الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
بمناسبة عيد العمال العالمي الشهيد القائد الياس حنا كوهاري

ولد الياس في القوش عام 1928، والده حنا هرمز ككا الملقب گوهاري(1) ، وگوهاري اسم إمرأة كردية من قرية سيْدا( سيدايه) خلف جبل القوش، كانت تاتي مشيا كل يوم لترضعه بسبب مرض طارئ ألمّ بوالدته إنو سيبو ككساكو. والدته موني ابنة صليوا ابن القس عوديشو من بيت خدو الذي يرجع اصلهم الى قصر أيزدين، وبيت جده لا زال قائما عند قنطرة اودو الشهيرة. دخل المدرسة الابتدائية في مبنى مار ميخا اواسط الثلاثينات، وكان أول مدير له  بطرس نعامة من اهالي الموصل، وقد بنى داراً في أعلى محلة قاشا عند الجبل، ولا زالت تلك الدار  قائمة، ثم المدير خليل لعلي، والمدير ابراهيم رسام، والمعلمون الذين درس على أيديهم كل من القس فرنسيس حداد، والقس عبد الأحد عوديش، نجيب غزالة، فرنسيس كرمو، الياس مدالو، وغيرهم.

كان تلميذاً نجيباً، مؤدباً، وخلوقاً، هكذا تحدث عنه معاصريه، حتى انهى الابتدائية في أوائل الأربعينات، فالتحق بثانوية الصناعة في الموصل، وهناك وجد نفسه في واقع أكثر انفتاحاً وأصبحت له علاقات مع أقران من مختلف المناطق. وبعد تخرجه منها عمل في شركة نفط العراق( آي ﭙي سي) في كركوك، وعند اندلاع مظاهرات العمال المطلبية، شارك فيها بفعالية في أوائل تموز 1946 والموقع گاور باغي(2) ، تعرض المضربون لاطلاق الرصاص، فسقط عدد من العمال قتلى وجرحى، وفي تلك الفترة رُشّح الى الحزب عن طريق ابن بلدته المرحوم أفرام عمّا(3) .

في كركوك صار يعمل في السياسة وفي نقابة النفط، وارتبط بأشد الأواصر مع العاملين في تلك الأوساط، وخصوصاً من اهالي بلدته منهم: عبد الرحيم اسحق قلو، الياس ميخائيل صفار، حسقيال يوسف قيا، يكتب توما توماس في مُذكّراته كيفية اهتدائه الى الحزب ما يلي: مواقف الضباط الانكليز المتعجرفة، والمد الديمقراطي المتصاعد، ومراسلات الشهيد الياس حنا گوهاري(4) .

كان يمارس النشاط الوطني باخلاص واندفاع وشعور عالي بالمسؤولية، فيما كانت سلطات العهد الملكي وشركة نفط العراق الذي يعمل فيها تعتبره نشاط هدام في( عرفها وقوانينها) لذلك اصبح الياس مستهدفا من الشرطة ولا سيما مشاركته البارزة في اضراب گاورباغي الشهير، وفي وثبة كانون المجيدة. لتلك الأسباب لاحقته أجهزة الشرطة وداهمت بيته في كركوك، واضطر لترك العمل والتوجه الى الموصل مشياً على الأقدام لتلافي المفارز الحكومة، حيث كانت تعيش شقيقته نني( زادو) التي كانت تكبره حوالي عشرة سنوات، ثم قدّم الى شركة نفط الموصل( إم ﭙي سي) في عين زالة(5). الفترة التالية خير من يتحدث فيها صديقه السيد توما متي حداد (6) فيقول في حديث شيق ومطول بتاريخ 7- 2- 2017 ما يلي وهو لب موضوعنا بأكمله:

