الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مصر طه حسين وعلى عبدالرازق ستعود (1)

أبشركم ونفسى أن نوراً من الماضى سيكشف الغمة عن قريب، وأن مصر التنوير فى عشرينيات القرن الماضى ستعود تحارب الجهل والتخلف وتعيد للوطن بهاءه ونوره وحريته، محمد نور، وكيل النائب العام، فى قضية العميد طه حسين، وعبدالعزيز باشا فهمى، وزير العدل، فى قضية الشيخ على عبدالرازق، من رموز التنوير عائدون إلى محطة مصر، واحة الحرية والنور، التى أظلمت بفعل مؤامرة الوهابية والوهابيبن. تعالوا نرى كيف كانت مصر واحة التنوير فى عشرينيات القرن الماضى قبل هذا البركان، ونعرف الفارق بين مصر التنوير ومصر السلفية:

المثال الأول: الدكتور طه حسين ومحمد نور وكيل النائب العام «1926» تقدم شيخ الجامع الأزهر ولفيف من علمائه بعريضة تتهم الدكتور طه حسين المدرس بالجامعة المصرية بالكفر والإلحاد عما جاء فى كتابه «فى الأدب الجاهلى» والمطالبة بمصادرة الكتاب، ومنع العميد من التدريس فى الجامعة، وعلى الرغم من غرابة ما جاء فى الكتاب، وصدمة المجتمع فى أفكاره، إلا أن الجميع وقف إجلالاً لما قرره النائب العام، الذى لم يتأثر حكمه بما تناوله العامة فى حق العميد، أو الضغط الذى مارسه الأزهر، واللذان امتثلا لقرار النيابة ولم يتجاوزاه، ونوجز بعضا من الكتاب «ننصح بقراءته كاملا» لنرى كيف كان ثورة فكرية تستحق أن يطلق عليه زلزال عقلى، ونبدأ بتصرف بسيط:

أولا: «نحن بين اثنتين إما أن نقبل الأدب وتاريخه، ما قال القدماء، لا نتناول ذلك من النقد، أو أن نضع علم المتقدمين موضع البحث، أريد ألا نقبل شيئا مما قاله القدماء فى الأدب وتاريخه، إلا بعد بحث وتثبيت، إن لم ينتهيا إلى اليقين، فقد ينتهيان إلى الرجحان، والفرق بين المذهبين عظيم، المذهب الأول يدع كل شىء حيث تركه القدماء، أما الثانى فيقلب العلم القديم رأسا على عقب، وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئا كثيرا».

ثانيا: «إن ما نسميه أشعارا جاهلية ليست من الجاهلية فى شىء، وإنما هى منتحلة، ومختلقة بعد ظهور الإسلام، فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، ما نقرؤه على أنه من شعر امرئ القيس أو طرفة بن العبد أو عمرو بن كلثوم أو عنترة بن شداد، ليس من هؤلاء الناس فى شىء، وإنما هو انتحال الرواة، واختلاق الأعراب، أو صنعة النحاة، أو تكلف القصاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين، ولا يمكن لهذا الشعر من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا يمكن أن يكون قد قيل أو أذيع قبل أن يظهر الإسلام، ولذلك لا ينبغى أن يستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن، وإنما ينبغى أن يستشهد بالقرآن على تفسير هذا الشعر وتأويله».

ثالثا: «كل القدماء مسلمون مخلصون فى حب الإسلام، فأخضعوا كل شىء لهذا الإسلام وحبهم إياه، فما لاءم مذهبهم هذا أخذوه، وما نفره انصرفوا عنه انصرافا، وكذلك غير المسلمين تأثروا كما تأثر المسلمون، فتعصبوا على الإسلام، ولو أن هؤلاء القدماء استطاعوا أن يفرقوا بين قلوبهم وعقولهم، لتركوا لنا أدبا غير الذى بين أيدينا».

رابعا: «القرآن أصدق مرآة لحياة الجاهلية، والناس قد أعجبوا بالقرآن لما بينه وبينهم من صلة، هذه الصلة التى توجد بين الأثر الفنى البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه، والعرب حين قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبى فيه، كان لأنهم فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه، فضلا عن أنه لم يكن جديدا كله على العرب، وإلا لما فهموه ووعوه، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه ولا جادله البعض الآخر، فكان كتابا عربيا، لغته هى اللغة الأدبية التى يصطنعها الناس فى عصره».

