الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مِحَنُ العقل

الباحث الجزائري ـ الفرنسي والمثقف الأممي محمد اركون تناول هذا الموضوع في كتابه القيم " الأنسنة والإسلام " وخصص له فصلاً خاصاً على الصفحات 141 ـ 184عالج فيه بكل شفافية وموضوعية ما سماه " مكانة المثقف في السياقات الإسلامية ومهامه " . إن اهمية ما يكتبه ويبحث فيه ويستنتجه هذا المفكر الكبير، الذي فقدته الثقافة الأممية عام 2010 ، يتجلى من خلال تعامله مع المعطيات الفكرية بكل تجلياتها ومعالجتها بنفس تلك الموضوعية والإنطلاقة العلمية التي يتبناها العالِم الساعي إلى الحقيقة مهما كانت نسبية هذه الحقيقة التي لا يمكن ان نفكر بشكلها المطلق الغير موجود اساساً . فهو يتعامل مع الفكر والفكر المضاد وكانه يستجلي الجدلية العلمية في طرح التناقضات حينما يناقش مثلاً ، فكر ابن تيمية بقوة ذلك النَفَس العلمي الذي يناقش فيه تشارلز داروين او صديقه الباحث الماركسي الفرنسي كلود كاهينً.

ينطلق اركون من الترابط القائم بين اهل الفكر المنضوين تحت المنظومات الفكرية المختلفة التي " تجتاز السياجات العقائدية المُشيَدة ، والتي طالما يغلقها حراس المعابد والسُنن والأنظمة التي تفرض شموليتها على الحقيقة " (1). وحينما يتحدث عن هذه السياجات العقائدية التي تعمل على عزل العقل ، فإنه يناقش هذا الموضوع من خلال عدم تناول " آية او مقطعاً من الكتابات المقدسة او من السرديات الكبرى المؤسِسَة لتراث ما ، ذلك لأني اهدف إلى هدم النصوص الثانوية والتفاسير والشروحات اللامتناهية التي تحول النصوص الأولى إلى سجن للعقل البشري "

إن سعي اركون إلى تفكيك النصوص الثانوية التي طالما برر المستندون اليها اهميتها التاريخية ومكانة مؤسسيها بحيث ظل كل ذلك يصب في عرقلة مسيرة الأجيال التي تعيش حقباً تاريخية تختلف تماماً عن حقب هؤلاء المؤسسين لهذه النصوص . فهو يؤكد على ان " عمل الهدم الذي ادعو اليه في مجال الخطاب القرآني يمس جميع النصوص المسماة بالنصوص المؤّسِسَة ….. بيد انه يبقى صحيحاً ان التدخل الهادم يزعزع المجتمعات الإسلامية بقوة اكبر في ظروف تاريخية تضطرها إلى مواجهة ازمات كبيرة في الداخل والخارج . ولهذا السبب تتمسك هذه المجتمعات بالإبقاء على مدونة ايمانية في معزل عن اية مساءلة نقدية ، في حين ما زالت التوراة والأناجيل تنتفعان من تحديات علمية قائمة منذ القرن السادس عشر "

إن ما يهدف اليه اركون من هذا التعامل مع النصوص التي تغلق سياجاتها على العقل وتمنعه من الإنطلاق في فضاء الحداثة والتطور في مختلف مجالات الحياة هو إعمال القابلية الفكرية للإنسان على التعامل مع ما سماه " التشبث بالخطاب التقليدي " وقيادة القارئ " إلى فتح الطرق وإلى اقتراح ادوات تفكير تقود إلى الخروج نهائياً وبغير رجعة من التكراريات العقائدية والمنتجات الفكرية للعصور الوسطى "

