الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
توزيع أراضٍ..

يضيع العراقيون الأكفاء المخلصون اليوم بين شريحتين رئيسيتين من الأشخاص ممن يتعلقون بوهم الإعتقاد بنمطي فكرين يتبنيانهما: هؤلاء المتغطرسون المدعون بالعقلية الأرستقراطية ممن ينظرون بتعالٍ وعجرفة إلى الفقراء والكادحين المسحوقين الذين يقدرون بـ 30% من الحجم الكلي للسكان في العراق إذا ما أخذنا معدلات الفقر الرسمية بالإعتبار. وأولئك الجهلة المتحدرون من أصول فقيرة وكادحة أصلاً ولكنّهم قفزوا على المنصب والوظيفة فكان أنْ تنمروا وتبجحوا ناسين أو متناسين أصولهم الطبقية مما لا يعابون عليه بقدر ما يعابون فيه على نمط تفكيرهم والتعبير عنه بصوت عالٍ متجاهلين نظرائهم والأقران من مواطنيهم.

تظهر مثل هذه الإصطفافات الشرائحية في أوقات التغير وعدم الإستقرار الاجتماعي والسياسي ليحاول كل منها أنْ يجد لنفسه أو جماعته موطئ قدم. فدعاة الشريحة الأولى يتمنطقون حول إشكالات المجتمع بنمط تفكير صار عتيقاً ومتخلفاً وغير ذي صلة بواقع الحال الذي يغلي على نحو متصاعد. يفكر هؤلاء وفق قاعدة "دع الفقراء لشأنهم"، بمعنى لا توقظهم من خلال تحسين أوضاعهم. دعهم ينامون ويكسلون ولا يتعلمون شيئاً وإلا فإنّهم سيزعجونك كثيراً. وجهة نظر تقليدية محافظة تبني على تصور أنّ الفقر إيجابي ومهم وإلا من ذا الذي سيوقظ المشاعر الطيبة ويعطي فرصة للناس لممارسة العطف من فوق والتصدق على الأفقر والتبرع للأدنى ومد يد العون للأقل حظوة! يتكلم هؤلاء في سياق المدرسة والعائلة وما ينبغي أنْ يعوّد عليه الأولاد والبنات من قيم نبيلة وعالية متناسين أنّ هؤلاء لا يمتلكون ما يؤهلهم للذهاب إلى المدرسة وإنْ فعلوا فسيخرجون قبل غيرهم ليلحقوا بقاطرة التسول أو بيع السلع الرخيصة بحثاً عن لقمة العيش بأبخس الأثمان. سيجد أمثال هؤلاء أنفسهم بعد حين يقفون على قارعة الطريق بلا عون أو نصير يطالبون بالعمل فلا يجدونه ويسعون إليه ولكنّه يهرب منهم، لأنّهم ببساطة لا يملكون ما يؤهلهم إليه ابتداءً من شهادة تشهد على مهارة يتمتعون بها أو كفاءة من نوع ما يحظون بها. يتوهم "سليلو الأباطرة والملوك" بدافع من إسم عائلة أو شخصية فردية برزت فيها ويفكرون بطريقة معتلة ويغلقون الباب على أنفسهم حتى يجدوا أنفسهم مثل قطعة أثاث عتيقة يعلوها الغبار. ينضم إليهم الطارئون والباحثون عن وهم التميز لينفخوا في قربتهم ليتمشدقوا بما لم يستمتعوا به أصلاً.

ينكر هؤلاء كل المفهومات والأفكار الإنسانية التي تطلّب نضجها سنوات من العمل والتضحية ليدحضوا فكرة أنْ يكون الإقطاع ظهر في العراق أو أنّ اليسار العراقي قاد الشارع لإستجابته لمطاليبه وتبنيه همومه. ويستطرد هؤلاء بالتعبير عن آراء متضاربة حول أسباب العنف أو الفقر في العراق متصورين أنّهم يفهمون ولكنّهم سرعان ما يتراجعون عنها فور التعبير عن إعتراض أو نقد أولي من نوع ما.

