الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
هل ينتصر المواطن بعد النصر على «داعش» ؟
بقلم : عصام الخفاجي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

لا يعرف التاريخ اضطرابات كبرى سواء كانت ثورات أم ثورات مضادة، حروباً أهلية أم حروباً مع قوى خارجية، عاد فيها المنتصر إلى استئناف ما كان عليه قبلها. حقائق التاريخ تتفارق عن مدوّنات التاريخ الرسمي التي تُظهر الحروب والثورات المهزومة انقطاعاً موقتاً أعاد فيه المنتصر الحق إلى نصابه أو نكبة انتصر فيها الباطل على الحق. ثمة منتصرون قادهم إغماض العين عن تلك الحقيقة إلى الانتحار وثمة من استوعب الدروس فطعّم منظومته بعناصر من فكر وممارسات المهزوم.

المعركة ضد «داعش» هي بهذا المعنى اضطراب مجتمعي كبير سترى الغالبية الساحقة من العراقيين والعالم إخماده انتصاراً للحق على الباطل وسيراه الجهاديون انتكاسة وفوزاً موقتاً للباطل كما غزوة أُحُد. يستحق هذا الانتصار الاحتفاء العارم به بين العراقيين، لكن الاكتفاء بالاحتفال قد يضيّع فرصة استيعاب الدرس الذي ينبغي افتتاحه بإثارة أسئلة ظلت محرّمة وكان علينا طرحها منذ اجتياح «داعش» للموصل عام 2014 أو قبله، أسئلة لا تكتفي بتناول حال العلاقة بين سلطة غالبية الإسلام السياسي الشيعي وبين المجتمع أو المجتمعات العراقية السنّية، بل عليها أن تمضي إلى ما هو أبعد لتنظر إلى الأثر الذي تركه التسلط الإسلامي على العلاقة المجتمعية بين الشيعة والسنّة.

وهذه أسئلة ستتظاهر مبادرات المصالحة ومؤتمراتها التي يـتــراكـض القـادة لعقـدها لتقسيم مغانم ما بعد «داعــش» بألاّ وجود لها لأنها تنكأ جراحاً عميقة.

سمعنا من مسؤولين ومعلّقين أن من الواجب تقديم الشكر لـ «داعش» لأن غزوته شحذت طاقات العراقيين الذين نجحوا في إعادة بناء قوات مسلحة عالية التأهيل خلال فترة قصيرة. وسمعناهم يشكرون «داعش» الذي وحّد العراقيين العرب بمن فيهم جيرانهم الأكراد بهدف التصدي لبربريته. وسمعناهم يشكرونه لأنه أعاد الدعم الدولي للعراق وقد ضمر بعد يأس العالم من إصلاح نظامه. كل هذه أسباب مقنعة لتوجيه الشكر لـ «داعش»، لكن للأخير فضلاً أكبر بكثير، إذ إن انفراده بالحكم ووحشيته حميا العراق من الوقوع في حرب أهلية وإقليمية مدمّرة بدت وشيكة آنذاك.

فحين اجتاح «داعش» الموصل فضلاً عن محافظة الأنبار الشاسعة وقضاء الحويجة رحّب قسم يزيد أو يقل من أبنائها بها ورأى قسم آخر فيها سلطة سنّية تنتقم لهم من سياسة تمييز طائفي عانوا منها طوال سنوات. تلك حقيقة مفجعة لكنها حقيقة لن يطمسها إغماض العين عنها. كان ثمة تصوّر بأن حزب البعث وفصيل النقشبندية التابع لعزة الدوري يلعبان دوراً رئيساً في الاجتياح، فانتشرت صور صدام حسين وشعارات البعث على الجدران وأطلقت شعارات تصف ما يحصل بالثورة.

كل تلك المظاهر كانت قطافاً لثمار عفنة زرعها نوري المالكي طوال العام السابق لاجتياح «داعش» الموصل. قمع دموي لتظاهرات شملت المحافظات والمناطق ذات الكثافة السنّية وتحريض على المتظاهرين بوصفهم صدّاميين وإرهابيين. كان المالكي يطرب لرفع نفر من المتظاهرين، مهما كان قليلاً، شعارات موالية لـ «القاعدة» أو لصدّام لكي يسوّق نفسه قائداً وطنياً يجابه خطراً يهدد العراق، لا أمير حرب طائفياً يتعمد إذلال السنّة. لكن المجابهة تحوّلت إلى ما كان يحلم به: تجييش لأنصار من الشيعة يسيرون وراءه مقابل جمهرة سنّية تعصف بزعاماتها الصراعات ولا تجد رمزاً لها سوى الحنين إلى عصر «البعث».

دخل البعثيون إلى الموصل وقبلها إلى الأنبار والحويجة حالمين بامتطاء «داعش» والاستيلاء على مقاليد الأمور ليكتشفوا أنهم لم يكونوا غير أدلاء له. ماذا لو أن «داعش» لم ينذر السكان بإزالة كل صور وشعارات «البعث» خلال أربع وعشرين ساعة ولو لم يطالبهم ببيعة الخليفة والولاء للدولة الإسلامية؟ ماذا لو نجح البعثيون في مشروعهم أو لو منحهم «داعش» وجوداً رمزياً في سلطته؟