إن التشبث بالخطاب التقليدي لم يأت عبثاً ، بل ارتبط بتراث حرَّم التفكير واجاز النقل بعد ان اوقف العقل في اطروحات ساهم فيها بعض من يعتبرهم البعض من رواد الفكر الإسلامي ودعاة الإلتزام الديني الذي وضعوه على مقاساتهم لتجعله العامة من الناس السبيل الذي يقود إلى جنات الخلد . وهذا ما تجلى حقاً في اطروحات ابي حامد الغزالي (ت 1111 م) التي وضعت الأسيجة الشائكة حول ما سماه أركون " حدود ما هو مسموح التفكير به " من خلال مقولات اصبحت في عداد المقدسات مثل : إلجام العوام عن علم الكلام ، او : مَن تمنطق فقد تزندق ،حيث من المعلوم ان الفلسفة التي تبناها مَن اعتبرهم الغزالي زنادقة ، قد دعوا إلى الإهتمام بعلوم المنطق التي لا يمكن الإشتغال بها دون توظيف العقل للإجابة على ما تسعى اليه الفلسفة من اجوبة على : كيف ، لماذا، لِمَ ، متى ، اين وغيرها من اسئلة طلب المعرفة . وهذا بالضبط ما تسعى الى تحقيقه اليوم احزاب الإسلام السياسي التي تراهن على تجهيل الناس واستغباءهم ليواصلوا الإيمان بدين الفقهاء لا بدين السماء ، الذي تخاطب نصوصه قوماً يعقلون او قوماً يتفكرون او ذوي الألباب وهكذا . إذ ان مثل هذه الأحزاب السيادينية (السياسية ـ الدينية) لا تستطيع ان تقدم من البرامج التي يمكنها التعايش مع المنجزات الحضارية للقرن الحادي والعشرين والتي لم يعد بامكان ابسط الناس الإستغناء عنها في حياته اليومية . لذلك يصبح نشر الجهل وإشاعة التجهيل من المهام الأساسية التي تعتمد عليها احزاب الإسلام السياسي في وجودها، ووطنا العراق يقدم اليوم دليلاً لا شك فيه على ذلك .

لقد تجلت ظاهرة ايقاف العقل هذه ضمن نزاع المذاهب الإسلامية التي حاول البعض منها التعبير عن عقيدته من خلال تبني ما رسمه السلف لجيله ولوقته ونقل هذا التراث إلى بيئة لم تعد تربتها تصلح للكثير مما تركه الأسلاف . وهنا يشير اركون إلى الحقيقة التي يراها " في المجال الإسلامي المنغرس في الرفض العقائدي للتاريخ وفي فوضى دلالية مرتبطة باستيراد جنوني لوسائل الرقابة المتطورة بقصد مراقبة اكثر شمولية لشعوب ظلت محرومة من كل اشكال الحرية والعدالة الإجتماعية منذ امد بعيد "

هذا الوضع الشائك الذي تعيشه اغلب المجتمعات الإسلامية لا يمكنه ان يستمر إذا ما ارادت هذه المجتمعات ان تلحق بركب الحضارة الإنسانية الذي سبق مسيرتها بشكل جعل هذا اللحاق يزداد إشكالاً وتعقيداً يوماً بعد يوم . إلا ان السؤال المطروح يبحث عن الكيفية التي تستطيع من خلالها المجتمعات الإسلامية من تحقيق النجاح بالتواصل مع المجتمع الإنساني والعيش معه وله ايضاً بكل حرية وسلام. وهنا يضع اركون المثقف ودوره في هذه المجتمعات ويتساءل " عن مكانة المثقف ومهامه في مختلف السياقات الإسلامية للأمس واليوم ". وتساؤله هذا لم يأت عن عبث إذ انه سجل وأدان " صمت المثقفين عن الجرائم الأكثر بشاعة وتلك التي تُرتكب في حق المرأة او الطفل باسم اسلام اصولي ".