يوم 10- 9- 1952 ذهبت الى  الاستعلامات، ثم الدائرة فكان اسمي موجوداً، فنسّبتني الإدارة الى قسم الانتاج محطة عزل الغاز، ثم اصطحبني احدهم الى غرفة فيها أربعة أسرة، لأسكن فيها مؤقتاً، وبقيت في الغرفة أرتّب لوازمي. عند الساعة الرابعة عصراً، دخل شخص مهيب الطلعة، ممتلئ الجسم، متوسط الطول، بادية عليه ملامح الذكاء، فحيّاني بلغتي السريانية( ܣܘܪܬܼ) ورديت عليه الجواب، جلس قليلاً، ثم قال: انا الياس حنا كوهاري، اعمل هنا رئيساً للعمال في محطة التوليد، فقلت: أهلاً بك، وانا موظف تعيّنت لأول مرة، إسمي توما حداد من بلدة كرمليس. ثم تحدث معي بأننا سنسكن معا في هذه الغرفة، وقال كلمات لازالت ترن في أذني، بأن أكون في الطليعة، مثل حصان في السباق، فاذا تأخر تدوس عليه الأحصن الأخرى وتمضي. كلّما إستطعت أن تقرأ فأقرأ، ويبدو عليك مُطلعا جيداً، فنحن لا يفيدنا الا هذا الطريق. كان الياس يكبرني عدة سنوات وهو بعمر قريبي بهنام افندي( 1927- 2015) ذلك ما قاله لي بهنام سليمان بانه درس مع الياس في اعدادية الصناعة بالموصل، قال لي الياس: هل تعرف بهنام؟ قلت: هو قريبي، فقال: انه ذكي، له اسلوب جيد في الكتابة، لكن علاقاته الاجتماعية مقتصرة على الموصليين، وقد أخبرني بهنام ايضاً بان الياس كان ذكياً ومجتهداً، منذ أيام الدراسة تلك.

قلتُ لمُحدّثي" هل كان الياس سْتاڤ( موظف) ؟ قال: لا، فلو بقي كان يترقى الى تلك الدرجة، كما الحال مع توما توماس الذي كان ستاڤ، توما توماس كان خريج اعدادية وعين لأول مرة رئيس كيّالي النفط( ﭼيف گيجر) ، الياس هو الآخر كان يعمل في كركوك، لم أعرف لماذا جاء يعمل في عين زالة. ولكني عرفت فيما بعد بأنه كان عنصراً فعالاً وشارك في النضال الوطني الديمقراطي، لقد ترك العمل هناك واشتغل في عين زالة، لم يقولوا له شيئاً لانه كان معروفاً، في السيرة والعمل معاً.

عندما كنا نجلس في العصر بعد الدوام، كان العمال يتحلّقون حوله كل يوم، وهو في ريعان شبابه آنذاك، ويطلقون عليه لقب أستاذ باحترام، كان متكلماً جيداً ويجيد اللغة الانكليزية، كان يساعد العمال كثيراً ويسهم بفعالية في حل مشاكلهم، واذا احتاج احد الى استراحة مؤقته كان يحل محله، ويتكرر هذا المشهد كل يوم تقريباً، واذا طلب احدهم رخصة فكان يوافق على الفور، وعند عودتهم من الإجازة كان موضع امتنانهم وتقديرهم، وحتى الانكليز فكانوا يحترمونه لمعرفتهم بإلتزامه الرائع بالعمل، وتحقيق النتائج التي كانوا يتوخونها في قطاع عمله. عمل معنا في تلك الفترة كل من: نوئيل( خجيجه) ساكو، سمحيري ساكو، بيبو ساكو، الياس توسا، حنا أبونا، عزيز عيسى، رزقو ميخا حنطية، سعيد ايليا، سمعان اسطيفان، شمعون ككّونا وغيرهم، اضافة الى العديد من الآثوريين الذين قدمو بعد تسريحهم من جيش الليفي، فكانوا يجيدون الانكليزية كتابة وقراءة، وطلقاء في التكلم بها، يكاد لا يضاهيهم احد.

عشنا معاً عدة  أشهر من ذلك العام وأعتقل بعد ذلك، والى الآن لا أعرف سبب إعتقاله، لكني اذكر يوما دخل احدهم ونحن جالسين نتحدث كالعادة، واعقبه مدير الشرطة وعدداً من افراد الشرطة، سمعتهم يقولون بان الذي دخل هو مُتصرّف لواء الموصل واسمه سعيد قزاز، سلم علينا وسأل عن احوالنا، فأجابه الياس عن كل أسئلته بجرأة وعقلانية، ثم غادروا دون ان يعتقلوه.

