الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ليكُن حضوركَ بلا زمن، وليكن غيابكَ حاضراً أبداً

(( ليكُن حضوركَ بلا زمن، وليكن غيابكَ حاضراً أبداً، ونحنُ بينهما نحبك مدى الدهر،أيها الراحل العزيز نبيل ميشو )).

كان أخي الراحل نبيل ميشو يكبرني بثلاث سنوات، لِذا كان بالنسبة لي .. أخي الكبير ومعلمي وقدوتي وصديقي وشريكي في غرفة النوم لسنين طويلة قبل أن نفترق ذات مساء في شهر june - 1974 حين ترك عمله وجاء ليودعني وأنا أركب شاحنة سفر متوجهة بي عبر سوريا إلى لبنان ومنها السفر إلى أميركا، مغادراً وطن أجدادي وجذوري إلى الأبد، كما تُغادر العصافير المهاجرة .

إحتضنني وقبلني من خلال نافذة تلك الشاحنة التي كانت على وشك الإنطلاق، وخلال تلك اللحظات القصيرة لم ينطق أي مِنا بكلمة واحدة خوفاً من أن ننفجر!، كان كلانا يحبسُ في داخلهِ زوبعة بكاءٍ ودموع، لكننا صمدنا خلف متاريسنا الشرقية الخجولة القديمة التي كان بودها أن تصرخ بحكاياتٍ عتيقة عن علاقة أخوية طيبة حميمية ربطتنا معاً خلال كل سنين الإغتراب الروحي والمعاناة والقمع من كل نوع في بغداد الحبيبة!.

كانت تلك آخر مرة رأيتُ فيها أخي النبيل الأخلاق نبيل ميشو، ولستُ مُبالغاً أو مُدعياً لو قلتُ بأني أحسستُ يومها بأنني إنما أراه للمرة الأخيرة !، كان مجرد حدس حسي تحقق فيما بعد .

في العراق وأثناء حكم صدام حسين كان بعض من هم ليسوا بعثيين يُجبَرونَ بطريقةٍ أو بأخرى على "التطوع" للمشاركة في الحرب الغبية العراقية الإيرانية، أو لنقل الحرب الشخصية الأنانية بين صدام والخميني!. وكانت وسائل (التطوع الإجباري) كثيرة ومتنوعة ومُخيفة أحياناً، وخاصةً لهؤلاء الذين كانوا منتمين للحزب الشيوعي العراقي سابقاً، ومنهم أخي نبيل!.

كان "التطوع الإجباري" عملية ذكية كضرب عصفورين بحجرٍ واحد، أن يتم تجميع آلاف "المتطوعين" ومن ثم إرسالهم إلى الجبهة الأمامية مباشرةً لغربلتهم كي يكونوا وقوداً لمحرقة الحكام الظلمة، وأيضاً للتخلص من غالبية العناصر التي لم تكن موالية للريس "الضرورة" وحزبهِ الحاكم!. ويٌقال -والعهدة على الراوي- بأن من كان ينجو من الموت المُحتَم في الخطوط الأمامية كان يموت برصاصة في ظهره !!.

لا أحد يدري كيف مات أخي نبيل، لكنه وبعد الأسبوع الأول من إرساله إلى الخطوط الأمامية في جبهة (ديزفول) لم يعد !!، ولم يُعثر على جثته، ولم تستلم زوجته أو أمه وأباه أي خبر عنه أبداً!. هكذا … وبكل بساطة … ضاع من على وجه الأرض وتم إعتباره من المفقودين ولحد اليوم !.

علماً بأن جثث الجنود القتلى من كِلا الطرفين كان يتم عمل حفر كبيرة لها بواسطة البلدوزرات ومن ثم دفنها جماعياً !!، لم يكن أي من الطرفين المتحارِبَين يهتم بالحصول على هويات قُتلى العدو بُغية إرسالها إلى الطرف الآخر عن طريق الصليب أو الهلال الأحمر أو بقية المنظمات الإنسانية الأخرى!. فالعراق وإيران لم يتم إعتبارهما من الدول المتحضرة التي تُطبِق قرارات هيئة الأمم المتحدة أو بنود وشروط معاهدة جنيف في معاملة الأسرى أو جثثهم، ولا زالوا غير متحضرين في مسألة تطبيق أي نوع أو حق من حقوق الإنسان للأسف الشديد.

قُتل أخي نبيل ميشو خِلال الأشهر الثلاثة الأولى للحرب العراقية الإيرانية، وقُتل أخي الأصغر مني بتسع سنوات (فيصل ميشو) في الأشهر الثلاثة الأخيرة لتلك الحرب المجنونة. وللعدالة والحق أقول بأن نصف مليون جندي عراقي قُتلوا في تلك الحرب العبثية اللئيمة، عدى المصابين والمعوقين والمتضررين جسدياً وعددهم مجهولٌ ولم يُنشربأرقامه الحقيقية خوفاً من الفضيحة !. وحين أنظر للخراب والمصائب التي أصابت غالبية العوائل والناس في العراق تهون مصيبتي من خلال مشاركتي الوجدانية لمن فَقَد أكثر بكثير جداً جداً جداً مما فقدتُ أنا وأخواتي وعائلتنا.

