الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الثامن من شباط 1963 الجرح الذي لم يندمل بعد !!

كنتُ قد غادرتُ موقف ناحية " المدَيَنة " , بعد توقيف دام شهرين , في اواخركانون الأول عام 1962 , وكانت زوجتي قد غادرتْ سجن النساء في البصرة , بعد توقيف دام خمسين يوماً . غادرت العائلة الى بغداد , مع بدء العام الدراسي الجديد , إذ ان زوجتي , كانت معلمةً في بغداد .

بعد اطلاق سراحي , بقيتُ في البصرة , حتى تتم موافقة الحزب على انتقالي الى بغداد , إذ كنت متفرغاً للعمل الحزبي .

وصلتُ بغداد , في أواخر عام 1962 , وكنت بانتظار التحاقي في التنظيم . بعد انتظارٍ امتد حتى نهاية كانون الثاني 1963

, بعثتُ برسالة الى لجنة التنظيم المركزي للحزب " لتم " , مع المناضلة البطلة , الفقيدة زكية خليفة , مستفسراً عن سبب تأخر التحاقي بالتنظيم .

في عصر يوم 7/شباط /1963 , زارني احد الرفاق من " لتم " ليبلغني باستلام رسالتي , وان سبب تاخر ارتباطي , هو تغيير اسمي الحزبي , فأوضحتُ له السبب , حيث اكتشفنا وجود شخص يعمل لصالح " الأمن " , جاءنا منقولاً من الرمادي , يدعى " عطا عبد القادر " , فاضطررنا لتغيير اسمائنا جميعاً ....وعدني بأن التحاقي للتنظيم سيتم خلال يومين أو ثلاثة .

في صباح اليوم الثاني, الجمعة 8/ شباط /1963 , وقعت الجريمة النكراء ...هبت الجموع العزلاء الى الشوارع لمواجهة المؤامرة ...

كنا نسكن منطقة الدوريين , مقابل المتحف الوطني ... التحقت زوجتي بتنظيماتها فوراً لتأدية الواجبات التي تُكلف بها , أما أنا فانغمرتُ مع الجموع الهادرة . توجهنا الى دار الأذاعة , حيث عشرات الأ لوف , وكان التلفزيون يعرض صورة للزعيم عبد الكريم قاسم , ومن هناك توجهت الجموع الى منطقة الشواكة في محاولة لعبور جسر الشهداء , ومنه الى  وزارة الدفاع ....في منطقة الرحمانية , اي قبل جسر الشهداء , خرج بعض المسلحين من منطقة الجعيفر والرحمانية , وهم يحملون رشاشات بور سعيد , ليوجهوا نيرانهم للجموع المتظاهرة ... توقفت التظاهرة , بعد سقوط عدد من الجرحى , كانت الجماهير عزلاء تماماً , وهنا تقدم عامل من المتظاهرين , وبيده مسدس قديم , كبير الحجم , صفقت له الجموع , حاول اطلاق النار على المسلحين , إلا ان المسدس لم يعمل , وهكذا اضطرت الجموع للرجوع الى دار الأذاعة  في الصالحية ,,, مواصلةً التنديد بالمؤامرة , ,,, من بعيد ظهرت دبابات تحمل صور الزعبم عبد الكريم , صفقت لها الجموع , وفتحت لها الطريق , وبعد ان طوقت دار الأذاعة , وأمنت مدخل جسر الأحرار , انزلوا صور الزعيم , وطلبوا من الجماهير ان تتفرق , وبدأوا بإطلاق النار في الهواء, عندها أحست الجماهير بخديعة صور الزعيم . حشرنا في أزقة الكريمات والشواكة , وتساءل بعضنا إن كان هناك سلاح لدى منظمة الحزب , وظهر انهم يملكون بندقية " برتا " ايطالية قديمة , ورشاشة بورسعيد , تناوب الشباب على استعمالها من رؤوس الفروع , وفي المساء كان عتادنا على وشك النفاذ , وسأل البعض , إن كان في المنطقة من يبيع السلاح , او العتاد , وأفرغنا ما في جيوبنا من نقود لشراء العتاد .

عصر الجمعة , وبعد دخولنا أزقة المنطقة ,  كان بعض الشباب يقفون على شاطئ نهر دجلة , وكان الطيارون المتآمرون يرشقوننا بنيران رشاشاتهم وهم يمرون فوق النهر , وقد نجا من الموت الصديق ناصر كَاطع الخميسي

( ابو قيس ) , إذ مرَتْ اطلاقة " الدوشكا " من جانب رقبته , لتنبت في الجدار خلفه , وقد سببت له جرحاً طفيفاً .