وهنا قد يُثار السؤال المتعلق بقدرة المثقف على مواجهة القطب الآخر في المجتمعات الإسلامية ، هذا القطب الذي يسحب هذه المجتمعات نحو الإنغلاق العقائدي ومن ثم الجمود الفكري المؤدي إلى عزل العقل وإبطال مفعوله. إن لقطب ما يسمى علماء الدين وكهنته ، بما ينشرونه من وسائل التجهيل ، القصب المعلى في اكثر الأحيان والذي قد لا يستطيع المثقف ايقاف صعوده طالما ظل الأنسان المتلقي للجهالة والذي يتفاعل معها ايجابياً في اكثر الأحيان ، يرزخ تحت منزلة الكهنة والرهبان ورجال الدين الذين تحدث عنهم نيتشه داعياً إلى التحرير من سلطتهم . وهذا يتعلق ايضاً بسؤال آخر حول " كيفية مواجهة المجتمعات التي تسمي نفسها اليوم اسلامية للتحديات الجديدة ؟ او كيف نُحيت هذه التحديات جانباً وأُسيئ فهمها، بل بالأحرى تم تجاهلها بالكامل من قِبل هؤلاء الذين اغتصبوا ، او اكتسبوا ، سواء عن خطأ او عن صواب ، مكانة المثقفين ؟"

ليس فقط طبقة الكهنة التي تساهم بنشرها الإنغلاق العقائدي هي وحدها التي تسحب المجتمعات الإسلامية نحو التقهقر المعاكس الإتجاه للفكر الحضاري الإنساني التنويري ، بل ان هناك ما يسحب هذه المجتمعات نحو التخلف والذي قد يكون له الأثر الأكثر تأثيراً مما يقوم به الكهنة ، ألا وهي " المناهج التعليمية المحلية التي ساهم فيها المداحون والقُصاص في الأسواق الريفية ، وبفضل هذه المناهج استمرت ظاهرة الأسلمة او إعادة الأسلمة، وصولاً إلى التدخل الحديث للدولة القريبة من الشمولية التي استغلت قوة الحافز الديني لغايات سياسية متنوعة وصلت إلى حد الإجرام احياناً ".

وحينما نتحدث هنا عن دور المناهج التعليمية السائدة في المجتمعات الإسلامية في تأصيل التخلف الذي ما زال مستمراً وعلى نطاق واسع منذ القرن الثالث عشر الميلادي ، فإننا لا نتحدث هنا عن مجالات التعليم الأولية والمتوسطة فقط ، بل ان ذلك يشمل المستويات الجامعية ايضاً حيث تخلو مناهجها الدراسية ، خاصة تلك المتخصصة بدراسة العلوم الإسلامية ، مما سماه اركون " الفكر الإسلامي النقدي حيث ما زلنا نجد بالنسبة إلى قطاع الدراسات الإسلامية انتاجات من النوع المَدرَسي اكثر من المشاركة في تساؤلات العقل المنبثق حول الحدث الديني في التاريخ والمجتمعات المعاصرة ". وحينما نتعمق في تحليل هذه العبارة في وصف التعليم الجامعي ، فإن المنطق يوحي لنا بأن " المشاركة في تساؤلات العقل " تعني اول ما تعني دراسة الفلسفة كعلم تستند عليه كل العلوم في المراحل الدراسية المختلفة بدءً بالتعليم الإبتدائي ولا نهاية لذلك حتى بعد التعليم الجامعي حيث يظل البحث الخاص والشخصي عاملاً حاسماً في توسيع المعارف الفلسفية وتنميتها والتي لا غنى عنها لكل مجتمع ينشد التطور.

امام هذا الواقع المؤلم تبرز مهمة المثقف العلاجية التي قد ، واقول قد ، تؤتي أُكُلها يوماً ما مع شعوب لم يتركها الظلم والجور والإستغلال السياسي والإقتصادي والديني والثقافي منذ قرون عديدة .ولكي يمارس المثقف دوره التنويري في المجتمع فإن مهمته هذه " تتضمن تزهداً عقلياً يشمل السلطة الاخلاقية والروحية والعلمية والفلسفية ، فالأمر يتعلق بمميزات متجددة في اطار الممارسة المتواصلة للمسؤولية الفكرية التي تسبق المسؤوليتين الأخلاقية والسياسية وتنيرهما " .