خامسا: «الأديان الجديدة كما الأفكار الجديدة تهاجم وتغيظ بعضها بعضا، وهذا هو حال الإسلام حين ظهر هاجم الوثنية فهاجمه الوثنيون، وأخرجوه من مكة واضطروه للهجرة، وهاجم اليهودية فجاهدوه جهادا عقليا، وهاجم النصرانية فلم تكن معارضتها للإسلام قوية قوة معارضة الوثنية واليهودية، لأن البيئة التى ظهر فيها الإسلام لم تكن بيئة نصرانية، بل كانت بيئة وثنية فى مكة ويهودية فى المدينة، ولو ظهر الإسلام فى بيئة نصرانية كنجران أو الحيرة للقى من النصارى ما لقى من مشركى مكة ويهود المدينة».

سادسا: «القرآن حين يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى إنما يتحدث عن العرب وعن نحل ديانات ألفها العرب، فهو يبطل ما يبطل، ويؤيد ما يؤيد، وهو يلقى من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من السلطان على نفوس الناس، فلم يكن شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة له نصيب من هذا الصراع وهذه المجادلة، ولم يكن متجاوبا معها، بل كان يظهر لنا حياة غامضة جافة خالية من الشعور الدينى والعاطفة الدينية المتسلطة والمسيرة على الحياة العملية، وكان هذا الصراع بين الإسلام وغيره على قمته وهذا يدعو للعجب»، العميد ظن، فيما أرى، أن تعامل الإسلام مع الأديان التى واجهها تعامل جغرافى خاص بالعرب فى مكان محدد، مرهون بالكتلة الرافضة ومصالحها، فليس للإسلام موقف مع الصابئة وكان دينا قائما مسالما لا صده ولا وافق عليه، وفى هذا أمر محير.

نستكمل الأسبوع القادم والمتابعة.