لا أود أن أفعل ما يفعله عادةً بعض الناس حين يبذِخون ويُطنِبون ويُسرِفون في تزويق أخلاق ومحاسن ومزايا وصِفات موتاهم !، لكني فقط أقول ومن قلب صادق بأن أخي نبيل كان إنساناً متواضعاً، مسالماً جداً، مَرِحاً ومحباً للفرح والسعادة، متفتحاً للحياة، وسعيداً بالقليل الذي كان يُزين حياته. ولا أتذكر ولو لمرة واحدة أنه حاول أن يؤذي أحداً عن عمد.

لستُ أرثيه هنا أو أبكيه أو أندبهُ، فأنا أكره الرثائيات والبكائيات التي تحاول إثارة عواطف الناس. لكنني فقط أحاول أن أعَرِف بعض الناس به وعليه ولأول مرة بمناسبة عيد ميلاده المصادف اليوم February - 22 مُقدماً له باقة ورودٍ عطرة اُرفقها بحبي وإحترامي الأبدي. لِذا أرجو مِن كل مَن سيتكرم علينا بكلمة أو سطر أن لا يُرسل لنا كلمات التعازي، فلسنا في مأتم، بل علينا تقديم التهاني والورود بعيد ميلاده وذكراه الطيبة.

خَلفَ أخي نبيل طفلاً وطفلة (غسق ونورا)، بقوا تحت رعاية زوجته الطيبة الأخت (جليلة)، كذلك ساعد في تربيتهما والدي ووالدتي قبل موتهما. كبر أطفاله وهاجروا مع أمهم إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل عدة سنوات، وتزوجوا، وخلفَ أبنه غسق ميشو ولدين ذكرين عُمر الأول الآن سنة ونصف وعمر الثاني عدة أشهر، وسماهم ( نبيل و باترك ) تيمناً بإسم والده الراحل نبيل ميشو.

جميعهم اليوم سعداء وبأمان وصحة جيدة وراحة رغم إفتقادهم لوالدهم الغائب، لكني أحاول -وبقدر إستطاعتي- أن أكون لهم عماً ووالداً، والأكثر من ذلك صديقاً متفهماً لكل ما في حياتهم من افراح وأتراح وعسى أن أتوفق في مهمتي .

قد تمرُ الأيام ..

ويطول غيابي

قد يملأ الغُبارُ غرفتي ...

ويصدأ المفتاحُ ببابي

وفي الليالي الحالكات …

حين تعلو العاصفات

سأسمعُ نحيبكم المرير …

في زوايا بيتنا الصغير

سأكون حولكم أحبتي …

أتجولُ من غرفةٍ لغرفة …

ومن بابٍ لبابِ

قد تحسبوا قصف الرعود خطواتي …

وتُشاهدوا فوق جدارِ الوهمِ ظلي

قد يجولُ برأسكم حلمٌ عن عودتي

لكنني أحبتي …

سيطول غيابي …

وسيبقى الغُبارُ يملأ غرفتي

والمفتاحُ يئنُ ببابي .

*****************************

* قمتُ بتأليف هذه الأبيات الشعرية بعد سنوات من إختفاء أخي نبيل، وبعد أن يئستُ من إمكانية وجوده كأسير على قيد الحياة، لكنني إحتفظتُ بها لنفسي، وهذه هي المرة الأولى التي يقرأها أحدٌ غيري.

* هذا المنشور ليس فقط لأخي الراحل نبيل ميشو، بل لكل عراقي وعراقية ماتوا وفُقدوا في حروب الحكام المسوخ الذين حولوا أول حضارة على وجه الأرض إلى أقبح حضارة تزحف في نهاية مسيرة الشعوب المتحضرة المتمدنة التي تفهم قيمة الإنسان .

* في الصورة الأولى أخي نبيل ميشو على اليسار وأنا على جهة اليمين .

* في الصورة الثانية ومن جهة اليمين: الصديق عماد تومي جميل - يعيش اليوم مع عائلته في ولاية ڤيرجينيا أخي الراحل نبيل ميشو الصديق فارس توماس أورو - يعيش اليوم مع عائلته في سانت دياكو-أميركا ثم حضرة جنابي على يسار الصورة .

المجدُ للإنسان.

طلعت ميشو. February - 22- 2017

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 22-02-2017     عدد القراء :  3198       عدد التعليقات : 1

 
   
 

نامق ناظم ال خريفا

ذكريات مؤلمة عانى منها الكثير من العراقيين وخاصة عوائل المفقودين لانهم لايحسبون مع الاموات او الاحياء وتبقى القلوب دوما متلهفة لمعرفة مصير احباءها وتتشبث بخيط الامل الواهي لعله حي اعانكم الله على بلواكم قدمتم للعراق شهيدين ويالها من تضحية .