نصحني بان اقرأ مسلسل " كتابي" لصاحبه حلمي مراد، فأقتنيت اجزاء منه وصرت اقرأ فيها، فيما كان هو يقرأ الجرائد والكتب المجلدة دون ان يطلعني عليها، ولا في يومٍ قال اقرأ ما لدي ابداً، ولم يقل لي او يطلب مني الانتماء الى أي حزب، وقد قال لي يوما ان الانسان عندما يؤمن بفكر ما، يكرس كل وقته واهتمامه في ذلك الاتجاه، دون ان يتخلى عنه، كان يعبر عن عدم قناعته بالناس حوله. ذهبت في اجازة وبعد عودتي سمعت بعضهم يقول" صاحبك اعتقلوه" . فقلت لماذا، فقالوا" شيوعي" وسألوني: ما رأيك به وانت تعيش معه في نفس الغرفة، فقلت: كنا نتحدث بمختلف المواضيع، باستثناء موضوع السياسة، ولم نتطرق الى ذلك الجانب أبداً، ثم عقب احدهم قائلاً: وماذا فيها كونه شيوعي، انه مدافع عن الحق، ولولاهم لما حصل احد زيادة فلساً واحداً على يوميته.

انقطت اخباره تماماً وانا مستمر في العمل حتى عام 1959، في احد الايام سمعنا بوصول وفد من بغداد، مكون من الياس حنا، وآرا خاجادور، واثنين من الموصل(7) لا اعرفهم، وانا في طريقي الى النادي مع سعيد ايليا( كرمليس) ، صادفناهم فوقعت عيني عليه، وهو في وسط الجماعة، فصاح: اهلاً بالاستاذ واحتضنّا بعضنا، ثم سألني عن احوالي، فاجبته باقتضاب والجميع وقف مشدوهاً، ان كيف اعرف هذا الرجل الشيوعي، ومنتسبوا عين زالة يعرفونه رجلاً محترماً، لم يقم بعمل مسيء، بل كان مدافعا حقيقياً عن العمال، وإعتقلته الشرطة في السابق دون شائبة في حياته هنا في عين زالة، عندها قال لي: اريد ان ألتقي بك، فقلت: على الرحب والسعة، وفي الليل زارني في غرفتي. في تلك الليلة سألني عن رأي الناس بالشيوعيين، فقلت له: تصرفات بعضهم ليست على ما يرام، يتنصلون عن العمل بحجة توزيع الجرائد والمنشورات في دوائر الشركة، قام الياس واحتضنني قائلاً: انك على صواب، وشكرني على كل كلمة تفوهت بها، ثم قال: بسببهم سيأتينا يوم اسود، وفعلاً جاء اليوم الأسود وجرف معه الانسان المثال الياس حنا كوهاري عام 1963. حرامات يموت الياس، عند سماعي بموته بكيته بحرقة ومرارة. واختتم الأخ توما حديثه بالقول : ان الياس كان مدرستي في الحياة، كان لا يدخن ابداً، ونادراً ما يجلس في النادي، ولا يشرب الا في المناسبات، تعلمت منه الكثير، فعندما كنت أقرأ صامتاً كان يقول لي ارفع صوتك في القراءة فتصبحوا إثنين! وتعودالفائدة للحفظ وحسن النطق( انتهت المقابلة) .

كان والديه يعرضون عليه الزواج فيرفض، وفي نيته ان يكرس كل وقته لقضية الحزب، ولكن إلحاحهم أثمر في خطب احدى قريباته، وهي المرحومة نعمي ايوب رمو في القوش، ثم كانت حفلة زواجه في نادي" أخوات الرفق بالفقير" ويا لها من مصادفة ان تكون عشية الثورة الخالدة في يوم الجمعة الموافق 4- تموز- 1958. اثمر الزواج عن ولادة: طليعة، منال، وطلعت.