أما الشريحة الأخرى فهي من نمط المنكر لما كان عليه. لا يجد هؤلاء ما يسعفون به مخيلتهم إلا بأنْ يستحثوا تجربتهم ومعرفتهم القاصرة ليقترحوا حلاً أو تصوراً من نوع ما. عندما يواجه أمثال هؤلاء بسؤال حول ما يعنيه مفهوم "الإسلام السياسي" بالنسبة إليهم فإنّهم يتوترون ليخبطوها خبطة جيدة بمقولة من نوع "السياسة لنا دين والدين لنا سياسة". منطق ميكافيلي بإمتياز يتلاوى مع سؤال الحكم والحرية والمسؤولية الوطنية بالطريقة التي تخدم فكرة "الغاية تبرر الوسيلة". فلا شيئ أكثر أهمية من الإستحواذ على السلطة لأنّها البوابة للإنتفاع والإستفادة على الضد من كل المساعي الخيّرة لتغيير واقع الحال والنهوض بشرائح سكانية تقضي حياتها بالعوز والفاقة وإنعدام الحلم.

عندما يسود الإعتقاد في أنّ الديموقراطية مجموعة من الآليات التي يمكن أنْ يعمل بموجبها أي تنظيم سياسي دون تحويلها إلى أداة للتغيير والتطور الحقيقي والمحسوب لتحرير الجماعة والإنسان فإنّها تخفض إلى مستوى الأداء الميكانيكي المجرد من الروح والمعنى. وهذا ما يحدث اليوم في العراق. تعقد الاجتماعات وتلتئم اللجان للتوافق على ما يملى من قبل البعض الحاكم من رؤساء كتل وجماعات على قواعد ليس لديها ما تقوله أو تحاجج به. يفترض بالمنتدبين لقيادة وتصريف شؤون أمة وشعب أنْ يتحلوا بنظرة فكرية واضحة تقدم أجوبة لقضايا مهمة. مواجهة التظاهرات المحتملة للشباب العاطل عن العمل والخريجين من ذوي التحصيل الجامعي والنساء المعنفات والأطفال المشردين والمتسولين وإنهيار مستوى ونوعية الخدمات التعليمية والصحية من الأمور التي يفترض أنْ تحضر في مخ النائب والمسؤول وفق تصور ستراتيجي لمعالجتها. لا يمكن لمن يفكر وفق منطق الأنا الضيقة والإسم العائلي أو الشعبوية المغرقة بالجهل والمهتمة بتعبئة المؤيدين والأنصار أنْ يحقق نقلة في مستوى الأداء على أي صعيد من الأصعدة.

خذ على سبيل المثال أنّ بياناً صدر عن السيد رئيس الوزراء السابق الدكتور حيدر العبادي في الثامن من حزيران 2016 بشأن مشروع توزيع قطع أراضٍ سكنية على المواطنين نشر في موقع شفق نيوز الألكتروني حددت فيه ضوابط تخصيص قطع الأراضي هذه. يظهر من خلال الإطلاع على نظام النقاط التي أعلن عنها في ذلك البيان أنّ المشروع صمم بطريقة تعمل على تعزيز واقع التفاوت الطبقي بين المواطنين متغاضياً عن حقيقة أنّ الحياة الكريمة تتطلب مستلزمات أساسية توزع بالتساوي على الجميع أو على الأقل لا تقترح ضوابط تمييزية فيها. فقد أهمل مشروع توزيع قطع الأراضي السكنية المواطنين المستهدفين عمداً. قدم المشروع المحتاجين إلى قطع الأراضي السكنية المفترضة على غيرهم وهم المواطنون المشمولون بنظام الرعاية الاجتماعية مؤكداً الإعتراف بأنّهم الأكثر فقراً وبالتالي الأكثر استحقاقاً لها. بيد أنّه خص القادة في الجيش بنقاط تعطيهم الأفضلية على ضباطهم وأعطى هؤلاء نقاطاً يتقدمون فيها على مراتبهم من جنود وشرطة رغم أنّهم الأحوج إليها والأقل قدرة مادياً للحصول عليها. ومضى البيان ليخص الوزير بتسع نقاط تسجل لصالح أنْ يفضل على من يليه من وكلاء الوزير ومن هم بدرجته الوظيفية ممن أعطوا سبع نقاط فيما أعطي المدراء العامين ومن هم بدرجتهم الوظيفية خمس نقاط، وخذ على هذا. وكذلك الحال فيما يتعلق بالدراسات العليا حيث منح حملة شهادة الدكتوراه ست نقاط وأربعة لحملة شهادة الماجستير وثلاثة لحملة الشهادة الجامعية (البكالوريوس)، نزولاً إلى حملة الشهادة الإعدادية ممن أعطوا نقطة واحدة فقط. فات مصصموا النظام أنّ الغالبية العظمى من الفقراء لا يشقون طريقهم بسهولة على مستوى الإنجاز التعليمي. مات المشروع المشار إليه ونسي البيان الإعلامي الخاص به منذ ذلك الحين.