السمة الغالبة ، بل والأساسية ، التي تتسم بها الأنظمة القمعية عموماً ، عربية وغير عربية ، هي سمة التشبث بالبقاء على قمة السلطة والإلتصاق بكرسي الحكم مهما كلف ذلك من هدر للأرواح والأموال والإمكانيات ، ومهما كانت نتيجة ذلك على البلد. ولغرض تحقيق هذا الهدف تسعى القوى الحاكمة في هذه الأنظمة ، إلى جانب توظيفها لكل ما تملكه من الأساليب القمعية ضد مناوئيها ، إلى التهادن مع بعض القوى السياسية العاملة على الساحة والتي تجد فيها فسحة من المشتركات التي تؤمن لها إسناد هذه القوى جماهيرياً من جهة ، مقابل إشعار هذه القوى السياسية بدعم السلطة لها من جهة أخرى . لقد جرت هذه المهادنات والمناورات مع كل القوى السياسية التي غلب عليها الفكر المتردد المُهادِن . إذ كانت هناك القوى التي إدعت الديمقراطية وتبني افكار الحرية والليبرالية وحتى الإشتراكية أحياناً ، إضافة إلى القوى ذات التوجهات الدينية الإسلاموية ، التي تهادنت في هذه الحقبة التاريخية او تلك مع الحكومات القمعية ، فاستطاعت بذلك ان تؤسس ، وبكل حرية أحياناً ، لعملها الجماهيري الذي إكتسب طابع الإرتزاق من العمل السياسي أكثر من العمل المبدئي ضمن برنامج سياسي وطني حريص . وهذا ما أكد عليه اركون حينما تحدث عن " ممارسة استبداد العنف الشرعي الذي تتنازعه الدولة والمؤسسة الكهنوتية ". وهنا يبرز دور المؤسسة الثقافية الملتزمة بالنهج المبدئي من اجل الجماهير المغلوبة على امرها والتي تُقاد ، بالرغم منها ، إلى الجهل الذي لا تجني منه غير القمع والإذلال وهيمنة الفكر المتخلف . " ففي غياب سياسة ثقافية ومع التدخل الزائد للدولة في الشؤون الدينية ، يظهر في ادارة التعليم الوطني عمل دؤوب منتظم لإفساد العقل ولتخريب الأجيال الصاعدة حتى في اوربا وامريكا ".

إن الترابط بين الدولة والمؤسسة الكهنوتية لا يعكس آثاره السلبية وتخلفه الفكري واستمراره في تجهيل الجماهير على الساحة المحلية لهذا المجتمع او ذاك فقط ، بل يتعداه ايضاً إلى خارج هذه المجتمعات اقليمياً ودولياً ، وهذا ما نلاحظه اليوم وبكل وضوح بين تلك المجتمعات التي استقبلت المهاجرين المسلمين الفارين ، لأي سبب كان ، من اوطانهم واللاجئين إلى ما يسميها فقهاء السلاطين ببلاد الكفر التي آمنتهم من خوف وانقذتهم من جوع . وقد اكد اركون على هذه الظاهرة موضحاً " إن نموذج السياسة الدينية يستدعي الغضب بصفة خاصة لأنه يكشف انعدام المسؤولية الفكرية إلى درجة تدفع علماء تقليديين ومدرسين باحثين يدَّعون انهم مفكرون إلى اليأس في ظل تحالف الدول الغاصبة لحجية السلطة الروحية مع رجال دين مرتبطين بالسلطة . ويتسع هذا التحالف ليشمل الحكومات الأوربية الديمقراطية التي تقبل توجيه المهاجرين المسلمين عن طريق أئمة ظلاميين يجهلون حتى لغة البلاد التي استضافتهم ، أئمة كانوا قد تكونوا وترعرعوا داخل سياج عقائدي مغلق ومنعزل فكرياً وثقافياً حتى عن الإسلام الكلاسيكي ".