تفرغ للعمل الحزبي وخصصت سيارة له نوع سكودا(8) ، واصبح قائداً عمالياً بارزاً وعضواً فاعلاً في لجنة بغداد، وعند تقديم طلب إجازة الحزب الى وزارة الداخلية، كان الياس ضمن 15 اسم الموقعين عليه. في فترة النهوض الثوري بعد ثورة 14 تموز المجيدة، شمّر عن ساعد الجد وقد صُقل معدنه بفكر العمال وقضيتهم، واختبرته السجون والمعتقلات الرهيبة، من سجن بغداد المركزي الذي شهد قتل عدد من المضربين عام 1953، وسجن نكرة السلمان، فلمع الياس قائداً في معمعان النضال، وعند حصول مطاردات لأعضاء القيادة كان منزله يأويهم ومنهم عبد القادر البستاني، فغدا ذلك البيت البسيط بيتاً حزبياً بكل معنى الكلمة. كان لألياس اصدقاء منهم: الشهيد البطل مهدي حميد، جاسم محمد الرجب، نوري روفائيل كوتاني، هادي امين السقا، الشهيد البطل عبد الاحد المالح، واخيه متي المالح، حنا قلابات، وكان معجبا بكل من طلعت الشيباني استاذ كلية التجارة والاقتصاد، والاقتصادي المعروف د. ابراهيم كبة. وخير من يستذكره في تلك الفترة رفيقه ابراهيم الحريري الذي كتب( ولم يبق الاّ ان ياتي الرفيق الياس حنا كوهاري ابو طلعت، المكلف بالأتصال بي حتى انعقاد اجتماع المركز الحزبي العمالي، قيد الأنشاء، عندما سمعت قرعا على باب البيت. هرعت لفتحه. كان الرفيق الرائع ابو طلعت على الباب بكل حضوره الهادئ، الباعث على الاطمئنان) . وكتب عنه الدكتور كاظم حبيب" وما كلمات الشهيد البطل الياس حنا كوهاري الذي استشهد في قصر النهاية مع رفاقه سلام عادل وجمال الحيدري الا دليل على اخلاصه لحزبه وشعبه بعد ان مارسوا كل انواع التعذيب ولم يفشي اي سر من اسرار الحزب وهي، اذا عذبتونا نصمد واذا قتلتمونا اصبحنا شهداء ولكن جهودنا تبقى وانتم تنتهون" .

ومن يستطيع الكتابة عن الشهيد خير من شقيقه هرمز المولود عام 1933، وخريج كلية التجارة والاقتصاد، وضابط احتياط في الجيش العراقي، وكاتباً محترما في موقع( الحوار المتمدن) فيقول ان البيت في كركوك دوهم من قبل الشرطة والياس بالصدفة كان مسافرا الى القوش، وعند عودته أخبرناه بكل شيء، فترك كركوك قاصداً الموصل مشياً على الأقدام، واحيانا الإستعانة بالتراكتورات تجنباً للمرور بنقاط السيطرة والمفارز الحكومية، حتى وصل بيت أخته الذي بقي فترة مختفياً عندهم، وذلك في عام 1948.

وبعد انتفاضة تشرين الثاني 1952 اعتقل الياس في بيت اخته بالموصل، وسيق الى بغداد وشارك في اضراب سجن بغداد المركزي، الذي استشهد فيه عدد من السجناء السياسيين، يقول رجل آخر من معارفه بان مدير السجن دعاه اليه وطلب منه ان يتعاون مع أجهزتهم فأجابه" هل تريدني أن أصبح قَوّاداً مثلك" كان جوابه السبب في تعرضّه لمزيد من التعذيب والنقل الى نگرة السلمان في أعماق صحراء السماوة، عرض عليه الخروج بكفالة فلم يقبل، وبعد انقضاء محكوميته تفرغ للعمل الحزبي وعمل فترة في البصرة حيث تتلمذ على يديه جوج يوحانا، نزيل سجن نگرة السلمان فيما بعد، واخيه فؤاد( ابو ايار) الصغير آنذاك، والذي استشهد في عمليات الانفال عام 1988. ويكتب هرمز ايضاً، عندما رآه للمرة الأخيرة يقود سيارته صبيحة 8 شباط الدموي، وكانت الى جانبه زوجته سلطانه الياس مدالو، وقد اعتقل هرمز قبل الياس، وكان من أوائل نزلاء سجن خلف السدة، وبعد خروجه سمع قصص الناس عن صموده الأسطوري وإستشهاده. الراحل عبد الرحيم قلو التقى سجينا في سجن الحلة عام 1964 كان مع الياس في قصر النهاية فقال ذلك السجين" التقيت به وهو في وضع مأساوي لايوصف من شدة التعذيب الوحشي الذي تعرّض له على يد مجرمي الحرس القومي الأنذال وقال ان اثار التعذيب الوحشي كانت تغطي جميع انحاء جسمه، فضّل متروكا بأحدى زوايا الغرفة دون أن يستطيع الحركة". يقول هرمز بان شقيقه ضُرب به المثل، وسمعت من أحد الشيوعيين قيل له في التحقيق" هل صرت الياس كوهاري لا تعترف" !!!.