اليوم، يتسم قرار رئاسة مجلس الوزراء الحالي الذي أعلن عنه السيد عادل عبد المهدي في الثاني عشر من آذار الجاري بضبابية أكثر كثافة بقدر تعلق الأمر بمسألة المساواة ووضع معالجات جدية للتفاوت الطبقي الآخذ في الإتساع بين المواطنين. جاء في القرار أنّه "يمنح" قطع أراضي سكنية بمساحة (200) متر مربع للمشمولين بالرعاية الاجتماعية شريطة أنْ يدفعوا مبلغ (250) دينار عراقي للمتر المربع الواحد. ونصت النقطة التالية على "بيع" قطع أراضٍ سكنية بمساحة (300) متر مربع مقابل دفع مبلغ (250) دينار عراقي للمتر المربع الواحد ومبلغ خدمات حدد بـ (75) ألف دينار عراقي. وكذلك الحال بمن يروم شراء قطعة أرض سكنية بمساحة (400) متر مربع مع مبلغ خدمات حدد بـ (150) ألف دينار عراقي. يظهر واضحاً إنّ هذا مشروع بيع أراضي وليس "توزيع"، ولعل الأشد وطأة فيه أنّه صمم لعزل فئات معينة من المواطنين في مناطق معينة سيتعرضون فيها على الفور إلى الوصمة الاجتماعية بالفقر والحاجة وهو ما لا يسر أحداً فيهم وبخاصة أبناءهم من الشباب. يعزز هذا المنحى بفكرة أنْ تقوم وزارة الإعمار والإسكان والبلديات والأشغال العامة ببناء (33) ألف وحدة سكنية واطئة الكلفة تكلف كل واحدة منها مبلغ (30) مليون دينار عراقي وتوزع على شكل دفعات منها (8000) في كل من محافظتي بغداد والبصرة و(4000) لمحافظة نينوى و(1000) لكل من المحافظات المتبقية ما عدا محافظات أقليم كردستان العراق.

لا يخفى على أحد أنّ المجتمع العراقي بحاجة إلى إدارة حكومية تتخلى عن نظرتها الطبقية التي تضع المواطنين في مراتب موصفة ولن يكون ممكناً القيام بذلك إلا عندما تؤخذ نتائج ملاحظات علمية من هذا النوع بالإعتبار. فالعراقي ليس بحاجة إلى أنْ يشعر بأنّه أقل من غيره من المواطنين وهو يعيش ويطلع ويتفاعل في زخم المعرفة التي يدرك من خلالها واقع الحال ومقدار التباين في توزيع الثروات الوطنية. لم يفت الأوان بعد لإعادة النظر بالمسلمات الفكرية التي يقوم عليها مشروع توزيع الأراضي المعلن عنه وبالسرعة والفعالية التي تؤدي إلى إنضاج مشاريع تنموية تنهض بالإنسان والمواطن لا أنْ تؤدي إلى صنع ذوات متذمرة ومحبطة وغير منتجة.

  كتب بتأريخ :  الأحد 17-03-2019     عدد القراء :  1806       عدد التعليقات : 0