المعضلة الأساسية التي يعيشها المسلمون المهاجرون في دول اللجوء والمتأثرون بهذا الحد او ذاك بتعاليم وارشادات هؤلاء الأئمة والفقهاء وخطباء المساجد المتخلفون هي انهم لا يعون طبيعة الأنظمة التي آوتهم وأمنت لهم الحياة المستقرة بعد كل ما كانوا يعانونه من التشرد والملاحقة والضياع . إن مثل هذه الدول سبق لها ومنذ عشرات العقود من السنين ان تبنت قوانين والتزمت شعوبها بتعاليم انبثقت من خلال التغييرات الثورية التي حدثت بعد ان قررت هذه الشعوب تبني العلمانية الديمقراطية ، بهذا الشكل او ذاك ، وفصل الدين عن الدولة. فكانت مبادئ الثورة الفرنسية عام 1789 والثورة الصناعية التي بدأت في اوائل القرن الثامن عشر والتوجه نحو القضاء على الإقطاعيات المتناثرة في اوربا وقيام الدولة الحديثة ، هذه العوامل وغيرها افرزت معطيات فرضت نفسها على المجتمعات التي تأثرت تأثيراً مباشراً على المسيرة القادمة لهذه المجتمعات بحيث اقتضت الضرورة الى سن قوانين وتعليمات تتناسب والوضع الجديد . فعلى سبيل المثال حينما تبلورت الحاجة الملحة لليد العاملة من خلال استمرارية تطور الثورة الصناعية ، اصبحت مساهمة المرأة بالعمل مسألة لا فرار منها فرضها الواقع المعاشب الجديد . ومن هنا برزت الحاجة إلى قوانين وتعليمات تسمح للمرأة ، بل وتطالبها ، بالمساهمة بالعمل الإجتماعي جنباً إلى جنب مع الرجل. وعلى هذا الأساس اصبحت النظرة السائدة والقانونية للمرأة ليست من خلال ما تلبس مثلاً ، بل من خلال ما تقدمه من انتاج اجتماعي (2). وحينما بدأت الهجرة من المجتعات الإسلامية في نهاية خمسينات القرن الماضي إلى الدول الصناعية كانت هذه الدول قد قطعت مرحلة طويلة في تبني اساليب ثابتة في طبيعة حياتها اليومية ولم تكن مستعدة لتغييرها إرضاءً للمهاجرين الجدد الذين جاءوا بتقاليد اجتماعية واساليب حياة يومية تختلف تماماً عما هو سائد في الدول الصناعية . لذلك فإن مجتمعات الدول الصناعية حينما تقف موقفاً سلبياً من حجاب المرأة مثلاً ، الذي يحاول الإسلاميون فرضه على هذه المجتمعات ، فإنها لم تتخذ هذا الموقف عداءً لتقاليد الإسلاميين ،كما يزعم فقهاؤهم ، بل بالعكس فإنها فسحت المجال امامهم لممارسة عقائدهم الدينية كما يشاؤون ضمن قوانين البلد الذي لجأوا إليه ، دون ان يكون لهم الحق بفرض عاداتهم وتقاليدهم على هذه المجتمعات التي اصبحت مثل هذه التقاليد والعادات غريبة عليها وغير مستعدة لتغيير نمط حياتها بسبب المهاجرين اليها . ان المنطق الذي يفرض نفسه هنا هو ان المهاجرين إلى هذه الدول سبق وأن علموا بطبيعة الحياة في مجتمعات الدول الصناعية وعليهم ان يحترموا ارادات الشعوب ، تماماً كما يطالبون باحترام شعائرهم ومعتقداتهم ، إذ لم يطالبهم احد بالتخلي عنها وممارستها ضمن قوانين البلد التي وُجدت قبل ان يأتيها هؤلاء المهاجرون بمئات السنين .