بقي الياس طليقا لمدة شهر بعد وقوع الانقلاب الأسود، في تلك المدة عاشت عائلة القيادي في الحزب( ام سلام) بهاء الدين نوري في بيتهم، وفي تلك الفترة الفاصلة من حياته عرض عليه حنا رمو شقيق زوجته فكرة تهريبه الى الشمال، فرفض قائلاً: الآن أوان العمل، وسنُفشل الإنقلاب، ولكن الإنقلاب ثبت نتيجة التحالف غير المقدس بين الرجعية الداخلية والقوى الأقليمية والمخابرات الدولية، وكان يوم 9 اذار 1963 يوم اعتقاله بوشاية من احد المنهارين، وبعد فترة قصيرة توسط بعض اقاربه لدى أحد قادة الحرس القومي، فرجع اليهم قائلاً: للأسف قضى في التعذيب، عندها شاع خبر استشهاده البطولي، وكان أشد ايلامأً على زوجته واطفاله، وكذلك والدته، ووالده الذي لم يتحمل المصاب الجلل، وادى فيما ادى الى اصابته بالعمى، ورجع الوالدين الى القوش ليقضوا بقية عمرهم في الآهات. عند التحاق بطرس رمو بالثوار، كان كلما سنحت الفرصة يزور والدي الشهيد، فكان العم حنا يتكلم  عن اخبار الفلاحة والفلاحين في البلدة واحاديث اخرى متنوعة، ويروي قصص سوقه الى جبهات حروب الدولة العثمانية ايام السفر برلك(9).

خير ما نختتم فيه موضوعنا ما كتبه الاستاذ هرمز كوهاري على الخاص:

كان والدي قد تعرض الى ظلم وقهر، فقد اقتيد ثلاث مرات كجندي في الجيش التركي، وكان يحدثني عن فضاعة وقسوة اولئك الجندرمة، منها يسوقونهم مشياً اياماً وليالي تحت السوط، وان تمرض احدهم او عجز عن السير من الارهاق والتعب، كان الضابط او العريف يخرجه من الصف ويصوب عليه عدة طلقات ويتركه جثة على قارعة الطريق، وفي السجون عن طريق تخويفهم من الهروب كان يختار عدة اشخاص من بينهم، يوقفهم على الحائط ويرميهم ليقول هكذا جزاء من يهرب، ومع هذا هرب ثلاث مرات لا لسبب الا ليعود الى القوش ليحصد المحصول او يقوم بأعمال اخرى.. عمل وهو شاب في بغداد حاملاً المخل(ܡܓܼܒܝܐ) على كتفه في أزقة بغداد لدق الشلب في البيوت.كان يسافر الى بغداد بالكلك او القفة وكان سباحا ماهراً، ومرة أراد العودة الى القوش فجاء مشياً على الأقدام في مدة تسعة عشرة يوماً!!. الياس رقمه التاسع والثمانية قبله رحلوا وهم اطفال بمختلف الاسباب، واراد من الياس ان ينشأ قوياً صلباً فكان يكلفه باعمال اكثر من عمره، فراح يوما في قافلة( كروان) لبيع البطيخ في الموصل مع مجموعة من الشباب مشياً على الاقدام. كان والدي يحبنا حباً غير عادياً دون ان يظهره، لان لم يكن من الرجولة آنذاك ان يظهر الوالد محبته لأولاده، فكان منذ صغرنا يعاملنا كأصدقا،ء فلم يدعونا مثلا يا ابني، بل بأسمائنا، كأنه اعتراف بشخصيتنا، كذلك كانت والدتي، كان الياس يختار ألعاب مع بعض اصدقائه، ألعاب خطرة وأخطرها كان طفر الصخور، وكانوا يتراهنون بطفرة الصخرة الفلانية، وكان كثيراً منها اطلقوا عليها اسماء واشهرها(ܟܝܦܐ ܩܝܡܐ) وصينية ولعبة ال(ܓܠܝ) . عندما كان يدرس في الموصل اول ما يصل الى القوش يسأل عن البئر واقصد البئر العائد لنا( بئر خال عوديشو) فينزل اليه بسهولة، واحيانا كان يشترك في تنظيفه حتى قعره. كثيراً ما كنا نذهب الى بهندوايا وفي إحدى المرات نزل الوالد الى البئر الذي ينتهي بدولاب الرحى( ܬܢܘܪܐ) وبدأ يسبح فيه بطريقة، ورأساً نزل الياس وظلا يسبحان، وقال الياس: تعال هرمز، قلت: لا لا مستحيل، وفعلا لم اتعلم لا في البئر ولا في غيرها. كان الياس اذا اقتنع بشيء لا أحد يزحزحه، وهكذا عندما تلقى فكرة الحزب، كان يحب العمال والشعب حباً لا حدود له، وخاصة بعد ان ذقنا الضيم ايام الضيق، وبعد ان اشتغل كعامل، بل كان يميل ويحسد العمال الماهرين.

مطلع من قصيدة الاستاذ هرمز كوهاري:

أخي ألياس .. بماذا أشبّهك ؟ أبشامخ البنيان.. ؟

أم بمن تبرع بروحه حبّا بالشعب والانسان

تحمّل المسيح صليبا .. وأنت تحملت الصلبان

كنت مكابرا بمبدأك ومتواضعا بين الاقران

كنت أقوى من الموت وبعده أقوى من النسيان

كنت حريصاً على عقيدتك حرص القديس للايمان

عذبوك بجسدك .. وعذّبت بصمودك الطغيان

الهوامش:

(1) گوهاري، من گوهار المفردة الكردية التي تأتي بعدة معاني منها، الأحجار الكريمة، المعادن النادرة، الأقراط( تراجي)، وقد لاحظتُ ان الأرمن يسمون الرجل گوهار.

(2) گاورباغي: بستان كان يملكه رجل مسيحي في كركوك، فالكلمة تركية من مقطعين گاور= كافر، وباغي= بستان.

(3) هو أﭙرم عمّا منصور يوسف حنا كوركيس( ككّو) القس شمعون القس يوسف القس كوركيس القس اسرائيل القس هرمز القس اسرائيل رابا المولود في القوش في شباط 1926. والده هو المدراشي الماهر عمّا منصور ككو( 1889- 1946) المرسوم شماسا عام 1913 ، توفي المرحوم أپرم عام 1991 في القوش وخلف العديد من الاعمال الادبية واللغوية( من كتابات الأستاذ ادمون لاسو) .

(4) اوراق توما توماس، صفحة رقم 14، مطبعة آزادي- 2017.

(5) عين زالة بلدة عراقية فيها حقول نفط، وتتبع ناحية زمار في محافظة نينوى، تحدها من الشمال الشرقي مدينة زاخو ومن الجنوب الغربي مدينة سنجار. اكتشف حقل نفط عين زالة في 1939، وفي عام 1953 تم اكتشاف حقل بطمة.