adelnoman52@yahoo.com

ملخص للمقال السابق: (العميد يرى ألا نقبل شيئا مما قاله القدماء إلا بعد بحث وتثبيت، وأن ما نسميه شعرا جاهليا ليس من الجاهلية فى شىء، فهو منتحل ومختلق، وهو إسلامى يمثل حياة المسلمين، وقد استدل العميد على هذا بما جاءنا به، فلم يكن للشعر نصيب من الشعور الدينى أو العاطفة الدينية فى زمانه، وكان الصراع بين الإسلام والديانات الأخرى قائما، ولم يكن لهذا الصراع نصيب فى أشعارهم، وهو أمر عجيب أن يعجز الشعر الجاهلى كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين) ونستكمل. سابعا: «أفتظن أن قريشا كانت تكيد لأبنائها وتضطهدهم، وتُذيقهم ألوان العذاب، ثم تُخرجهم من ديارهم، ثم تنصب لهم الحرب، لو لم يكن لها من الدين ما يمثله هذا الشعر الذى يُضاف إلى الجاهليين؟»، فلم يكن لهذا الحدث على سعته واتساعه نصيب فى أشعارهم من قريب أو بعيد. ثامنا: أليس القرآن قد وصف الذين كانوا يجادلون النبى بقوة الجدال، والقدرة على الخصام، والشدة على المحاورة؟، أفتظن قوما يجادلون جدالا يصفه القرآن بالقوة والشدة، ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة، ولم يكونوا كذلك، بحيث أن يتغافل الشعر عن نقل هذه المحاورة والمجادلة، وهم كانوا أصحاب علم وذكاء وأصحاب عاطفة رقيقة، ورغد ونعمة من العيش، فما منعهم من هذا؟. تاسعا: «القرآن يقسم العرب فريقين، فريق الأغنياء وفريق الفقراء، وقد وقف الإسلام مع الفقراء، على سبيل المثال، حين حرم الربا وسلك لهم مسلك الرفق، وحين أمر الأغنياء بالصدقات للفقراء، وشرع الزكاة لسد حاجة الفقراء، أتظن أن القرآن سلك هذا المسلك لو لم تكن حياة العرب الاقتصادية بها من الفساد ما دعاه إلى ذلك، فأين نجد فى هذا الشعر الجاهلى ما يصور لنا نضالا ما بين الأغنياء والفقراء»، فلم يكن لهذا الصراع الاجتماعى، وهو على سطح الأحداث، ومؤثر فيها وفى غيرها، نصيب من النقل أو صدى لدى الشعراء. عاشرا: «من العجيب، لا نكاد نجد فى الشعر الجاهلى ذكرا للبحر، وقد جاء فى القرآن أن الله يمن على العرب بأن سخر لهم البحر ولهم فيه منافع كثيرة، الجوارى المنشآت كالأعلام، والصيد الذى يستخرجون منه لحما طريا، واستخراج اللؤلؤ والمرجان، وكانت كلها من مصادر الثروة، وهذا دليل على أن العرب لم يجهلوا هذا، بل كانوا يعرفونه حق المعرفة، وكانت حياتهم تتأثر به تأثرا قويا، وإلا ما عرض القرآن أمرا غريبا عليهم، وأقام به الحجة عليهم، إن كانوا قد جهلوه ولم يكن فى حياتهم وتحت معيشتهم، فأين نجد هذا أو شيئا من هذا فى الشعر الجاهلى؟. أحد عشر: هذا الشعر الجاهلى لا يمثل اللغة الجاهلية فى أوانها، فهو لا يمثل الحياة الدينية والعقلية السياسية والاقتصادية للعرب الجاهليين، فهو بعيد عن اللغة العربية فى الجاهلية، فماذا كانت اللغة فى هذا العصر الجاهلى؟. اتفق الرواة أن العرب ينقسمون إلى قسمين، الأول: قحطانية، وكانوا يسكنون اليمن جنوبا، فهم «العرب العاربة»، والثانى: وهم العدنانية، وكانوا يسكنون الحجاز شمالا، وكانوا يتكلمون لغات أخرى، منها العبرانية، وتعلموا اللغة العربية، وهم «العرب المستعربة»، ونسبهم يتصل بإسماعيل بن إبراهيم، وهو أول مَن تكلم بالعربية، ونسى لغة أبيه إبراهيم، على أنه كان هناك خلاف جوهرى بين لغة العرب العاربة ولغة العرب المستعربة، وأيضا فى قواعد النحو والتصريف، وهذا ما قاله أبوعمرو بن علاء: (ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا)، فإذا كان أبناء إسماعيل قد تعلموا العربية من العاربة، فلماذا هذا التباين الواضح بينها وبين اللغة المستعربة؟. اثنى عشر: وقد كان القدماء لا يفرقون بين هذه البلاد فى التسمية، فكان أهل الجنوب عربا وأهل الشمال عربا، ولم يكتفوا بعربية اليمنيين والحجازيين والنجديين (العاربة والمستعربة)، لكنهم يريدون أن يكون النبط عربا والبابليون الأُوَل عربا، وهم يمدون لفظ العرب إلى كل هؤلاء، وتتسع اللغة العربية وتضيق بمقدار ما يتسع الجنس العربى، والواقع أننا لا نعرف الصلة بين اللغة العربية التى نفهمها ولغات هذه الأمم، فكل هذه اللغات سامية تتشابه مرة وتضعف أخرى، فاللغات العبرانية والفينيقية والكلدانية والآرامية كلها لغات سامية، وبينها وبين اللغة العربية من التشابه، فهم يضعون لفظ «عربى» موضع لفظ «السامى»، ولا يمنعنا هذا أن نقرر أن هذه اللغات العربية مختلفة ومتباينة فيما بينها، ولكل منها خصائصها ومميزاتها، وأن واحدة منها تعنينا، وهى اللغة العربية الفصحى، التى نجدها فى القرآن. ثالث عشر: ولما كان العرب متفقين على أنهم منقسمون إلى بائدة وباقية، والبائدة هم عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق، والباقية هم العاربة قحطان والمستعربة عدنان، فنحن لا نعرف عن «عاد وثمود» إلا ما أخبرنا به القرآن، ونحن نجهل لغتهما تماما، ولا نستطيع أن نقرر فى أمرهما شيئا، ونحن لا نعرف طسما ولا جديسا ولا العماليق، ولا نعرف من لغاتهم قليلا أو كثيرا، ولقد سبقنا الأولون من علماء المسلمين إلى رفض ما رُوى عن عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق من شعر ونثر، فلم تكن بلغتهم. كل هذه الأمم والقبائل ولغاتها لا تصلح موضوعا للبحث، لكن الأمر فى قحطان وعدنان، فهما شعبان عرفهما التاريخ.. (الخميس القادم). adelnoman52@yahoo.com "المصري اليوم" القاهرية

  كتب بتأريخ :  الخميس 16-11-2017     عدد القراء :  2556       عدد التعليقات : 0