من خلال كل ذلك نستطيع الخروج بنتيجة اساسية وواضحة تشير إلى ضرورة الخروج من هذا الإنغلاق العقائدي إذا ما اردنا انقاذ المجتمعات التي وضعت نفسها ، عبر مشايخها وفقاءها ورهبانها ، ضمن هذا السياج المغلق. إلا ان هذا الخروج لا يمكن تحقيقه إلا بإشغال العقل النيِّر المستعد لتبني اطروحات الحداثة والتعامل معها حسب الظروف الذاتية والموضوعية التي تتطلبها مقومات الحياة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين هذا ، وربما لما تليه من القرون. فكيف يمكننا إذن توظيف العقل لتحقيق هذا الهدف الإنساني النبيل . يشير اركون إلى ذلك فيقول " هناك اجماع على ان العقل الحديث يتميز عن كل تجلياته وممارساته السابقة بكونه اكتسب القدرات الفكرية والعلمية للخروج من الإنغلاق الذي طالما استدرجته اليه انحرافاته الأسطورية التاريخية والأسطورية الأيديولوجية في اصطدامه بالواقع " . ويشير في نفس السياق إلى وجوب تبني " سياسة هادفة إلى إعمال العقل وخاصة في مجال البحث والتعليم ، وهي سياسة من شأنها ان تحرر اخيراً كل القوى والمواهب الإبداعية ..... فالمدرسة حين تؤدي إلى تجاهل اجزاء كاملة من الحقيقة في السِّن التي ينبغي اثناءها ان تنمي شتى امكانات التفكير النقدي والتساؤل العلمي والفلسفي ، فإنها لا تتخلى فقط عن مهمتها الأساسية ، بل انها ايضاً تؤثر سلباً ولسنين طويلة في خصوبة العقل ، وبالتالي في عملية التحرر والتطور في المجتمع كله ، إذ يصبح هذا المجتمع سجيناً لما سميته منذ زمن أنظمة الجهالات المؤسسَة ". وكنتيجة لهذه الأسس التعليمية يجري التخلي عن ممارسات العقل الذي وصفه اركون بانه " الضامن الوحيد للصلاحية والشرعية المطابقة للقانون والقيم التي تتضمنها كل النماذج المثالية لإدارة المدينة السياسية . فالعقل المنبثق تقع عليه مسؤوليات تأصيل هدم شتى البناءات السابقة على العقل والتي فشلت اما في التعرف على مواضع الفشل والنفاق والضياع والمعارف الخاطئة والضمائر الكاذبة الناتجة عن كل ذلك ، او في تجاوز اكثر التنازلاتإضراراً بالإنسانية تجاوزاً نهائياً ".

والسؤال الجوهري الذي يرافق عملية الخروج من الإنغلاق العقائدي هو : هل يعني هذا الخروج الخروج من الدين ايضاً ؟ المتتبع لكل مسارات الشعوب المختلفة في شتى مراحل تطورها لابد وان يتضح له بأن ما يسمى ديناً رافق تاريخ هذه الشعوب حتى وإن لم يتخذ انماطاً تعبدية اجبارية ، كما تجري ممارسات العبادة الدينية اليوم في مختلف الأديان . اي ان الإنسان في مراحل حياته المختلفة ارتبط بعادات وتقاليد وطقوس وممارسات تحولت بالتدريج إلى اعراف وقوانين وضعها في مجالات حياته المختلفة لتعبر عن مشاعر معينة او تعكس انطباعات مرتبطة بتواريخ وازمان معينة رافقت مسيرة حياته لأجيال متعاقبة حتى اصبحت في عداد غير المُفَكَر بالتخلي عنه بعد ان اتخذت اسماءً وصفات مختلفة كانت صفة او اسم الدين واحداً منها. فاصبح مثلاً ما يمارسه عَبَدَة البقر ديناً له نفس المنزلة من القدسية عند اتباعه كتلك القدسية لما يُسمى ديناً ايضاً إلا انه لا يعبد المحسوس والملموس المنظور ، بل الغائب اللامنظور.

