثقافي والتعليمي سببا في نقمة أهل البلاد الأصليين وأحلامهم بالتحرر من ظلم الغزاة الفرس وتعسفهم، ولكن العين كانت بصيرة واليد قصيرة.

لذلك حين جاءت الجيوش العربية الإسلامية عام 637 إلى بلاد النهرين رحب بها العراقيون (المسيحيون)، بعد أن حصلوا على عهود بالأمان من الخلفاء، ومن قادة جيوشهم، طمعا في خلاصهم من قسوة المحتلين الفرس على أيدي الفاتحين المسلمين.

وحين دخل المسلمون العراق وجدوا سكانه المسيحيين أصحابَ حضارة وعلوم لم يكن يعرفها العرب القادمون من الحجاز ونجد واليمن.

فقد كانت الأديرة مدارس ومعاهد ابتدائية ومتوسطة وثانوية وجامعية يتعلم فيها الرجال والنساء علوم الفلك والطب والقانون والكيمياء والفيزياء وفنون الريازة والهندسة، والشعر والأدب، وفنون النحت والرسم والغناء والموسيقى.

وحسنا فعل خلفاء الدولتين الأموية والعباسية حين حافظوا على تلك المدارس، وخصصوا جوائز ومغريات لتشجيع أبناء المسلمين على دخولها، والأخذ من علومها وفنونها ما يستطيعون.

ويحدثنا التاريخ أيضا عن استعانة العرب الفاتحين بهؤلاء المسيحيين المتنورين المتعلمين لترتيب أمور الدولة الإسلامية الجديدة، وتنظيم أجهزتها الإدارية، إلى حد بعيد.

ومن أشهر علماء السريان حنين بن إسحق وأبو بشير ويوحنا بن جلاد ويحيى بن عدي والكندي وآل بختيشوع وغيرهم، الذين ألفوا وترجموا ونقلوا مختلف العلوم الطبية والفلكية ومن اللغات السريانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية، وأتحفوا المكتبة العباسية بمصنفاتهم وعلومهم، كما أداروا بيت الحكمة، وكان أطباءُ الخلفاء دائمًا من المسيحيين.

ومن يوم سقوط الدولة الإسلامية على يد هولاكو عام 1258 ميلادية والمسيحيون يتقاسمون مع ضيوفهم المسلمين جميع أوزار السقوط والحصار والمجاعة. ولكنهم صمدوا في مدنهم وقراهم وأديرتهم وكنائسهم، ولم يُهاجروا، كما فعل كثيرون من العرب المسلمين.

وفي أيام الدولة العراقية الملكية الجديدة في العام 1921 وضع المسيحيون العراقيون أنفسهم في خدمة الدولة الوليدة، على أمل أن يضمنوا حرياتهم الدينية والاقتصادية، ويحافظوا على هويتهم الثقافية والاجتماعية. وكان منهم أعلامٌ مسيحيون كبار خدموا اللغة العربية والثقافة العربية وحتى الإسلامية الفلسفية والفقهية، وأضافوا لها الكثير.

ولا يُنكر أنهم، على امتداد العهد الملكي، عاشوا بأمان، وتمتعوا بحرية عبادة، لم تكن كاملة، ولكنها كانت كافية لحماية تراثهم وثقافتهم وتقاتليدهم من الاندثار، أو من تعدي الدولة، أو المواطنين المسلمين عليها.

وقد ازدهرت كنائسهم وأديرتهم في بعض السنين، من عمر الحكم الملكي. وكان لهم وزراء مسيحيون، وموظفون كبار في الدولة ومؤسساتها وسفاراتها، وانتعشت حركة التأليف وطباعة الكتب الدينية والتاريخية المسيحية ونشرها.

ومن أول أيام الدولة الوليدة وإلى يوم سقوطها عام 1958 لم تستطع هجمةُ المسلمين، من العرب وغير العرب الوافدين إليهم من الخارج، أن تهدد وجودهم، أو تُضيق عليهم حياتهم، وتحتل مدنهم وقراهم، إلا في أضيق الحالات.

وللتاريخ نسجل هنا أن المسيحيين العراقيين، تحت حكم أحمد حسن البكر في السبعينيات، وفي عهد صدام حسين، في الثمانينيات والتسعينيات، تنفسوا الصعداء كثيرا، وامتلكوا حريتهم الدينية والثقافية والاجتماعية إلى حد كبير. فقد اهتمت الدولة برعايتهم، وأجازت لهم إنشاء كنائس ومدارس جديدة، بأقل القيود والحدود.