لا يقلل القضاء على «داعش» عسكرياً من أهمية هذه الأسئلة لأنها ليست أسئلة افتراضية بل هي تكمن في صلب مشاريع المصالحة المجتمعية الموعودة. إذ لو تحقق أي من الإفتراضات السابقة لما بدا الإستيلاء على الموصل والأنبار والحويجة احتلالاً من جانب قوة خارجية في أعين العراقيين. سيبدو عصياناً وانقلاباً على الدولة في أعين أعدائه وثورة أو انتفاضة داخلية في أعين مناصريه. ولو حصل هذا لغدت الحرب أهلية بامتياز. ولو حصل هذا لرمت الدول المحيطة بالعراق بثقلها وراء أحد طرفي القتال، ولكان موقف القيادة الكردية حاسماً في ترجيح كفة الطرف الذي ستسنده. ولو حصل هذا لما وجد المجتمع الدولي نفسه ملزماً بالوقوف إلى جانب الحكومة العراقية في حرب لن يراها موجّهة ضد الإرهاب، بل حرباً داخلية قد ينحاز فيها إلى هذا الطرف أو ذاك وقد يسعى إلى التوسط بين الطرفين المتقاتلين للوصول إلى تسوية بينهما.

بعد ثلاث سنوات من الخضوع لسلطة «داعش» الدموية من الطبيعي أن يقف الموصلي وابن الأنبار والحويجة إلى جانب من يخلّصه من هذا الكابوس. لكن هذا لا يعادل القول بأنه غيّر قناعاته بطابع السلطة القائمة. ثمة حساب لكلف ومنافع الخضوع لسلطة لا يراها المواطن سلطته يتوصل عبره إلى أن الخضوع إلى سلطة بغداد أقل كلفة. وهذا واقع يدركه المنتصرون في الحرب على «داعش»، لكن خطابهم المعلن سيستنكر توصيف ولاء الموصليين أو السنّة لسلطة بغداد هكذا باعتباره انتقاصاً من وطنيتهم. الوطنية وفق اللغة الإنشائية المنافقة تعني تقديس التراب ووحدته. والوحدة تعني الخضوع للسلطة أياً تكن طبيعتها. والسلطة وفق النفاق المتزيّن بقميص الديموقراطية هي سلطة الغالبية التي تتسامح مع الأقلية كأخ صغير عليه أن يمتثل لها. فالدولة هي دولة الجميع، لكن الدولة هي السلطة الحاكمة كما يعلن المالكي مثلما أعلن لويس الرابع عشر من قبله «الدولة هي أنا».

سيتحدد شكل عراق ما بعد «داعش» إلى حد كبير بالدروس التي تستخلصها الأطراف الفاعلة من تجارب عراق ما قبله في فشل بناء علاقة شيعية- سنّية تقوم على أسس قابلة للحياة لتبني دولة مواطنة لم تنبن حتى اليوم. العلاقة الشيعية- السنّية حتى الآن قامت على تقاسم للمغانم بين زعماء سياسيين من الطرفين أحالت الدولة إلى اتحاد اقطاعي لأمراء حرب تتفاوت حظوظهم وفقاً الى حجم اقطاعياتهم. وسنخدع أنفسنا إن تظاهرنا بأن هذا البناء السياسي لا أثر اجتماعياً له على أبناء الطوائف التي يطرح الزعماء السياسيون أنفسهم ممثّلين لها. سكوت فضائحي على انتهاكات ممنهجة إن تم الاعتراف بوجودها فسيتم تلطيفها باسم تجاوزات فردية. باسم الأخوة بين العراقيين وتقاليد التسامح والتعايش تنتشر الحسينيات وتنطلق مسيرات عاشوراء وتُعلّق صور المراجع الشيعية في تكريت السنّية وحتى في العوجة مسقط رأس صدّام حسين. سكوت فضائحي يساهم في تدمير النسيج الإجتماعي بإحالته السنّي الذي تم تحرير أرضه من «داعش» إلى طرف مهزوم يحق للمنتصر فرض شروطه عليه أو إلى طرف عاجز خاض الحشد الشعبي المعارك لإنقاذه في أحسن الأحوال وما عليه بالتالي سوى التعبير عن الإمتنان بالجميل والاعتراف به، لا كسلطة عليه الخضوع لها فحسب، بل إلى كتلة سكانية متميزة عليه تمثّل قيمها والانصهار فيها.

سيظل المواطن السنّي يبحث عن سلطة تمثّله وتحميه. وهو يدرك أن الحديث عن تحالف أو تيار عابر للطوائف لن يعني في ظل الظروف القائمة غير تشكيلة من فصائل إسلام سياسي شيعي قوية تضم من يتواءم معها من الشخصيات أو الحركات السنيّة. وثمة الكثير، الكثير من تلك الشخصيات والتيارات وشيوخ العشائر الذين ينتظرون دورهم للانضمام إلى تحالفات أمراء الحرب الذين سيتصدّرهم من ارتبط اسمه ونفوذه بالحشد الشعبي الذي لم ينتظر انتهاء المعارك ليعلن أنه باقٍ وأن من سيسعى الى حله «سيُحل» وفق تعبير أحد أبرز قادته قبل أيام. فعبور الطوائف يقتضي فرض آليات وضوابط تضمن عبور النظام السياسي كله للطوائف، لا عبور شخصيات أو تيارات حتى لو كانت متحمّسة حقاً لتبنّي برنامج غير طائفي.

وحتى ذلك الحين سيمضي الحشد الشعبي المزهو بانتصاراته وخدمته المرجعية الشيعية في تطبيق مقولة روبسبير «تظل الفضيلة عديمة الحيلة من دون الإرهاب».

  كتب بتأريخ :  الإثنين 10-07-2017     عدد القراء :  1980       عدد التعليقات : 0