(6) انا توما متي حداد من مواليد كرمليس في 26- 10- 1933، اكملت الابتدائية فيها ثم ذهبت الى مدرسة إعداد الكهنة( السيمنير) في الموصل للفترة من 1946- 1952، درسنا سنة فلسفة، كنت اقرأ كتب يزودني بها زميلي المرحوم أيشوع الشابي، كانت تلك الكتب ممنوعة، ونحن كنا نقرؤها بالخفاء، وتعود للمؤلفين: جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، وطه حسين وغيرهم. كان اول مدير السيمنير القس( بطريرك فيما بعد) بولص شيخو، كان متميزاً في ادارته، وقد تركنا عام 1947 لسيامته مطراناً على عقرة، بعده جاء القس( مطران فيما بعد) توما رئيس من اهالي ارادن، فكان انساناً مثقاً يخاف الله الى درجة كبيرة، وبعده جاء القس( مطران فيما بعد) كوركيس كرمو من أهالي تلكيف. كان معي كل من: حنا اسحق جولاغ، وابراهيم حسقيال زلفا( قس فيما بعد) ، عندما كبرت صار لي بعض الانفتاح بالكتب التي طالعتها، ثم لم اقتنع بالبقاء في المدرسة، فطلبت من عمي الراهب داود( أخونا داويث) شنگول ان يخرجني، فغادرتها في عام 1952، هناك تعلمت جيداً الفرنسية واللاتينية ولكن بسبب عدم التكلم بها نسيتها بمرور الزمن، في نفس السنة قدمت الى شركة النفط فقبلت فيها، والتحقت بمركز عملي بعد مراجعة القنصلية البريطانية في الموصل، التي كانت بجانب شركة فتاح باشا، وفي اليوم الثاني الموافق 10- 9- 1952 وصلت عين زالة وبقيت فيها حتى عام 1964، بعدها انتقلت الى كركوك وحتى تقاعدي عام 1992.

(7) من خلال موضوع للمحامي الراحل عبد الرحيم قلو، يذكر انه كان ضمن الوفد، ومعهم ايضا الكادر المتقدم فخري بطرس نگارا.

(8) شكودا سيارة جيكية، تندر اهالي بغداد بها قائلين( سكوده ساعة السوده) ، من المفارقات المؤلمة ان زوجة الشهيد نعمي، كات تقول لأبنتها طليعة، عندما ترى سيارة شكودا خضراء اللون في شوارع بغداد: تلك سيارتنا.

(9) ومن تلك القصص: تواجدوا في قرية مسيحية، واذا الصياح يتعالى بان يد عروس حديثة الزواج قد تعثرت، فذهب يستطلع الوضع، فرآى الناس متجمهرين حول عروس، وقد مررت يديها حول عمود البيت( ستونا) وانحنت تملأ اناء بالطحين من المستودع( ܟܘܪܐ) وعند اعتدالها، لم تستطع سحب الوعاء اليها حيث أعاقها العمود، وكل من اطلع على وضعها بمن فيهم وجهاء تلك القرية، اقترح قسم منهم قطع احدى يديها، واخرون اقترحو قطع العمود الخشبي، مما يؤدي الى انهيار سقف البيت. عند وصول العم حنا الى المعمعة، والخلاف كان: أية يد تقطع اليسرى ام اليمنى؟! فرفع صوته عاليا بأن يتوقفوا، وكان يمسك بعصاه، فانهال بضربة قوية على يديها، فتركت الاناء يسقط وتحررت ايديها، فابتهج الجميع وهلّلوا فرحاً وهم يشكرون العم حنا لإنقاذها، وحنا في داخله يضحك ويستغرب من سذاجتهم الى ذلك الحد.

المصادر:

عبد الرحيم اسحق قلو، هرمز كوهاري، توما توماس، طليعة الياس كوهاري، سلام صادق نشيا، بطرس ايوب رمو، شابا سعدو قيا، جرجيس يوسف سيبو، ابراهيم الحريري، كاظم حبيب.

nabeeldamman@hotmail.com

صورة نادرة لزواج الشهيد الياس من المرحومة نعمي ايوب رمو في بغداد 4- تموز 1958

حفلة زواج الياس في نادي الفقير ببغداد ، في الوسط اخته نني( زادو)

الاستاذ هرمز كوهاري مع اولاد الشهيد: طليعة، طلعت، منال

  كتب بتأريخ :  الإثنين 01-05-2017     عدد القراء :  6120       عدد التعليقات : 0