كان الكثير من عوائل المنطقة قد غادرت دورها , تحاشياً للقتال ... في منتصف ليلة الجمعة على السبت , وصلتنا رسالة من قيادة الحزب (1) , فيها تحية للمقاتلين الشجعان في الكريمات , وفيها معلومات عن سيطرة رفاقنا بقيادة الضابط الشيوعي الشجاع , خزعل السعدي , في منطقة الكاظمية , وهم يقاتلون ببسالة ضد الأنقلابيين ...وفيها طلب الأستعداد , لمساندة اللواء العشرين , الذي سيتحرك من معسكر الرشيد لقمع المؤامرة , وعلمنا لاحقاً ان مهمة قيادة اللواء أُنيطت بالضابط الشيوعي الشجاع " حامد المقصود " , الذي تسلل الى معسكر الرشيد , وقتل العقيد عبد المجيد التكريتي , آمر اللواء الذي نصبه الأنقلابيون , إلا ان الأنقلابيين حشدوا كل قواتهم لإعاقة حركة اللواء من تنفيذ المهمة , وأشيعَ ان جيش التحرير الفلسطيني , الذي أسسه عبد الكريم قاسم , دعماً للقضية الفلسطينية , كان له دورٌ قذرٌ في إعاقة تحرك اللواء العشرين , واعتقل الضابط الشهم حامد المقصود , إلا أنهم لم يقتلوه لإعتبارات عشائرية , وقد احالوه لمحكمة عسكرية , و تمكن من الهرب , في احدى جلسات المحكمة ...تحيةً له أينما يكون , من كل عراقي مخلص .

في مساء السبت على الأحد , نفذ عتادنا تماماً ...في صباح الأحد , وبعد ان شعروا بنفاذ ذخيرتنا , قرروا دخول المنطقة

, بعد ان مهدوا لذلك بإطلاقة او اثنتين من احدى الدبابات المحيطة بالمنطقة , وبدأوا يفتشون الدور بحثاً عن المقاومين .  كنتُ وستة من الشباب في احدى الدور , وكنا نسمع صيحاتهم ووقع اقدامهم , تقترب , أقترحتُ على الشباب , اتلاف ما في جيوبهم من اوراق , او مستمسكات تنفع الأنقلابيين ....كانت اجواء الأحباط والأنكسار قد خيمت علينا , ومعها أطل شبح الموت الذي يداهمنا في اية لحظة . سألني احد الشباب , بعد ملاحظتي اعلاه , " رفيق اذا لزمونه يعدمونه ؟ " ,,أجبته , نعم .

عاد الصمت القاتل , , وطُرقت باب الدار التي بجانب الدار التي كنا فيها , قلت للشباب , لن نفتح الباب إذا طرقوها , قد يتوهمون ان الدار خالية ويتجاوزونها ...ساد السكون من جديد , وكنا نسمع صيحاتهم , أفتح الباب , افتح ... هنا حدثَ ما لم يكن في الحسبان ,,, فبعد ان فتشوا الدار التي بجانب الدار التي كنا فيها , تجاوزوا " دارنا " وتوجهوا الى الدار التالية ...لم يستغرق التفتيش وقتاً طويلاً , فغالبية الدور كانت خالية , وغالبية الشباب كانوا قد غادروا المنطقة تحت جنح الظلام ,,, بعد ان تأكدنا من انسحابهم تماماً , بدأنا بمغادرة الدار .

كانت دار ابن خالتي  المرحوم كامل تايه ( ابو ماجد ) على بعد خطوات , طرقت الباب , سألت عنهم وعن اولاد عمي

المرحوم عصام واخيه عبد القادر حسين سالم , فطمأنوني عنهما ....غادرت المنطقة , متوجهاً الى دار المربي الفاضل

حسين سالم المراني , التي تقع بالقرب من جامع الشاوي , بعد الأذاعة باتجاه جسر السنك , سألت عن وضعهم , فطأنوني , إلا انهم لا يعلمون شيئاً زوجتي ,,,, بعد أقل من عشر دقائق , وصلت ْ سالمةً , إلا انها منهكة تماماً ...غادرنا الى دارنا , حيث أبي وأمي واختي , الذين تركناهم في الدار .

ومنذ ذلك اليوم الأسود , بدأت مأساة شعبنا الدامية الى يومنا هذا .

 

1- قيل ان المناضلة د. ليلى الرومي هي من اوصلت رسالة قيادة الحزب .

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 14-02-2017     عدد القراء :  2586       عدد التعليقات : 0