الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
\"العبّارة\"...

يثير مشهد إنقلاب "عبّارة الموصل الروع في نفوس كل من شاهده وإنْ أعيد مراراً وتكراراً. فهو يظهر كما لو أنّ العبّارة لفظت كل من اعتلى كتفيها من النساء والأطفال والشباب تماماً كما تلفظ النواة في مياه النهر. لم تكتف العبّارة بذلك، بل أطبقت ببنيتها الحديدية على من سقط منهم لتعيق احتمالات خروج غالبيتهم من تحتها لإنقاذ أنفسهم على الأقل، خاصة وأنّها لا تزال على مقربة من ضفة النهر لم تقلع بعيداً عنه. هكذا تموت إذن وجبة جديدة من العراقيين بلغ تعدادهم حتى اللحظة وبحسب مصادر رسمية (230) ضحية وهو رقم مرشح للزيادة لا النقصان، فيما تمّ إنقاذ ما يقدر بـ (55) فرداً.

اختارت فاجعة العبّارة في الموصل أول أيام فصل الربيع في المدينة التي حملت اسمه "أم الربيعين"، وتزامنت مع الإحتفال بأعياد نوروز في إقليم كردستان وعيد الأم. لم ينقض عصر الخميس الماضي الموافق الحادي والعشرين من آذار الجاري حتى تناقلت وكالات الأنباء خبر الفاجعة. فاجعة أودت بحياة أشخاص جلّهم من النساء والأطفال حدث أنْ خرجوا يبحثون عن بارقة أمل لممارسة الفرح وطي صفحة العنف والإرهاب. بيد أنّ سوء الإدارة والفساد على مستوى المسؤول المباشر إبتداءاً من مالك العبارة ومالك الجزيرة السياحية إلى مجلس محافظة الموصل والمحافظ وصولاً إلى الوزير المعني أبت إلا أنْ تعود بهم القهقرى إلى سفوح الخوف والتوجس والخراب المديد. لم يكن هؤلاء الضحايا يحلمون بأكثر من يوم سعيد ونزهة بريئة مصطحبين فيها أعز ما يملكون، أبناءهم، مقبلين بشغف على حياة أحالتهم إلى مؤسسة سياسية مرتبكة ومنقسمة والأشد قسوة، أنّها غير مسؤولة.

سرعان ما سلطت الفاجعة الضوء على جوانب تقصير إداري يندى لها الجبين حقاً ابتداءاً من الفشل في تحديد عدد الركاب والتعرف على الضحايا ومروراً ببطء بل وإنهيار الحد الأدنى من الخدمات اللازمة لتقديم المعونة والمساهمة في عمليات الإنقاذ. فقد تبين أنّ العبّارات في العراق لا تعمل وفق نظام التسجيل الرسمي لقطع بطاقات الصعود إليها واستخدامها كما يجري العمل به في دول شرقية مجاورة مثل تركيا ودول أوروبية كثيرة تستخدم سواقيها لتوفر لزوارها ومواطنيها فرصاً للمتعة والترفيه.

حادثة استدعت حضوراً رسمياً على أعلى المستويات من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس رئاسة الوزراء ورئيس مجلس النواب إلا إنّهم جميعاً أستقبلوا أستقبالاً سيئاً لا لشئ إلا لأن المواطن الموصلي ولجسامة الحدث لبس ثوب أنْ يكون ممثلاً عن كل العراقيين للتعبير عن السخط والنقمة والإحباط. شمل سوء الإستقبال هذا شخصية دينية معروفة هو السيد عبد اللطيف الهميم الذي تعرض للطرد من منبر الجمعة. رسالة غضب يبدو أنّها لم تفهم بعد بمعانيها الواضحة وغير المستترة. لا تبعث الشعوب برسائلها في ظل الظروف الإعتيادية والروتينية ولكنّها تبعثها في ظل ظروف قاهرة من هذا النوع مما يتطلب الإستماع إليها وإدراك غاياتها.

هذه ليست الحادثة الوحيدة أو النادرة التي تأخذ مكانها لتثير مشاعر خيبة الأمل واليأس والقنوط. يذكر أنّه قبل أسبوع واحد فقط اشرأبت أعناق الجمهور الرياضي في العراق صوب ملعب الشعب الدولي في بغداد لمتابعة مباراة القمة على الصعيد الوطني بين الزوراء والقوة الجوية في تمام الساعة الخامسة من مساء الخامس عشر من آذار الجاري. بيد أنّ هذه الأعناق سرعان ما التوت واستدارت وبخاصة بعد مغادرة أعضاء الفريقين أرض الملعب بسبب السماح لأعداد إضافية من الجمهور الرياضي الدخول إلى الملعب وأخذ أماكنهم على مقربة من ساحته مما أظهر بوضوح استحالة تحقيق لقاء القمة وضمان سير اللعبة والمحافظة على أمن اللاعبين. تفرق الجمهور جزعاً بعد الإعلان عن تأجيل اللقاء إلى إشعار آخر فيما سجل العالم نقطة جديدة بحق الملاعب العراقية التي لا تدار بطريقة علمية وسليمة.