وقد تراوحت شدة تأثير هذا الدين او ذاك سلباً او ايجاباً على حياة الشعوب المختلفة بقدر ما ارتبطت ممارسات هذا الدين بالعنف الذي ظل مرافقاً لكل الأديان في مراحل تواجدها المختلفة . من كل ذلك يمكن الإستنتاج ان حياة الإنسان في اطوارها المختلفة لم تخلوا من ممارسات سمتها بعض الشعوب ديناً ، في حين وضعتها شعوب اخرى في عداد التقاليد المروثة او الأعراف السائدة او العادات الإجتماعية. وفي حالة طرح فكرة الخروج من الإنغلاق العقائدي فإن هذه الفكرة تعني اول ما تعني " إعادة التفكير في المصطلحات المحمَلة بشتى اشكال اللبس والجهل المتراكمة منذ توقف النشاط البحثي اللاهوتي والتفسيري". وقد اثبت التاريخ الذي مرت به الشعوب التي تفاعلت مع إعادة التفكير هذا من خلال الثورات الثلاث الإنجليزية والأمريكية والفرنسية بان تساعد المسيحية ،بالإضافة إلى تطورات اخرى رافقت مسيرتها (3)، على الخروج من الإنغلاق العقائدي مع بقاء الممارسات الدينية وكل ما يتعلق بها من قناعات في محيط الممارسات الشخصية والخاصة التي لا تبخل حكومات دولها بدعمها ودعم كل الممارسات الأخرى التي تنحو نفس المنحى. وهنا يميز اركون بين المجتمعات التي انتقلت بالمسيحية إلى المواقع التي هي عليها اليوم ، والمجتمعات الإسلامية التي سلكت طريقاً آخراً إذ يقول " وجدير بالذكر اننا مع الإسلام نسلك سبيلاً معاكساً لذلك الذي سلكته اوربا المسيحية. فإنها كانت قد استقبلت الفلسفة الرشدية اللاتينية في القرن الثالث عشر ، بينما كانت اعمال قاضي قرطبة الفلسفية قد حكم عليها رجال الفقه المالكيين بالإعدام ، وبالنسيان حتى سنوات قريبة مضت . وفي اوربا كان التنوير قد أعد ونشر ودرس منذ القرن السادس عشر وحتى يومنا هذا من دون انقطاع ، وبعبارة اخرى فإن الخروج المؤسسي من الدين قد صار ممكناً من خلال التفاعل بين ثلاثة عناصر جديدة : اولها سلسلة من الثورات العلمية والثقافية ، وثانيها بورجوازية فاعلة ، وثالثها ثورات شعبية مؤطرة جيداً . تلك الشروط الثلاثة لم تجتمع في اي من السياقات الإسلامية ".

من الطبيعي ان يواجه هذا الفكر الذي يعمل على تجاوز الموروث الجامد ،الذي لا يتماشى مع متطلبات العصر وسماته البارزة التي لم تعد خافية على الجميع ، تشدداً فكرياً وعقائدياً يحاول رواده ، خاصة من منتسبي الإسلام السياسي ، ان يضعوه في مواضع يصبح فيها هدفاً لأتباعهم الذين يحاولون ابعادهم عن كل ما يمت إلى العلم والمعرفة والتقصي والإستطلاع بصلة . وقد اصبحت التحركات الطائفية والحروب المذهبية السلاح الناجع الذي وظفه الإسلاميون لجعل المعركة ليس بين الإسلام واعداءه ، كما يزعمون ، بل بين الإسلام والإسلام وبذلك يضمنون بقاء دورهم التحريضي على الحداثة والفكر الذي يدعو لها.