ويقول البعض إن نظام البعث فعل ذلك بدوافع سياسية مرحلية، هدفُه منها مغازلة الغرب المسيحي. وليكُن. فلو أن كل حكومة عربية إسلامية تطمع في رضا العالم المتحضر تتخذ قرارات، وتقوم بإجراءات متحضرة آدمية من نوع ما فعله البعثيون مع المسيحيين، لكنا بألف خير.

ورغم أن آلافا من الأسر المسيحية العراقية هاجرت نحو العالم الجديد، في القرن العشرين، لأسباب شّتى، سياسية واجتماعية وأمنية بالدرجة الأولى، إلا أن الغالبية العظمى منها تمسكت بالبقاء في أرضها ومدنها وقراها، محاولة تفادي الإكتواء بنيران التقاطعات والانقلابات والانفجارات والحروب التي تعرض لها المجتمع العراقي. فلم ينخرط في الأحزاب والمجماعات المتناحرة إلاّ قلة منهم تُعد على الأصابع.

ولكن العواصف المدمرة الحقيقية عادت تهب على المسيحيين العراقيين، بشكل خاص، بعد سقوط نظام صدام حسين، بسبب النفوذ الإيراني المتعصب، وظهور المليشيات الدينية المتطرفة التي راحت تتعمد القيام بعمليات اعتداء وتفجير وخطف بقصد إرهابهم، وحملهم على مغادرة الوطن، أو البقاء مُّهدَّدين بالاغتيال والنهب والاغتصاب .

ثم اكتملت الكماشة المتطرفة المتخلفة على المسيحيين في العراق بظهور داعش واحتلاله لأغلب مناطقهم في نينوى وصلاح الدين. ومعروفٌ ما قامت به عصابات داعش من قتل وذبح وحرق واغتصاب، ومن تدمير أديرة وكنائس ومعالم وآثار في مدن المسيحيين وقراهم، لتجبر الكثيرين منهم على الرحيل.

ومن يومها والعراق يخسر، كل عام، وكل شهر، وكل يوم، مجاميع متتابعة من أبناء هذه الشريحة المتحضرة المتنورة المسالمة، هربا إلى دول مجاورة، وإلى أوروبا وأميركا، بأعداد لم يسبق لها مثيل في تاريخ المسيحية في العراق.

وقد حذر، مؤخرا، تقرير دولي جديد من أن المسيحية تواجه خطر الاندثار فى العراق، فى غضون خمس سنوات.

ووفقا لتقرير آخر للبي بي سي فقد تعرض قسم من المسيحيين العراقيين لأفعال إجرامية، كالخطف والتعذيب والقتل، وتكررت بشكل خاص حوادث اختطاف واغتيال رجال الدين المسيحي.

وأشار تقرير البي بي سي إلى أن استهداف الكهنة المسيحيين يرجع لأسباب عديدة منها الدافع الديني للمتطرفين الذين يريدون إخلاء العراق من العناصر غير المسلمة، والدافع المالي الذي تعمل بناءً عليه عصابات إجرامية باستخدام الدين ذريعة لها في اختطاف رجال الدين وطلب فديات كبيرة لإطلاق سراحهم، مستغلين الوضع المالي الجيد الذي تتمتع به الجماعة المسيحية في العراق.

كما أن المسيحيين لا يحظوْن، كنظرائهم العراقيين السنة والشيعة والأكراد، بتجمعات عشائرية واسعة وقوية، أو مليشيات مسلحة توفر لهم الحماية والأمان.

بعبارة واضحة نقول إن الغزو الإيراني القديم الذي هجَّر المسيحيين في القرن السابع الميلادي، يعود نفسُه اليوم، متعاونا مع الغزو الداعشي، لتهجير من تبقى منهم في العراق. إنها لخسارةٌ كارثية لا تعوض. فهل يستعيد المسيحيون العراقيون أيام مجدهم في العراق، وهل يعود المهجَّرون منهم والمهاجرون؟

متى يعودون؟، وتعود معهم ثقافة الابتسام والعدل والمحبة والنور، لتأخذ مكانها، من جديد، بدل ثقافة الموت والخوف والكآبة والظلم والضغينة والظلام؟

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 27-12-2016     عدد القراء :  3051       عدد التعليقات : 0