أخذت هاتان الحادثتان مكانهما في شهر واحد لتذكرا بسلسلة حوادث مماثلة حدثت قبل هذا التاريخ كما في احتراق أكثر من (300) عراقي في الأيام الأخيرة من شهر رمضان عام 2016 في الكرادة. وقبلها تدافع الزوار في جسر الأئمة الذي أودى بحياة أكثر من ألف عراقي. حوادث مأساوية تلاحقت مع بعضها البعض لتشكل نمطاً ممتداً في سلسلة متطاولة لعل القاسم المشترك فيها أنّها كشفت عن مقدار سوء إدارة القائمين المباشرين عليها وجشعهم وعدم اهتمامهم وبالتالي عدم تحملهم مسؤولياتهم التنظيمية والأخلاقية على السواء. كما سلطت هذه الحوادث الضوء على مدى استشراء الفساد المالي والإداري في البلاد الذي بلغ حد أنْ صار يمارس بلا خوف أو خجل من مشرف أو رقيب ليتجسد بصيغة إنهيار بيّن في مستوى الخدمات وإجراءات السلامة اللازمة وعدم توفر ضوابط أولية لدرء المخاطر أو على الأقل التقليل منها. أثارت سلسلة الحوادث المفجعة هذه عطف العالم وتضامنه وساهمت بإرسال حزمة من برقيات التعزية والمواساة من رؤساء وقادة عدد مختلف من بلدان العالم ولكنّها كشفت في الوقت نفسه عن مقدار إنقطاع الصلة بين السياسي والاجتماعي في العراق. فقد أظهرت فاجعة العبّارة مدى انشغال المؤسسة السياسية بترتيب أوضاعها ولهوها عن المجتمع، تاركة إياه ليخوض نزالاته في الحياة ومعها وحيداً وبلا سند. مؤسسة تهتم بالشكليات وتحرير البيانات والدعوة لعقد الاجتماعات غير المثمرة وإقامة مجالس العزاء في القاعات المغلقة بعيداً عن أصحاب المصاب لتقول بالنهاية أنّها تتقن مهنة واحدة لا غير عنوانها إعادة إنتاج الفشل. كان من الطبيعي لمستوى الأداء هذا أنْ يساهم في ترك جمهور المواطنين نهباً لإبتزاز وجشع القائمين على تقديم خدمات بسيطة مدفوعة الأجر. فلو تحمل المسؤولون واجباتهم ولو أدوا مهماتهم لما حصلت كل هذه الأحداث بهذا التسارع المخيف.

الغريب أنّ المؤسسة السياسية والمشتغلين فيها بدو الأقل إدراكاً للرسالة التي حملتها الجماهير من خلال استقبالها الغاضب والعنيف لعدد من المسؤولين الرسميين. فقد اجتمعت الرئاسات الثلاث لتعلن عن اتخاذها قرارات مهمة لعل من بينها تقديم معونات مادية لذوي الضحايا. كما أعلن عن إلقاء القبض على تسعة عمال في الجزيرة السياحية ممن يمثلون الحلقة الأدنى في تسلسل تحمل المسؤولية وإصدار مذكرة قبض بحق مالك العبّارة ومالك الجزيرة السياحية. وهذه طريقة دأبت الحكومات العراقية المتعاقبة على اتباعها متجاهلة إنّها واحدة من أسوأ طرق العلاج وانّها مكلفة وغير مجزية ولا تضع أسساً للإرتفاع بمستوى نوعية الأداء في قادم المناسبات. ستبقى حوادث من هذا النوع تهدّد مختلف الجماعات ما لم يصار إلى تبني سياسات إشراف ومراقبة دقيقة وفي مختلف المجالات. فهل يأمن المواطن العراقي على نفسه من احتمال الإصابة بالتسمم الغذائي إذا ما تركت هذه الأعداد الكبيرة من المطاعم لتعمل على هواها بلا متابعة وفحص وتدقيق. وهل يستبعد أنْ تحدث حوادث مشابهة في كورنيش البصرة أو بغداد في ظل تباطؤ يقرب من العجز عن قيام وزارة الموارد المائية بكري الأنهار وتعميق مجرى النهر وإزالة النباتات الضارة فيه التي تنافس الإنسان على ما يجري فيه من مياه. وهل يطمئن الطلبة للحصول على درجات تتطابق مع مستوى أدائهم دون أنْ تثبط عزائمهم من خلال توقع أنْ تسرق منهم بطرق شتى نتيجة التلاعب بالدفاتر الإمتحانية وتسريب الأسئلة وغيرها. هذه أمور تتعلق بالمصالح اليومية المباشرة للمواطنين التي لم يعد من السهل تبريرها من خلال مفهومات القدر والمحتم والنصيب.

من جانب آخر فيما عبر خطيب المرجعية الدينية السيد أحمد الصافي عن التعازي لذوي الضحايا ومطالبته المسؤولين المباشرين تقديم استقالاتهم الفورية والإمتثال للسلطة القضائية فقد اختارت بعض القنوات الإعلامية ومنها "العراقية" أنْ تكتفي بالتأكيد على التعزية والقيام بالتحقيق في ملابسات الحادث تاركة أمر "تقديم الإستقالة" جانباً وخاصة في تغطيتها الإخبارية الرئيسة. هذه عينة أخرى على مستوى الأداء المخيب للآمال. لا مكان لإعلام مجامل يعرف الحقيقة ويغض النظر عنها ويجهد لبلورة المبررات وإلقاء المسؤولية على هذا وذاك. يتمرد العالم اليوم على مؤسسات سياسية عاجزة وليس بعيداً على العراق أنْ يفعل ذلك.

  كتب بتأريخ :  الأحد 24-03-2019     عدد القراء :  1953       عدد التعليقات : 0