وقد تأخذ هذه الحرب الإسلامية ـ الإسلامية منحى اشد بأساً وضراوة واكثر استمرارية إذا ما ارتبط بعض او كل اطرافها بالسلطة السياسية ومسيرة الحكم . ووطننا العراق يقدم منذ سقوط دكتاتورية البعث عام 2003 ولحد الآن مثالاً واضحاً على هذا التوجه الذي افرز سياسة محاصصات طائفية مقيتة وانتشار سرطاني للخطاب الديني المتخلف الذي لا هم له سوى التحريض على الآخر والتخطيط للخلاص منه بحيث يتم كل ذلك على حساب المصلحة الوطنية العليا وحقوق المواطنين الذين اصبحوا الضحية الرئيسة لهذه السياسة الرعناء. وامام هذا الوضع المزري ، تظل مسألة توظيف العقل الذي يحاول المثقف التوجه نحوه لإزالة بعض الغيوم العقائدية السوداء ولكسر سياج الإنغلاق العقائدي ، تظل هذه المسألة خاضعة لتقلبات المناخ السياسي الذي قد يسمح او لا يسمح بهذا القدر او ذاك بان يكون للعقل دوراً في الحياة الإجتماعية المكتضة بالجهالة والإنقياد والمحملة بالأفكار اللامسموح بمناقشتها او وضع علامات الإستفهام حولها.

إن مجتمعاتنا الإسلامية امام مشاكل جمة لا تقوى على الخلاص منها او التقليل من شرورها على الأقل إذا استمرت على تجاهل ما يدور حولها في عالم لم تساهم هذه المجتمعات ولا حتى بجزء ضئيل من انتاج منجزاته في مختلف المجالات ، بحيث اصبحت تعتمد في حياتها على ما تحصل عليه من الغير يعتقد حكامها وموجهوها من السياسيين وفقهاء السلاطين بانهم قادرون على ذلك بفضل ما يملكونه من الإمكانيات المادية التي يملكونها اليوم ، وقد لا يعلمون بانهم سيتسولون غداً إذا ما استمر تجاهلهم هذا . فحينما يعمل السياسيون بمثل هذه التوجهات الغبية المتخلفة ، فإنهم يلاقون في كثير من الأحيان الدعم الفكري ممن وضعوا انفسهم في خدمة السلطان من رجال الدين الذين لا يتوانون عن التكالب على المنجزات الحضارية في نفس الوقت الذي يهاجمون فيه هذه المنجزات على انها كفر وابتعاد عن الدين وما شابه ذلك من الخزعبلات التي استطاعوا من خلالها تعطيل عقول الناس وتشويه افكارهم والإتيان على كل توجهاتهم في حياة سعيدة تواكب المجتمع الإنساني والحضارة العالمية في القرن الحادي والعشرين.

(1) العبارات الواردة بين " " هي العبارات المستلة من موضوع المؤلف محمد اركون

(2) بغض النظر عن طبيعة هذا الإنتاج وظروفه ، إذ اننا لا نريد هنا مناقشة طبيعة النظام الإنتاجي ، بل الحالة الإجتماعية الجديدة الناشئة بعد الثورة الصناعية في المجتمعات التي تأثرت بهذه الثورة.

(3) فإذا درسنا المجتمع الغربي مثلآ والذي ينتمي بأغلبيته إلى الديانة المسيحية ، فإننا سوف لا نجد هنا ما يشير إلى أرتباط هذا المجتمع وما يرافقه من توزيع للأدوار فيه ، بالمجتمع الذي برزت فيه المسيحية إلى الوجود لأول مرة. إن التطور الذي جرى على المجتمع المسيحي الغربي لا يمكن فهمه إذا لم يجر ربطه بالثقافات الإغريقية والرومانية التي إختلطت فيه ، وإذا لم يؤخذ تأثير الحركة الدينية ألإصلاحية البروتستانتية فيه ، أو تأثير الثورة الفرنسية أو الثورة الصناعية على هذا المجتمع .

  كتب بتأريخ :  الإثنين 11-09-2017     عدد القراء :  2712       عدد التعليقات : 0